مقالات رأى

مطامع أجنبية بشعارات إنسانية

  • 23-11-2011

طباعة

ينسب إلى مكيافيللي قول شهير مفاده أن “النوايا الحسنة غالباً ما تولد أفكاراً سيئة”، وهو قول ينطبق على بعض رجال الدين الذين يديرون مياتم للأطفال أو جمعيات خيرية، فإذا بالبعض منهم يتهم بالتحرش الجنسي باليتامى كما وقع تكراراً في دول أوروبية مختلفة . هكذا تتولد من النيّة الحسنة في رعاية يتيم أو إعانة محتاج فكرة سيئة عبر التحرش الجنسي به، ومع ذلك ليست المخاطر الناجمة عن مثل هذا الاعتداء الأخلاقي كبيرة وشاملة، خصوصاً أن إصلاح الضرر في مثل هذه الحالات متاح عبر العدالة الجنائية التي تعاقب المرتكب ما يؤدي بالضرورة إلى ردع المرتكبين المحتملين مستقبلاً .

بيد أن الخطر يصبح عظيماً ويتعذر إصلاحه إذا ما ارتكبته دولة أو مجموعة من الدول الكبرى عبر استخدام الأفكار الإنسانية والنوايا  السياسية الحسنة في تبرير أعمال وحشية وحروب استباقية ومطامع اقتصادية، كما تشير وقائع عديدة قديمة وحديثة . فقد اجتاح نابليون بونابرت مصر في أواخر القرن الثامن عشر بحجة “تحريرها” من الدولة المملوكية  لكنه في واقع الأمر كان يريد تأسيس مستعمرة فرنسية على الخط الاستراتيجي لإمبراطورية الهند الشرقية البريطانية . وأدت تلك الحملة إلى سقوط عشرات الألوف من الضحايا المصريين وحرق قرى ومناطق زراعية في الصعيد المصري وتخريب العمران في القاهرة ناهيك عن انتهاك حرمة الجامع الأزهر بالخيول وتخريب محتوياته ومنع الصلاة فيه لبعض الوقت . ويدعي الرئيس الصهيوني شمعون بيريز أن الصهاينة جاءوا الى فلسطين يحملون الدواء والطبابة والتحديث إلى العالم العربي، وأنهم كانوا يظنون أن العرب سوف يرحبون بهم، والنتيجة كما يعرف هو ويعرف الجميع تمثلت بتشريد الفلسطينيين وارتكاب المجازر بحقهم وسرقة بلدهم واحتلال أراضيهم والحؤول من دون قيام دولتهم .

وفي العام 1994 تدخلت فرنسا في راوندا للحؤول دون الاقتتال العرقي بين اثنيتي التوتسي والهوتو فكان أن أبيد 800 ألف شخص أكثريتهم الساحقة من التوتسي الذين يتهمون فرنسا اليوم بأنها كانت شاهد زور على تلك المذابح الإثنية لأنها كانت تعتقد أن ذلك من شأنه أن يوقف الامتداد الأنجلوساكسوني إلى المناطق الفرنكوفونية، وأخيراً وليس آخراً قال جورج بوش الابن إنه احتل العراق من أجل تفكيك أسلحة دمار شامل عراقية تبين أنها غير موجودة وإنه عدل مهمة جيشه الذي احتل العراق فما عاد محتلاً بل  محررا للعراقيين من سلطة رئيسهم الراحل صدام حسين، وقد لاحظنا كيف تحولت فكرة “التحرير” النبيلة إلى كابوس انطوى على قتل مئات الألوف من العراقيين وتشريد أكثر من أربعة ملايين عراقي، وتهجير كل مسيحيي هذا البلد، وافتتاح سجن أبوغريب الذي شهد أبشع أنواع تعذيب العراقيين، بطريقة لم يتجرأ على اعتمادها النظام السابق . ويصر بوش الابن ومعاونوه على القول إن هذه المآسي العراقية لم تقع وإن وقعت، فالمسؤول عنها هم “الإرهابيون” أو “المتعصبون” أو ما شابه ذلك .

وعلى الرغم من التجارب المأساوية التي نجمت عن التدخل الأجنبي في شؤون دول وبلدان سيدة ومستقلة خلال القرنين الماضيين، فقد أجازت الأمم المتحدة التدخل في بعض الحالات لأسباب إنسانية، وهذه الإجازة تبدو مثيرة للاشمئزاز لأنها أشبه ب”إضفاء الشرعية” على “الاستعمار” لأسباب إنسانية . ذلك أن كل عمليات التدخل “الشرعية” أو نصف الشرعية التي وقعت خلال النصف الثاني من القرن العشرين والعقد الأول من الألفية الثالثة كانت تنطوي على رهانات ومطامع اقتصادية وجيواستراتيجية  أو الحفاظ على شروط التبعية التي تربط الدول الغربية ببعض الدول المتمردة في ما يعرف بالعالم الثالث .

إن  حديث السيطرة على النفط العراقي من خلال الحرب على العراق ما عاد يفاجئ أحداً، والحديث عن النفط الليبي من خلال الحملة الأطلسية الأخيرة لا يستدعي عناء البحث كما كان الحديث عن التدخل الأمريكي في بنما يتصل بالقناة أكثر من الديمقراطية والدكتاتورية، وهكذا دواليك بالنسبة للتدخل في راوندا للحفاظ على الخارطة الجيوسياسية الموروثة من عهد الاستعمار، أما التدخلات  الأجنبية المختلفة في لبنان التي كانت تتم تحت شعار حماية المسيحيين فقد أدت إلى تهجير قسم كبير ومهم من النخب المسيحية من هذا البلد .

نذكر بهذا الكلام في خضم الحديث عن حملة عسكرية أجنبية جديدة محتملة في المشرق العربي . . حملة يتم التمهيد لها بإجراءات إقليمية ودولية ومساع تعبوية ودعاوية تقليدية من نوع نشر الديمقراطية والتعددية وحرية التعبير واحترام حقوق الإنسان، وإن تمت هذه الحملة فإنها ستفضي إلى تحسين البيئة الأمنية الإقليمية للدولة الصهيونية، كما ستؤدي إلى الإطاحة بالجغرافية السياسية للمشرق العربي التي استقرت منذ اتفاقية سايكس  بيكو وحتى اليوم .

ما من شك في أن فضاء المشرق العربي يحتاج بقوة لأن يكون فضاء ديمقراطياً واسعاً وخالياً من الاستبداد والاستعباد وكم الأفواه والاعتداء على كرامات وحقوق الناس، ولعل الشرط الحاسم لذلك يكمن في إبعاد الأيدي الأجنبية عن هذه المنطقة التي عانت طويلاً من ثلاثية الفساد والاستبداد والمطامع الأجنبية .

-----------------------
* نقلا عن دار الخليج الأربعاء ,23/11/2011.

طباعة

    تعريف الكاتب