مقالات رأى

كي لا نفاجأ بـ "الجمهورية العربية السورية - التركية"

طباعة

في حال بقي العناد سيد الموقف والتعامل مع الأزمة وكأنما هي سلعة بين بائع يريد تسويق بضاعته، وتاجر يتشاطر لكي يشتري بأفضل الأسعار، فإننا قد نفاجأ ذات يوم بقيام «الجمهورية العربية السورية - التركية» وعلى نحو مفاجأة سابقة حدثت ولا تزال مستمرة وهي «الجمهورية العراقية - الإيرانية - الأميركية». ونحن هنا لا نتوقف عند التسميات؛ وإنما الذي يعنينا أن العناد هو الذي يسبب هذا التبدل في الهوية السياسية والواقع. فلولا العناد البعثي العراقي الذي اتسمت به إدارة الرئيس صدام حسين في الأزمة، لما كانت الأمور تطورت ثم تفاقمت ووصلت إلى أن إرادة التغيير لم تعد قرارا عراقيا وإنما فعل أميركي ابتهج بحصوله الحكم الإيراني متجاوزا تسمياته ونظرته للولايات المتحدة بحيث بات «الشيطان الأكبر» من ملائكة الأرض وذلك عملا بمبدأ «عدو عدوي صديقي». وهكذا بات الحرام حلالا ونطق الحكم الإيراني قبولا بالغزوة البوشية للعراق، وفي الوقت نفسه كان يرسم خارطة طريقه للتوغل في العراق وبحيث ما إن ينصرف الإنجليز يليهم الأميركان، يمسك الحكم الإيراني بزمام الأمور في العراق ويحقق ما كان يتطلع صدام حسين إليه عندما غزا الكويت، ذلك أن شأن العراق عندما كان مستلبا الكويت هو مثل شأن إيران مستلبة العراق. هذا من حيث الشأن النفطي؛ أما من حيث الشأن السياسي، فإن شأن الحكم السوري عندما كان مستلبا لبنان يصبح بأهمية أحد هذين الشأنين.

القول بأن صدام حسين سهل بالعناد وتغييب البعيدي النظر الذين إذا هو استشارهم وأخلصوا التحليل والرأي الواعي، مخطط انتهاء بلاد الرافدين «جمهورية عراقية - أميركية - إيرانية»، مع أن الإصغاء إلى تمنيات البعض من إخوانه القادة العرب كان كفيلا بتصحيح الخطأ وهو هنا اجتياح الكويت، فلا يصبح بسبب العناد خطيئة أفرزت خطايا وانتهت إلى كوارث، بحيث إن العراق، ليس فقط، لم يعد رقما صعبا في المعادلة العربية والإقليمية، وإنما ها هو الآن كيان كبير على أهبة أن يتناثر كيانات أو ربما «الولايات المتحدة العراقية» كحل وسط لتفادي استقلالية الكيانات.

الآن تتكرر ثقافة العناد بالنسبة إلى الموضوع السوري رغم أن الذين نصحوا كانوا من الحريصين على أن لا ينتهي أمر سوريا على النحو الذي انتهى إليه أمر العراق. فكما لا يستطيع الناصحون اعتبار الإقرار بأن تعامل النظام مع المعترضين عليه هو مسألة داخلية ومثل تعامل كبير الأسرة مع أفراد العائلة وليس من حق أحد أن يتدخل في شأن تأديب هذا الابن أو معاقبة تلك الابنة.. وخلاف ذلك، فإنه لا يجوز لهذا النظام عدم استحضار ما أصاب غيره، كما أنه لا رؤية واقعية لديه بالنسبة إلى أن اللذين يقودان التنبيه ثم التحذير هما من كان النظام يعول عليهما الكثير بل ويعتبرهما من أوراق الدعم الفاعل سياسيا وماليا لموقفه. ولكن هذين الصديقين الحليفين وجدا، كما غيرهما من قبل، أن النظام في سوريا يريد استعمالهما وبأن يصغيا إليه بدل أن يصغي إليهما.

وعندما تعود بنا الذاكرة إلى طبيعة العلاقات السورية - التركية، والعلاقات السورية - القطرية طوال ست سنوات مضت وكيف أنه خيل لنا لبعض التأمل أن محورا بالغ الأهمية يشق طريقه للتصدر تمهيدا لاختراق بالغ الخطورة في العمل العربي الإسلامي يكون موضع رعاية المجتمع الدولي بدءا بالإدارة الأميركية وصولا إلى الحكومات الأوروبية، ثم نتأمل في ما انتهت إليه العلاقة بين الرئيس بشار الأسد وكل من الرئيس رجب طيب أردوغان والشيخ حمد بن خليفة آل ثاني.. إنه عندما تعود بنا الذاكرة ونتأمل في الواقع المستجد، نفترض أن هناك من كان يضمر غير ما يقول أو يفعل. كما أننا في إطار الاستحضار نتوقف عند حقبة الازدهار النوعي للعلاقة السورية - التركية وكيف أنها نمت في النصف الثاني من عام 2003 كنمو بعض أنواع الخضراوات والفاكهة في البيوت البلاستيكية وبلغت القمة في النصف الأول من عام 2004 ثم توالت ازدهارا حتى قبل أن تبدأ انتفاضة 2011. ومن علامات هذا الازدهار أن الرئيس بشار طوى إلى غير رجعة الاستحضار من جديد ورقة الإسكندرون المسلوبة كأرض سورية شأنها، إلى حد ما، شأن الجولان كأرض سورية محتلة، وذلك بقيامه يوم الثلاثاء 5 يناير (كانون الثاني) 2004 بزيارة رسمية إلى تركيا الأردوغانية هي الأولى (حتى ذلك التاريخ) منذ استقلال سوريا قبل ستين سنة. وعندما تكون الزيارة رسمية وتسبقها اتفاقات وتشكيل لجان تشمل السياسة والاقتصاد والأمن ثم يحرص الرئيس السوري الزائر على إبلاغ إحدى الفضائيات التركية بأن سوريا ضد قيام دولة كردية في العراق وهو ما ترتاح له تركيا، فهذا معناه أن هناك نوعا من التسليم «شرعية» تركية للإسكندرون، وكل ذلك بأمل أن تحصل سوريا البشارية على حل متوازن على يد إسلامية تركية - أردوغانية مسنودة بيد خليجية قطرية؛ وكلتاهما موضع الدعم الأميركي، إلى جانب أن خطوطهما منذ ذاك سالكة مع إسرائيل وفي الوقت نفسه مع إيران وحركة حماس.

لكن الرياح جرت بما لا يتوقع أو لا يتمنى أو لا يتفهم الرئيس الظروف، وهكذا بات الحليف التركي يستعجل رحيل بشار الأسد، وبات الحليف القطري يجاريه في ذلك. وبدل أن يوظف الرئيس بشار هذا التحول في موقف الحليفين الصديقين لجهة الإقدام على خطوات نوعية تبقيه وتشكل حيثيات لتفكيك مراكز القوى في النظام، فإنه يواصل التحدي وبأسلوب المشتري المتشاطر في التعامل مع البائع المتحاذق، ومن دون أن يستوقف الرئيس بشار أن الإكثار من تأجيل الحسم معه وكذلك إضافة المزيد من الأسماء السياسية والعسكرية والأمنية في نظامه إلى لائحة المغضوب عليهم، معناهما في جانب من اللعبة أن بقاءك وارد إلى حين لكن من دون الحاشية العائلية والأمنية والسياسية. وعندما لا يتجاوب الرئيس بشار مع هذا التوجه، فإن ما قد يحصل هو أن الانقسام وارد والاقتتال أيضا وأن «الجمهورية العربية السورية - التركية» احتمال وارد هو الآخر. أليس هذا ما انتهى إليه أمر بلاد الرافدين التي باتت واقعيا «الجمهورية العربية العراقية - الإيرانية»؟.

---------------------------------------------------

* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية الأحد 11/12/2011.

طباعة

    تعريف الكاتب

    علي بن طلال الجهني

    علي بن طلال الجهني

    أكاديمي سعودي