تحليلات

التحولات التكنولوجية للحروب السيبرانية .. حلف شمال الأطلنطى نموذجا

طباعة

شكلت التطورات الهائلة فى مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، فى أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادى والعشرين، سياقات جديدة لنشوب صراعات حول ما بات يعرف بالنفوذ السيبرانى فى الفضاء الإلكترونى بوصفه ساحة واسعة للتفاعلات العالمية، وظهرت مفاهيم جديدة طوَّرها علماء فى مجال العلوم السياسية.

ويعد أستاذ العلاقات الدولية الشهير "جوزيف ناى" من أهم من تحدثوا عن القوة السيبرانية كشكل جديد للقوة، حيث يعرفها "ناى" بأنها القدرة على الحصول على النتائج المرجوة من خلال استخدام الفضاء السيبرانى لخلق مزايا، والتأثير فى الأحداث الجارية، وذلك عبر "أدوات إلكترونية"، فقد جعلت القوة السيبرانية بعض الفاعلين الأصغر فى الساحة العالمة لديهم قدرة أكبر على ممارسة القوة الصلبة والناعمة عبر الفضاء السيبرانى.

ومع بروز الفضاء الإلكترونى أو السيبرانى كساحة للصراع العالمى، واجهت المفاهيم التقليدية، مثل: الصراع، والأمن والقوة، والسيادة، تحديات واضحة، فضلا عن تكيفها مع طبيعة التفاعلات فى الواقع الافتراضى. لذا، برزت الحاجة إلى مداخل ورؤى نظرية أكثر قدرة على تفسير طبيعة المتغيرات التى ألحقتها الحقائق التكنولوجية بهذه المفاهيم.

وأحدث التطور تحولا كبيرا فى مفهوم القوة، ترتب عليه دخول المجتمع الدولى فى مرحلة جديدة، تؤدى فيها هجمات الفضاء الإلكترونى دورا أساسيا سواء فى تعظيم القوة أو الاستحواذ على عناصرها الأساسية، وأصبح التفوق فى مجال الفضاء الإلكترونى عنصرا حيويا فى تنفيذ عمليات ذات فاعلية فى الأرض وفى البحر والجو والفضاء، واعتماد القدرة القتالية فى الفضاء الإلكترونى على نظم التحكم والسيطرة.

ويقدم جوزيف ناى مصطلح "القوة الإلكترونية" لفهم الدور الذى يؤديه الإنترنت فى تشكيل قدرة الأطراف المؤثرة، والتى يعد أبرزها الأطراف الدولية الناشئة، مثل الولايات المتحدة التى كان لديها ما يشبه الاحتكار لمصادر القوة منذ نهاية الحرب الباردة، ولتظهر عملية انتقال القوة وانتشارها بين أطراف متعددة سواء أكانت دولا أو من غير الدول.

أعاد التطور التكنولوجى والمعلوماتى تشكيل مفهوم القوة، وأعد ظهور فواعل جديدة مثل (المنظمات، الجماعات،الأفراد)، وبات جليا أن من يمتلك آليات توظيف القوة السيبرانية يصبح أكثر قدرة على تحقيق أهدافه والتأثير فى أداء الفاعلين المستخدمين لهذه البيئة، فكان لثورة المعلومات والاتصالات انعكاساتها فى ربط المصالح القومية للدول بالبنية التحتية الحيوية لها.

ساعدت الثورة التكنولوجية على تغيير شكل الحرب وأدواتها وأثرت فى الفاعلين بها، وأسهمت فى إعادة التفكير فى حركية ودينامكية الصراع، وأدى ذلك إلى اختلاف درجات التهديد ومصادره وطبيعته، ما أدى إلى تحول المواجهة بين الجيوش إلى مواجهة بين الأمم، ما يعرف بتحويل الحرب إلى ظاهرة صناعية.

وهناك شكلان من أشكال الصراع فى عصر المعلومات هما حرب الشبكات، وحرب الفضاء الإلكترونى Cyber war & Net warويشيران إلى النمط الخاص بطبيعة الصراع، والتوجيه المعلوماتى الشامل للمعركة وتعد من الصراعات عالية الشدة high- intensity conflicts (hics)، أما حرب الشبكات Net warفتمثل نوعا من الصراعات منخفضة الحدة Low-intetensity conflict (LIC)، ولا يتكون الفضاء الإلكترونى فقط من شبكة من الاتصالات بل يتكون كذلك من المعلومات التى تنتقل من خلال الشبكة، وأهم ما يميز مجتمع المعلومات القيمة الاقتصادية والميدانية بالنسبة إلى الجهات العسكرية، وكلما زادت الفاعلية فى إدارة تلك المعلومات زادت الفائدة التى يمكن الحصول عليها، وأصبح تفوق المعلومات من القيم الأساسية للقوة العسكرية، وأصبحت المعلومات مجالا للسيطرة والتحكم.

ولم يعد مفهوم الأمن القومى متعلقا بذات الكيان المادى بل أصبح المفهوم الجديد يدور فى فلك الحفاظ على سلامة الدولة فى ظل تلك التطورات التكنولوجية، ومن ثم اختلفت آليات التعامل. وأصبح الصراع انعكاسا للمرحلة التاريخية التى يمر بها وبيئة وسياق الصراع فى ظل الموجة المعلوماتية التى يشهدها العالم، وظهر ذلك فى تغير طبيعة الصراع والقوة وممارستها وفى إحداث تغييرات داخل البيئة الأمنية للنظام الدولى.ما مكَّن الآليات التكنولوجية الحديثة على الجانب الآخرالمنظمات من التنسيق بفاعلية بين جهودها، وإحداث التفاعل السياسى والاجتماعى والسياسى فى إطار الآليات الإلكترونية.

جاءت ترتيبات الأمن الجماعى فى العالم الغربى بالتزامنمع معاهدة حلف شمال الأطلنطى "الناتو" الذى أنشأ فى 4 إبريل 1949 نتيجة اتفاق 12 دولة منها الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وفرنسا على إنشاء منظمة "سياسية-عسكرية" لمواجهة تهديد التوسع السوفيتى فى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، فضلا عن تكيفها بدرجة أو بأخرى مع التغيرات التى لحقت بالبيئة الأمنية فى أوروبا فى الفترة التى تلت تفكك الاتحاد السوفييتى وانتهاء الحرب الباردة. 

وقد اشتملت معاهدة الحلف على ديباجة وأربع عشرة مادة، وجاء فى ديباجة المعاهدة أن الدول الأطراف تجدد عهدها وثقتها بالمبادئ والأهداف التى تضمنها ميثاقالأمم المتحدة. وتؤكد رغبتها فى أن تحيا فى سلام إلى جانب الدول والحكومات وتراثها المشترك، وقيمها القائمة على مبادئ الديمقراطية والحرية الفريدة وحكم القانون، كما تؤكد أنها ستنسق جهودها بصورة جماعية للدفاع عن أمن وسلام منطقة شمال الأطلنطى.

إن الظروف الدولية التى أعقبت تأسيس الحلف سنة 1949 حتَّمت عليه أن ينهض ببعض الوظائف السياسية التى اتسعت أبعادها وزادت أهميتها بصورة مطردة،ويرتكز الحلف منذ نشأته على مبدأ الدفاع الجماعى Collective Defense. وتوضح المادتان 5 و6 على أنه"تلتزم الدول الأعضاء بمساعدة بعضها بعضا فى حالة وقوع أى هجوم مسلح على أى دولة من الأعضاء فى أوروبا أو فى أمريكا الشمالية"، وأوضحت المادة أن "باقى الدول تلتزم باستخدام كافة الأدوات بشكل فردى أو جماعى لمساعدة الدولة المعتدى عليها على استعادة الأمن فى منطقة شمال الأطلنطى والحفاظ عليه وإن تطلب ذلك استخدام الأداة العسكرية". 

توافقت الدول الأعضاء فى الحلف بشكل كبير على أهمية استمراره، وعلى قائمة من التهديدات التى يتعين على الحلف التعامل معها، وتشمل تهديدات تقليدية مثل إدارة سباق التسلح، وانتشار أسلحة الدمار الشامل والأسلحة النووية ومعدات نقلها، والعدوان العسكرى التقليدى، وتهديدات غير تقليدية تشمل الإرهاب والهجمات السيبرانية والحروب المهجنة وغيرها. 

وفى ضوء ذلك لم تعد وظيفة حلف الناتو تقتصر على التصدى للعدوان السوفيتى، التى كانت تعرف فى وثائق الحلف بوظيفة "الردع والدفاع"؛ بل أصبح الحلف يقوم بثلاث وظائف رئيسية، هى: الدفاع الجماعى الذى ينطوى فى مهمة الردع والدفاع، وإدارة ومنع الأزمات، والأمن التعاونى، وهو المعنى بتوطيد العلاقات بالدول الشريكة للحلف. 

الصراع السيبرانى بين الولايات المتحدة وروسيا:

تصاعدت التوترات بين روسيا والولايات المتحدة، على مدى السنوات القليلة الماضية، ليس من الناحية العسكرية التقليدية فقط، ولكن أيضا فى الفضاء السيبرانى. تجلى ذلك فى القمة التى عقدت بين الرئيسين، الروسى فلاديمير بوتين، والأمريكى جوبايدن، فى يونيو 2021 بجنيف، عندما هدد الأخير بالانتقام من الهجمات السيبرانية على أهداف أمريكية بزعم أنها مدعومة من جانب روسيا. وتحدث بايدن عن وضع معايير وإعلان بعض القطاعات الحيوية التى شملت قائمة بـ16 قطاعا لاستبعادها من الهجمات السيبرانية، بما فى ذلك المرافق الحكومية وأنظمة تكنولوجيا المعلومات والبنية التحتية للطاقة والأغذية والزراعة، ما أثار انتقاد بعض المراقبين بشأن ضعف استراتيجية الولايات المتحدة لحماية أمنها القومى من الهجمات السيبرانية الروسية.

الصراع الإلكترونى عبر الفضاء الإلكترونى:

ظهرت العلاقة بين الفضاء الإلكترونى والصراع بوصفها بعدا جديدا يتضمن كل شبكات الاتصالات ومصادر المعلومات التى يتم تبادلها عبر الفضاء الإلكترونى، واتجه الصراع الدولى حول الموارد والمصالح والقيم نحو الاعتماد على تكنولوجيا الاتصال والمعلومات فيما يعرف بصراع "عصر المعلومات"والتنافس فى ساحة الإنجازات ذات الطبيعة المادية وصراع آخر حول الأفكار والقيم.

ودفعت الأهمية المتصاعدة للفضاء الإلكترونى فى الاستحواذ على القوة إلى الصراع حول امتلاك مقدراتها وأدواتها من أجل العمل على الحماية والدفاع وتطوير القدرات الهجومية فى سبيل تعظيم القوة والتفوق والهيمنة بين الدول والفاعلين من غير الدول وتعزيز التنافس حول السيطرة والابتكار والتحكم فى المعلومات، وتعظيم القدرات القادرة على زيادة النفوذ والتأثير، ويتمدد الصراع الإلكترونى بداخل شبكات الاتصال والمعلومات متجاوزا الحدود التقليدية وسيادة الدول، ويؤثر ذلك فى امتداد مجاله وتداعياته أو آثاره. وأضافت عملية تعدد الاستخدام والفاعلين والمصالح لتنوع أشكال الصراع وأهدافه.

القوة كأداة دفاعية:

تطورت الإمكانات الدفاعية للدول فى الحقبة الأخيرة بفعل التطورات التكنولوجية والتحديث المستمر فى أساليب الحرب وفى مضمون الاستراتجيات العسكرية. وقد ترتب على ذلك أن تدعيم المقدرة الدفاعية للدول أصبح يتطلب احتفاظا بقوات أكبر وبترسانة متنوعة من الأسلحة التى تناسب جميع الاستخدامات العسكرية، وغير ذلك من أدوات الحرب الإلكترونية التى تستطيع أن توفر للدولة نظاما فعالاللتحذير ضد الهجوم ورصده وتعقب اتجاهاته وتضليله.

وفى الحقيقة، إن دعم المقدرة الدفاعية للدولة يدعم فى الوقت نفسه من قدرتها على الردع (Deterrent Capability) وهو ما قد يمكنها من إحباط الهجوم قبل أن يبدأ؛ لأن الردع يسبق الدفاع، وإخفاق الردع هو الذى يؤدى بالدولة التى يستهدفها الهجوم إلى الانتقال إلى المرحلة التالية وهى اللجوء إلى الدفاع عن كيانها ومصالحها وسيادتها الإقليمية فى مواجهة أعدائها.

وعلى الرغم من أن فكرة الردع لا تمثل مفهوما استراتيجيا جديدا؛ حيث إن هذا المفهوم قد ساد فى الماضى، فإن أهمية الردع كأسلوب لاستخدام القوة المسلحة للدولة قد زادت كثيرا فى الفترة الراهنة من جراء التطور المذهل فى تكنولوجيا الحرب.

الفضاء الإلكترونى كأداة فى الهجوم أو فى الدفاع:

تشمل العقيدة العسكرية الحالية هجمات الفضاء الإلكترونى والعديد من وسائل الحرب التقليدية فى إطار ما يمكن أن يطلق عليه "عمليات المعلومات (IO) التى تعرف بأنها "الأفعال التى يمكن استخدامها للتأثير على معلومات الخصم أو أنظمة المعلومات وذلك فى أثناء عملية الدفاع عن المعلومات وأنظمتها"، وتشمل عمليات المعلومات عمليات الأمن والعمليات النفسية والخداع العسكرى والحرب الإلكترونية والاعتداء الطبيعى التقليدى،بالإضافةإلى هجمات شبكات الكمبيوتر.

أما الدفاع فى الفضاء الإلكترونى فيعنى القدرة على الحماية ضد هجوم أو استغلاله من الخصم، وتأتى خطورة ذلك إمكانية استخدامه من قبل الجريمة المنظمة أو القراصنة أو الإرهاب بما يؤثر فى الاستقرار الاقتصادى والاجتماعى للدول التى تعتمد على الفضاء الإلكترونى فى البنية التحتية الكونية للمعلومات، ومن ثم يصبح من مصلحة كل الدول أن تتعاون من أجل ضمان أمن وسلامة الفضاء الإلكترونى.

تغير معنى وظيفة الردع والدفاع: 

منذ نشأة الحلف فى 1949 كانت وظيفة الردع والدفاع هى المهمة الأساسية له، ومع نهاية الحرب الباردة تغيرت أهمية هذه الوظيفة، وما تعنيه بالنسبة إلى أنشطة وعمليات الحلف؛ فمنذ 1991 أصبح الردع والدفاع إحدى الوظائف الثلاث للحلف وليس الوظيفة الوحيدة. وعلى ضوء الحرب الروسية-الأوكرانية 2022، أعاد الحلف تعريف وظيفة الردع والدفاع من حيث مسارات العمل الخاصة بها؛ حيث أصبحت ترتكز هذه الوظيفة بشكل رئيسى على القدرات النووية والتقليدية ونظم الدفاع الصاروخى التى يمتلكها الحلف إلى جانب القدرات السيبرانية وتلك القدرات ذات الصلة بالفضاء. إلى جانب ذلك أعلن الحلف كون الفضاء الإلكترونى منطقة عمليات عليه أن يكون قادرا على ممارسة الدفاع والردع فيها كما يمارسه فى الفضاء أو البحر أو البر. وأنشأ الحلف، اتساقا مع هذا التوجه، مركز عمليات الفضاء السيبرانى فى بروكسيل. 

وثيقة "المفهوم الاستراتيجى": 

تعد وثيقة "المفهوم الاستراتيجى" لحف الناتو هى الوثيقة المرجعية فى فهم ومعرفة التهديدات ذات الأولوية بالنسبة إلى الحلف؛حيث تتضمن هذه الوثيقة قسما خاصا بالتهديدات التى يتعين على الحلف التصدى لها، ووفق التقديرات الواردة فى الوثيقة، فإن ما يهدد الأمن الأورو-أطلنطى فى إطار تهديدات الهجمات السيبرانية، ينطوى على تزايد الاعتماد على تكنولوجيا المعلومات ودمجها فى نظم التسليح التقليدية المستخدمة فى حلف الناتو وفى داخل الدول الأعضاء فى الحلف. قد يجعل هذه النظم أكثر عرضة للاختراق عن طريق عمليات معلوماتية تنفذها دول معادية أو فاعلون من غير الدول على نحو يهدد تفوق الحلف فى نظم التسلح التقليدية. 

الهجمات السيبرانية: 

أصبحت الهجمات السيبرانية وفق تقدير حلف الناتو، متكررة وأكثر تنظيما وتتسبب فى خسائر كبيرة للحكومات وللقطاع الخاص وللاقتصادات الوطنية بشكل عام. ويشير الحلف إلى أنها تكاد تؤثر سلبافى ازدهار المنطقة الأورو- أطلنطية وأمنها. ويقع التصدى لهذه الهجمات ضمن مهام الحلف الرئيسية الخاصة "بالدفاع والردع"، ويشير التقرير السنوى للأمين العام للحلف فى 2019 إلى أن "أى هجمات إلكترونية كبيرة الأثر قد تؤدى إلى تفعيل المادة (5) من ميثاق الحلف، وتستند فلسفة حلف الناتو فى التصدى لهذا النوع من الهجمات إلى أن الدول الأعضاء تقع عليها المسئولية الأولى منفردة فى حماية فضائها الإلكترونى، ثم تأتى ثانياالمسئولية الجماعية بسبب التداخل الموجود بين هذه الفضاءات فى عناصر قوتها وضعفها. 

وتكتسب الهجمات السيبرانية أهمية متزايدة داخل حلف الناتو بسبب ارتباطها كما ورد فى تقرير الأمين العام للحلف لعام 2020 بالتهديدات غير التقليدية الهجينة Threats Hybridالتى تستخدم فيها أدوات عسكرية وأخرى غير عسكرية من أجل استهداف القوات المسلحة أو منشآت مدنية أو القطاع الخاص؛ حيث يشير التقرير المذكور إلى أن هذه الهجمات المهجنة تضعف التماسك الداخلى فى الدول الأعضاء، وتضعف الحلف بشكل كبير. ومثال على ذلك الهجمات السيبرانية التى تستهدف دولا من أعضاء الحلف دون أن تصل تلك الهجمات إلى مستوى الهجوم المسلح، ولكنها تحوى معلومات معادية قد تضر بالمجتمع دون أن يتم تحريك جندى واحد عبر الحدود.

إلى جانب ذلك، يهتم حلف الناتو بتعزيز التعاون مع الاتحاد الأوروبى من أجل تبادل وجهات النظر حول كيفية التعامل مع هذا النوع من التهديدات، خاصة من خلال مركز التميز الأوروبى لمكافحة التهديدات المهجنة وعن طريق التدريبات المشتركة.

الأحلاف السيبرانية:

يمكن تعريف التحالف السيبرانى "Cyber Alliance" بأنه النمط الرسمى النابع عن الاتفاق الصريح بين الجهات الفاعلة الدولية أو غير الدولية، الذى ينتج عنه التزامات متبادلة بين هذه الجهات تجاه بعضها بعضا وفق بنود وشروط ينظمها الإطار القانونى الحاكم لمسار هذا التحالف. ويعد تحالف الناتو السيبرانى أحد أهم الأمثلة على اتجاهه نحو معالجة مجموعة واسعة من التهديدات عبر تعزيز السياسة السيبرانية التى جاءت بموجب اتفاق أستونيا 2007.

على الجانب الآخر، يدور مفهوم الأحلاف السيبرانية "CyberAlliance" حول الاتجاه الذى تتبناه الأطراف لتدعيم مراكز قوتها فى مجال الأمن السيبرانى من خلال الاتفاقات والشراكات الضمنية والعمليات المشتركة، ويمكن أن يستدل على معرفة أطراف الحلف من خلال تقييم مواقف كل دولة تجاه الأخرى خلال بعض الأزمات الدولية، كما فى العلاقات الروسية الصينية التى تتسم بالتقارب على المستوى التكنولوجى. أو قد تكون هذه الشراكات شركات صريحة كما فى حالة الشراكة بين كوريا الشمالية وإيران بموجب اتفاق 2012، وتسعى هذه الأطراف عبر وسيلة الأحلاف الإلكترونية إلى تحقيق أهدافها الخاصة وجنى حليف دفاعى قوى يعزز من قدراتها الأمنية السيبرانية.

التفوق العسكرى والتكنولوجى للحلف:  

يعد الحفاظ على هذا التفوق، وفق التصورات السائدة فى الحلف، "عاملا ممكنا للحلف ليكون قادرا على ردع الخصوم والدفاع ضدهم". ويشمل تفوق الحلف تكنولوجيا أربعة مجالات، هى: الذكاء الاصطناعى، ونظم التسليح الذاتية، والبيانات الضخمة، والبيوتكنولوجى الذى أحدث تغيرا فى طبيعة الحروب. 

ومن أجل الحفاظ على التفوق فى هذه المجالات، وافق الحلف على تنفيذ استراتيجة خاصة بالتكنولوجيا المستحدثة، وأنشأ  مسرعا للابتكار الدفاعى فى شمال الأطلنطى" (Defense Innovation Accelerator for North Atlantic)، وفى 2022 أطلق الحلف صندوقا للابتكار مؤلفامن الحكومات والقطاع الخاص للأكاديميين؛ وذلك فى مسعى من الحلف لأداء دور منسق للتعاون حول كل الأبعاد الأمنية للتكنولوجيات المستحدثة. 

التحالف بين الدول وشركات التكنولوجيا:

مثل التحالف فى مجال الأمن السيبرانى عام 2010 الذى تم بين دائرتى الدفاع والأمن الداخلى وبين كبرى الشركات الصناعية الخاصة، ويقوم هذا النوع من التحالف السيبرانى على إشراك أصحاب المصالح كحليف قوى لتحقيق الأمن السيبرانى، وكذلك التحالف من جهات فاعلة من غير الدول كما فى تحالف Grid Wiseفى الولايات وتحالف الشركات الخاصة السيبرانى فى بلجيكا، ويضم الأول تحته عشرات المؤسسات والشركات الضخمة ومراكز الأبحاث والجامعات المعنية بالشبكات الذكية، وتأتى مساعى هذا التحالف نحو تأمين الطاقة الكهربائية التى ترتبط بالشبكة الإلكترونية وتأمين مستخدميها من المواطنين، بينما يضم التحالف البلجيكى 3 قطاعات وأصحاب المصالح وكبرى الشركات فى بلجيكا، فضلا عن تحالفات أخرى يعد أهمها التحالف الوطنى الأمنى السيبرانى NCSAالذى يضم القطاعات الثلاثة وشركات صناعية ضخمة مثل (مكافى-مايكروسوفت- سيمانيك).

نموذج حلف الناتو فى تطوير العقيدة العسكرية:

إن اهتمام حلف الناتو بالفضاء السيبرانى قديم نسبيا ويرجع لعام 2002 وذلك فى أثناء قمة براغ، حينما أبدت دول الحلف اهتماما كبيرا بهذا الفضاء "المصنوع" الذى يغزو جميع المجالات الاقتصادية والإعلاميةوالسياسية وأيضا العسكرية، فهو يختلف عن الميادين التقليدية الأخرى: الأرض والبحر والجو والفضاء، التى تتميز بكونها طبيعية لا دخل للإنسان فى تكوينها، ومنذ ذلك الوقت تصاعد الاهتمام بقضايا الأمن السيبرانى والحرب السيبرانية بصورة كبيرة، وأصبحت عنصرا رئيسيا من عناصر العقيدة العسكرية القتالية للحلف.

تحديات الناتو .. العقيدة والقدرات:

تركز العقيدة الإلكترونية الروسية على فكرة أن الحرب الإلكترونية هى جزء من مفهوم أكبر وأكثر لـ"مواجهة المعلومات" على النحو المبين فى العديد من الوثائق الاستراتيجية الروسية، وتم تعريف العقيدة الروسية بأنها مجال المعلومات:مزيج من المعلومات، وأنظمة المعلومات، والمواقع الإلكترونية داخل شبكة المعلومات والاتصالات السلكية واللاسلكية على الإنترنت، وتكنولوجيا المعلومات، والكيانات المشاركة فى توليد المعلومات ومعالجتها،وتطوير واستخدام التقنيات المذكورة، وضمان أمن المعلومات، فضلا عن مجموعة من الآليات التى تنظم العلاقات الاجتماعية، استخدام وتوظيف التكتيكات الإلكترونية، مثل هجمات البرامج الضارة أو التجسس الإلكترونى، فى منطقة رمادية جنبا إلى جنب مع حملات التضليل وأشكال أخرى من التلاعب بالمعلومات.

وينظر حلف الناتو إلى الفضاء السيبرانى بوصفه الميدان الخامس للقتال بعد الأرض والبحر والجو والفضاء، بل يعده الميدان الرئيسى الذى يربط كل الميادين الأربعةالأخرىفى أثناء العمليات العسكرية المختلفة يكون من خلال الفضاء السيبرانى، فأصبح بمنزلة الميدان المهيمنDominant Domainالذى يتحكم فى إدارة جميع العمليات العسكرية، ومع تصاعد الهجمات والتهديدات السيبرانية ازداد الاهتمام بقضايا الحرب السيبرانية للدرجة التى جعلت الحلف يعد شن هجوم سيبرانى على أحد الأعضاء بمنزلة اعتداء على باقى أعضاء الحلف، ويستوجب ذلك تطبيق المادة الخامسة الخاصة بتدابير الدفاع الجماعى.

الدفاع السيبرانى:

تعد التهديدات السيبرانية لأمن الحلف معقدة ومدمرة وقسرية، وأصبحت أكثر تكرارا من أى وقت مضى . لذا،سيستمر "الناتو" فى التكيف مع مشهد التهديدات الإلكترونية المتطورة. ويعتمد "الناتو" وحلفاؤه على دفاعات إلكترونية قوية ومرنة للوفاء بالمهام الأساسية للحلف مستعدا للدفاع عن شبكاته وعملياته ضد التطور المتزايد للتهديدات السيبرانية التى يواجهها.

ويعد الدفاع الإلكترونى جزءا من مهمة الناتو الأساسية للدفاع الجماعى، حيث أكد حلفاء الناتو أن القانون الدولى ينطبق على الفضاء الإلكترونى. وينصب تركيز الناتو الرئيسى فى مجال الدفاع الإلكترونى على حماية شبكاته الخاصة، والعمل فى تعزيز مرونتهم الوطنية، وتوفير منصة للتشاور السياسى والعمل الجماعى.

كما أنشأ الحلف مركز عمليات الفضاء الإلكترونى كجزء من هيكل القيادة المعزز لحلف الناتو، وتم الاتفاق على أن الناتو يمكنه الاعتماد على القدرات السيبرانية الوطنية للعمليات والمهام.

وفى فبراير 2016 وقع حلف الناتو والاتحاد الأوروبى (EU) تعاون التدريب الفنى للدفاع السيبرانى، وذلكفى ضوء التحديات المشتركة، فى مجال الدفاع الإلكترونى، ولاسيما فى مجال تبادل المعلومات والتدريب والبحوث.

وفى قمة الناتو 2021 فى بروكسل، أقر الحلفاء سياسة شاملة جديدة للدفاع السيبرانى، التى تدعم المهام الأساسية لحلف الناتو وموقف الردع والدفاع الشامل لتعزيز مرونة الحلف، فضلا عن التشاور السياسى، ومشاركة المخاوف بشأن الأنشطة السيبرانية الخبيثة وتبادل الأساليب والاستخبارات الوطنية.

ختاما، لقد أضحى الفضاء الإلكترونى بفضل ثورة المعلومات والإنترنت أحد العناصر الأساسية التى تؤثر فى النظام الدولى، بما يحمله من أدوات تكنولوجية قادرة على القيام بعمليات حشد وتعبئة، إلى جانب تأثيره فى القيم السياسية وأشكال القوة المختلفة سواء كانت القوة الصلبة أو الناعمة. فبالنسبة للقوة الصلبة وعلاقتها بتكنولوجيا المعلومات، فإنها أدت إلى قيام ثورة فى النظم العسكرية، وتطور نظام التسلح، وهو ما نتج عنه زيادة الوعى بأهمية الابتكار والتقدم التكنولوجى كأساس للاستحواذ على القوة، وأهمية تطوير مفاهيم استراتيجية، والتقدم الاستخباراتى فى المجال التقنى ما دفع القوى الكبرى، ولاسيما الولايات المتحدة،وروسيا، والصين، إلى تطوير تطبيقات متعددة للأنظمة العسكرية التى تعتمد على الذكاء الاصطناعى، وما تقدمه من إمكانات من جيوش الفضاء السيبرانى بتكلفة منخفضة نسبيا.

وعلى الرغم من سرية النشاطات المتعلقة بالقدرات الإلكترونية فإن التوقعات تشير إلى أن هناك ما لايقل عن (120) دولة تقوم بتطوير استخدام الإنترنت كسلاح لاستهداف أسواق المال ونظم الحاسبات الخاصة بالخدمات الحكومية، ومن هنا سيكون للتحكم فى الفضاء الإلكترونى أهمية أكبر مما سبق، كونه يحدد وبشكل كبير قدرة الجيوش المتحاربة على إيجاد أهدافها ونقل المعلومات، فالمعركة التقنية ستوسع خط الجبهة بمقدار كبير، وهو مجال أجهزة الاستشعار المحمولة جوا والصواريخ بعيدة المدى؛ إذ تعتمد الفاعلية العسكرية بشكل أكبر على استخدامها الفعال للحرب الإلكترونية بهدف الحفاظ على قدرة الرؤية والوصول والتنظيم. فى حين تقيد العدو وتحد من قدراته وتربكه، فالتطورات التقنية التى تشهدها الحروب الحديثة ستكون السبب الرئيسى والمباشر فى التغيرات الكبيرة فى هيكلية التخطيط والتنظيم والقيادة والإجراءات التنفيذية لحروب المستقبل.

قائمة المراجع:

1-  إسماعيل صبرى مقلد، العلاقات السياسية الدولية، المكتبة الأكاديمية، الطبعة الرابعة 2010.

2-  أحمد عليبه، حلف شمال الأطلنطى: تطور الهيكل والأصول العسكرية ، المفهوم الاستراتيجى لحلف شمال الأطلنطى، المركز المصرى للفكر والدراسات الإستراتيجية، 2023.

3-  إسراء أحمد إسماعيل، الحروب السيبرانية.. تهديد لأمن الدول بدون اشتباكات عسكرية، ملحق دورى، مجلة السياسة الدولية، العدد 228 إبريل 2022.

4-  أحمد الكريدى، تحول مفهوم القوة فى عصر المعلوماتية، الدار العربية للعوم ناشرون، 2022.

5-  عادل عبد الصادق، الإرهاب الإلكترونى، القوة فى العلاقات الدولية، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، الأهرام، 2009.

6-  عادل عبد الصادق، القوة الإلكترونية: أسلحة الانتشار الشامل فى عصر الفضاء الإلكترونى، مجلة السياسة الدولية، العدد 188 إبريل 2018 .

7-  إيمان رجب،التأصيل النظرى والحركى لحلف شمال الأطلنطى،المفهوم الاستراتيجى لحلف شمال الأطلنطى، المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية، 2023.

8-  عادل عبد الصادق، القوة الإلكترونية: أسلحة الانتشار الشامل فى عصر الفضاء الإلكترونى، مجلة السياسة الدولية، عدد رقم 188 إبرايل 2012.

9-  إيهاب خليفة، الحرب السيبرانية، الاستعداد لقيادة المعارك العسكرية فى الميدان الخامس، العربى للنشر والتوزيع 2021.

10-  على فرجانى، تحولات الاتصال السياسى فى الفضاء السيبرانى:http://www.siyassa.org.eg/News/18448.aspx

11-  وليد عبد الحى، تحول المسلمات فى نظرية العلاقات الدولية، دراسة مستقبلية، الجزائر: مؤسسة الشروق 1994.

12- Cyber defence,https://www.nato.int/cps/en/natohq/topics_78170.htm

13- THE OFFENCE-DEFENCE BALANCE: NATO’S GROWING CYBER CHALLENGE

14-https://www.nato-pa.int/download-14file?filename=/sites/default/files/2023-01/015+DSCFC+22+E+rev.+1+fin+-+OFFENSE+DEFENCE+BALANCE+CYBER+CHALLENGE+-+REPORT+LOVERDOS.pdf

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    علي فرجاني

    علي فرجاني

    باحث في صحافة الذكاء الاصطناعي والفضاء السيبراني