تحليلات - قضايا ديمقراطية

حرب "إعلامية" غير "باردة" .. التغطية الغربية لأزمة أوكرانيا كأداة للصراع

طباعة

بدأت الحرب في أوكرانيا، انتهت مرحلة التكهنات، وحانت ساعة الحقيقة بعدما انشغلت وسائل الإعلام العالمية طوال الأسابيع الماضية في ملاحقة الأنباء القادمة من الحدود الروسية-الأوكرانية، التى تتدفق من عواصم عدة على امتداد خريطة العالم حول بوادر انفجار الحرب القادمة، وتداعياتها على الساحة الدولية، وما يمكن أن تثيره من مخاوف اندلاع حرب عالمية ثالثة، وستكون تلك الوسائل الإعلامية اليوم أكثر انشغالا ولآونة غير قليلة قادمة بمتابعة مجريات الصراع الذي تحول من "حرب باردة" إلى مواجهة ساخنة مفتوحة على جميع الاحتمالات.

على مدى الشهور الماضية، حتى قبل تصاعد وتيرة الأزمة الروسية-الأوكرانية، لعبت وسائل الإعلام في كلتا الجبهتين الغربية والروسية دورا واضحا يتجاوز في حقيقته تلك الوظيفة الإخبارية التي تمد جمهورها المستهدف بتقارير موضوعية أو معلومات أمنية حول تطور الموقف، فبدا واضحا أن الكثير من وسائل الإعلام العالمية، حتى تلك التي حظيت بسمعة طويلة في إعلاء المعايير المهنية فيما تقدم من محتوى يعتمد قيم النزاهة والإنصاف والتوازن، لم يعد يلقي بالا كبيرا بتلك القيم عندما يتعلق الأمر بصراعات ترتبط بها المصالح الاستراتيجية للدول التي تتبعها تلك المنافذ الإعلامية أو ترتبط بشبكة مصالحها.

وحتى الإعلام الغربي الذي طور لسنوات عديدة صورة ذهنية راسخة فيما يتعلق بالتزاماته المهنية، شهد تحولات كبرى في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر 2001، وبات – بحسب العديد من الدراسات المتعمقة والتقارير التحليلية يتبني في كثير من الأحيان السردية الرسمية، أو على الأقل لا يقدم في بعض المواقف المتعلقة بالصراعات الكبرى أو المواجهات الاستراتيجية ما تتضمنه تلك السردية الرسمية من أفكار وتوجهات.

وقد قدمت التغطية الإعلامية الغربية خلال الأزمة الأوكرانية الراهنة العديد من الشواهد على تلك الفرضية، فاعتمدت تلك التغطية على مجموعة من الخطوط العريضة التي حددت بصورة كبيرة اتجاهات التغطية، واستعادت مفردات وأفكارا تصور العالم أنها توارت منذ انتهاء مرحلة الحرب الباردة، بل ذهبت بعض وسائل الإعلام إلى إحياء خطاب دعائي كان سائدا في أجواء المواجهة في أوروبا، إبان الحرب العالمية الثانية وقبلها، الأمر الذي اعتبر بمنزلة نذر حقيقية على أن أشباح الماضي تعود مجددا إلى الحياة على الأقل في الخطاب الإعلامي، وأن ذلك يمثل بشائر على مواجهات محتدمة لا تنبئ بخير، لاسيما في ظل ما تحفل به الذاكرة العالمية من مآسٍ أعقبت انتشار ذلك الخطاب التصادمي.

الحرب قادمة لا محالة!

اعتمدت التغطية الإعلامية الغربية على طرح مبدئي لم تغيره طوال تطور فصول الأزمة، وهو القول بأن الغزو الروسي لأوكرانيا قادم لا محالة، ووصل الأمر إلى حد إعلان بعض وسائل الإعلام الغربية البارزة وقوع الغزو فعليا مطلع هذا الشهر. فقد بثت  وكالة "بلومبرج" الإخبارية الأمريكية، في الرابعة من عصر يوم 5 فبراير الجاري، خبرا رئيسيا على موقعها على الإنترنت بعنوان "روسيا تغزو أوكرانيا" واعتذرت لاحقا عن "الخطأ" بإصدار بيان بشأن خطأ في النشر، إلا أن الخبر كان قد عرف طريقه إلى العديد من وسائل الإعلام الأخرى نقلاً عن بلومبرج.

ولم يفلح ذلك "الخطأ" في دفع وسائل الإعلام الغربية إلى مراجعة نهج تعاملها مع التقارير المتعلقة بالأزمة الروسية-الأوكرانية، بل واصلت نشر المزيد من تلك التقارير، وبلغ الأمر تحديد تواريخ قطعية لتنفيذ هذا الغزو. ففي بريطانيا ، نشرت صحيفة "ديلي ميل"ملفا رئيسيا تحت عنوان "48 ساعة حتى الحرب" دعمته بخرائط عن تحرك القوات الروسية ومساراتها الرئيسية في الأراضي الأوكرانية.

كما نشرت العديد من وسائل الإعلام الغربية تقارير متزامنة، ومنسوبة إلى مصادر استخبارية أمريكية عن أن يوم 16 فبراير الجاري هو الموعد المحدد للغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، وهو ما اعتبرته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، في تدوينة لها على Telegramموقع الرسائل القصيرة يوم  15 فبراير إعلانا لـ"فشل الدعاية الحربية الغربية"، معتبرة أن تلك التقارير تمثل "ضربة حاسمة لآلية حرب الدعاية الغربية وإثارة الحروب التي كانت نشطة منذ بداية الأزمة الروسية-الأوكرانية".

كما اعتبر المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، وانج وين بين، في مؤتمر صحفي أن "الدعوة إلى المواجهة هي تراجع عن التكتيكات التي عفا عليها الزمن في حقبة الحرب الباردة".

ورغم عدم وقوع الغزو الروسي المتوقع للأراضي الأوكرانية في التاريخ المحدد، إلا أن الوسائل الإعلامية الغربية لم تغير مرة أخرى من منهجيتها، بل واصلت الدفع في الاتجاه ذاته، وزادت من وتيرة  استخدام "استمالات التخويف" في المحتوى المتعلق بالأزمة، فتصدرت اتجاهات التغطية نشر حث الولايات المتحدة وحلفائها مواطنيهم على مغادرة أوكرانيا لتجنب الغزو الروسي.

كما استخدمت وسائل الإعلام الغربية سلاح "القصص الإنسانية" لتضخيم البعد العاطفي للصراع. فبالتزامن مع التركيز على تصوير الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية، بثت وسائل الإعلام الغربية مزيدا من القصص التي تجسد معاناة العديد من العائلات الأوكرانية خلال النزوح من المناطق المتاخمة لروسيا وبيلاروسيا، وحتى من العاصمة كييف، في مشهد أعاد إلى الأذهان معالجات سابقة لتلك المنافذ الإعلامية ذاتها خلال تغطياتها للأزمات في سوريا والعراق وغيرهما.

ويبدو أن "استمالات التخويف" التي بالغت وسائل الإعلام الغربية في استخدامها قد أدت إلى نتائج عكسية، فقد تسببت في إثارة حالة من الزعر حتى بين الأوكرانيين أنفسهم، وهو ما دفع الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي أن يطلب من وسائل الإعلام الغربية، تجنب إثارة "الذعر" بشأن المواجهة مع روسيا، قائلا في مؤتمر صحفي: "لسنا بحاجة إلى هذا الذعر"، مشيرًا إلى أن ذلك"يضر باقتصاد أوكرانيا الممزق بالفعل"[1].

تبني السردية الرسمية:

وإذا كانت وسائل الإعلام الغربية عموما، والأمريكية على وجه الخصوص، وضعت "تحدي الرواية الرسمية" كواحد من أبرز الخطوط العريضة للممارسة المهنية لها على مدى عقود، إلا أن التحولات، التي أحدثتها مرحلة ما بعد 11 سبتمبر 2001، أضعفت إلى حد كبير هذا النهج، ودفعت وسائل الإعلام الغربية في كثير من المواقف والأحيان إلى تبني السردية الرسمية بدون مناقشة متعمقة، أو بحث في البدائل المطروحة، ولعل ذلك ما أغرى الكثير من الحكومات الغربية والإدارات الأمريكية إلى اعتبار محاولة بعض وسائل الإعلام تحدي الرواية التي تقدمها للقضايا الخارجية، خاصة المتعلقة بخصوم الولايات المتحدة، سواء من الدول (روسيا والصين مثلا) أو الفاعلين غير النظاميين (الجماعات المتطرفة) نوعا من "الخرق للمصالح العليا للبلاد"، أو "تبنيا للدعاية التي يبثها أعداء الأمة"، وهو اتهام كفيل باستعداء قطاعات جماهيرية واسعة على تلك الوسائل الإعلامية، على الرغم من أن الرواية الرسمية لم تصمد في كثير من الأحيان أمام التدقيق واختبارات التحقق التي قامت بها وسائل إعلامية في مواقف سابقة، مثل عمليات استهداف الجيش الأمريكي لأهداف مدنية بزعم ارتباطها بجماعات إرهابية، وهو ما ثبت عدم دقته لاحقا، واضطرت مؤسسات أمريكية رسمية إلى الاعتراف بتلك "الأخطاء غير المقصودة" وفتح تحقيقات بشأنها.

وبدا هذا النهج أوضح ما يكون في الولايات المتحدة، حيث استندت شبكات لها حضور دولي لافت مثل CNNو Bloombergو Wall Street Journalإلى المعلومات الاستخباراتية التي تم تمريرها إليها من قبل مصادر حكومية لم تذكر اسمها، في تغطية تطورات الأزمة الأوكرانية، إلى الحد الذي دفع شبكة لها شهرتها العالمية مثل CNNإلى بث تقرير استندت فيه إلى مصادر استخباراتية أمريكية، تتباهى فيه بأن "الجواسيس الروس محبطون بشدة، لأن مخططاتهم التجسسية لأوكرانيا قد تم نشرها عبر شاشة المحطة الإخبارية الأمريكية".

وبحسب تقرير نشرته صحيفة "الجارديان البريطانية"، فقد اعترف مسؤول استخباراتي أوروبي كبير بأن واشنطن تستخدم بالفعل "السلطة الرابعة" لتنفيذ سياسة الردع الخاصة بها، موضحا: "كان الهدف هو إبلاغ الروس بأننا نعرف كل ما تفكر فيه، وبالتالي لا تفكر في الأمر"[2].

ولم تحاول الصحافة البريطانية والأمريكية والأوروبية  البحث عن "رواية بديلة" لما قدمته حكومات تلك الدول، بل بادرت للتعامل بالإجماع مع تهديد الغزو على أنه حدث "محتمل" أو "وشيك" أو "حتمي"، مرددة الأطروحات الأساسية التي حملها خطاب رئيس الوزراء البريطاني بورريس جونسون، والرئيس الأمريكي جو بايدن اللذين سعيا إلى حشد الرأي العام الدولي والتحدث بصرامة بشأن ما ينتظر ورسيا إن هي أقدمت على غزو أوكرانيا.

وبالغ الإعلام الغربي  في تبني رواية الحرب وترويج الرواية الرسمية المعتمدة على تقارير استخباراتية غير مؤكدة ، وهو ما أعاد إلى الأذهان أيضا ذكريات سلبية ترجع إلى عام 2003 عندما أدت مواقف مشابهة تستند إلى معلومات خاطئة ومضللة من قبل المسؤولين الأمريكيين وتقارير استخباراتية وصفت بـ"المؤكدة" وقتها إلى غزو العراق بزعم امتلاكه أسلحة دمار شامل، وهو ما عجز الغزو الأمريكي البريطاني للعراق لاحقا عن تقديم أي دليل على صحته.

صراع "الخير والشر":

من الثوابت المستقرة في التغطية الإعلامية الغربية، والتي استخدمت على نطاق واسع في العديد من مواقف الصراع الكبرى، ولم تكن التغطية المتعلقة بالأزمة الروسية - الأوكرانية استثناءً في هذا الصدد، تلك الصبغة الأخلاقية التي تحاول وسائل الإعلام الغربية إضفاءها على الصراع، فتقدم الأزمة ليست باعتبارها صراع مصالح بين طرفين، لكنها تنحو في كثير من الأحيان إلى تقديمها كصراع بين الخير والشر، وبالتالي تبالغ في "شيطنة" الطرف الآخر، وتصويره على أنه تجسيد لكل قيم الشر والتخريب والتدمير.

وقد تم اعتماد هذا النهج أيضا في الأزمة الراهنة، فلم تتحدث التغطية الإعلامية الغربية عن صراع جيو-استراتيجية في شرقي أوروبا، بقدر ما حاولت "شيطنة" الدور الروسي، وسعيه إلى اغتيال أحلام ملايين الأوكرانيين في نيل حريتهم والاستمتاع بالديمقراطية الغربية بعيدا عن الديكتاتورية التي يجسدها – بحسب المعالجة الغربية- الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

ويذكّر هذا النهج كذلك بما اتبعته الغالبية الكاسحة من التغطيات الغربية للثورات البرتقالية في دول الاتحاد السوفيتي السابقة، والتي سعت إلى الالتحاق بالركب الغربي، وهو ما صورته المعالجات الإعلامية إلى أنه حنين إلى الحرية، وأن الصراع بين الموالين للغرب في تلك الدول وبين الموالين لروسيا، هو صراع بين "الخير"  و"الشر" أو بين "الحرية" و"الديكتاتورية.

وتكرر نفس النهج في التغطيات الغربية للأوضاع في المنطقة العربية، خاصة في مرحلة ما بعد ما يسمى "الربيع العربي" إذا تجاهلت تلك التغطيات لكثير من التعقيدات السياسية والطائفية والقبلية التي تعانيها تلك الدول، وجرى اختزال المشهد كذلك في صراع دراماتيكي بين ثنائية "الخير والشر".

وقد شهدت السنوات الماضية تصاعدا كبيرا لوتيرة هذا الخطاب الحاد، لاسيما بعد ضم موسكو لشبه جزيرة القرم، فباتت روسيا إعلاميا محور الصراع في أوكرانيا، في حين اتجهت أصابع الاتهام مباشرة إلى "شيطنة" الرئيس الروسي بوتين، وبات بعض وسائل الإعلام تنعته "بمشعل الحرائق" و"بعديم الضمير".

وأمام تعقيد الأوضاع والمواجهة الأمنية شرق أوكرانيا بين القوات الأوكرانية النظامية، وانفصاليين مسلحين موالين لروسيا، اتجهت التغطية الإعلامية الأوروبية والغربية عموما إلى تهميش الحديث أوكرانيا بحد ذاتها، والتركيز على روسيا والرئيس بوتين، باعتبارهما السبب الرئيس في إندلاع تلك الأزمة. وبطبيعة الحال، اقترنت تلك التغطية بإطار أخلاقي واضح، يصم الجانب الروسي بكل ما يمكن أن يضمه قاموس الاتهامات، بداية من الكذب، وصولا إلى السعي إلى إحراق العالم.

ولم يقتصر الأمر عند حدود الهجوم على القيادة الروسية، بل امتدت كذلك إلى ما يمت لروسيا بصلة، وفي القلب منها وسائل الإعلام الروسية، التي كانت هي الأخرى وبطبيعة الحال، سلاحا قويا في الصراع المحتدم بين الطرفين، فنشرت شبكة BBC  البريطانية تقارير مفصلة حول تاريخ العداء الروسي-الأوكراني، متحدثة بوضوح عن أن "الإعلام الروسي له تاريخ في الترويج للمحتوى العاطفي والادعاءات المشكوك فيها التي تصور أوكرانيا بشكل سلبي"[3].

إحياء أشباح الماضي:

ومن العناصر اللافتة للنظر في اتجاهات التغطية الإعلامية الغربية للأزمة، ذلك الاستدعاء التاريخي لمفردات ورموز لا تعود فقط إلى حقبة الحرب الباردة، بل تمتد حتى إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يقتبس الخطاب الإعلامي السائد في التغطية الغربية عباراته من سجل الحرب الباردة، كما عمدت التغطية الإعلامية إلى استدعاء العديد من نوازع الصراع التاريخية وإسقاطها على المواجهة الراهنة، فنجد مثلا أحد تقارير شبكة BBCالبريطانية يركز على  بعض التغطيات الإعلامية الروسية التي يقول أنها تصور أوكرانيا على أنها موالية للنازية، ويشير إلى أن ذلك كان سمة منتظمة للتغطية الإعلامية الروسية، مستشهدين بتدوينة منسوبة إلى وزارة الخارجية الروسية عبر أحد مواقع وسائل التواصل الاجتماعي تنتقد فيها تصويت أوكرانيا والولايات المتحدة ضد قرار للأمم المتحدة تدعمه روسيا يدين تمجيد النازية.

 في حين أن العديد من المعالجات الإعلامية الغربية  وصفت بوتين بـ "هتلر الجديد" الذي يريد التوسع في أوروبا، وأن سياساته ستشعل حربا عالمية جديدة.

وبينما يواصل الجانبان الروسي والغربي تبادل الاتهامات بإحياء النازية، يتجاهل الإعلام الغربي حقائق من ضمنها أن الولايات المتحدة وأوكرانيا بالفعل رفضتا دعم مشروع القرار الأممي الداعي إلى حظر تمجيد النازية، وقد بررت واشنطن وكييف موقفهما بأن مشروع القرار كان "محاولة مستترة لإضفاء الشرعية على حملات التضليل الروسية"، إضافة إلى ضم عناصر تنتمي إلى جماعات يمينية متطرفة في أوكرانيا والنازيين الجدد، وتحديدا كتيبة آزوف القومية التي برزت في ذروة الصراع الأوكراني، ضمن وحدات جيش البلاد[4].

ولم يقتصر الأمر على استدعاء لغة خطاب تعود إلى حقبة الحرب الباردة فحسب، بل إلى توظيف رموز ترتبط بتلك المرحلة من المواجهة بين الغرب وروسيا، فقد شهدت الآونة الأخيرة تفعيلا واضحا لدور إذاعة "أوروبا الحرة" أو "إذاعة الحرية" الممولة من الكونجرس الأميركي، في محاولة لـ"اختراق جدار الدعاية الروسي"، كما صرح مدير الإذاعة في منطقة أوروبا لوكالة الصحافة الفرنسية.

وتأسست الإذاعة ومقرها العاصمة التشيكية براغ، في عام 1950 لتكون وسيلة إعلامية مناهضة للشيوعية تبث برامج داخل الكتلة السوفيتية أسهمت في الإطاحة بتلك الأنظمة، ولا تزال تلك الإذاعة تبث بـ27 لغة، منها الروسية والبيلاروسية والأوكرانية، إلى 23 بلداً.

ويعمل لحساب الإذاعة أكثر من 200 صحفي في أوكرانيا، وتلعب دوراً رئيسياً في تغطية الأزمة الراهنة على الحدود مع روسيا، وكثفت أنشطتها في المنطقة عقب ضم روسيا جزيرة القرم في عام 2014 وسيطرة قوات متمردة موالية لموسكو على شرق أوكرانيا. كما كثفت من وجودها على مواقع التواصل الاجتماعي فهي موجودة  بالفعل على "فيسبوك" و"تويتر" وعلى منصات تواصل اجتماعي روسية مثل "فيكونتاكت" و"أودنوكلاسنيكي"[5].

ويمكن هنا أيضا الإشارة إلى الأزمة الأخيرة بين ألمانيا وروسيا بسبب قرار السلطات الألمانية بإغلاق مقر قناة "آر تي - دي إي" - أي "روسيا اليوم - دي إي"، وهو مبنى في وسط برلين الشرقية بمنطقة ألديرسهوف، وكان هذا المبنى خلال الحرب الباردة مقراً للقناة الرسمية التابعة لـ"جمهورية ألمانيا الديمقراطية" (أي الشرقية) التي أسسها الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا، وظلت تبث الدعاية السوفيتية حتى ما بعد سقوط جدار برلين قبل 33 سنة، إلى أن توقفت عن البث عام 1991، وعاد قرار السلطات الألمانية بإغلاق القناة المدعومة من الكرملين، ليؤكد أن الصراع بين الغرب وروسيا هو صراع إعلامي تماما كما هو صراع سياسي واستراتيجي، خاصة بعدما أثار القرار غضباً كبيراً في موسكو، ودفع الكرملين إلى الرد بإغلاق مكتب قناة "دويتشه فيله" الألمانية في موسكو.

وقد وصفت الاستخبارات الألمانية في عام 2019 محتوى قناة «روسيا اليوم - دي إي» بأنه "أداة للدعاية الروسية". ووفق تقرير الاستخبارات، فإن هدف القناة وموقعها الإلكتروني "التأثير فى الشعب الألماني بما يخدم روسيا"[6].

الخلاصة:

تعكس الحقائق السابقة أن انفجار الأوضاع وبدء العمليات العسكرية الروسية على الأراضي الأوكرانية لن يكون نهاية لمواجهة ممتدة بين الغرب وروسيا، وفي القلب منها المواجهة الإعلامية المحتدمة، بل ربما يكون انفجار الصراع العسكري بداية لحرب إعلامية طويلة المدى، لم تتوقف مع انتهاء الحرب الباردة، بل ظل سلاح الإعلام أداة فاعلة في تأكيد حقيقة أن الصراع لم ينته بعد، حتى وإن هيمنت على العالم أحادية القطب لثلاثة عقود متواصلة.

الهوامش:

[1]Owen Matthews and Michael Weiss, In Ukraine Coverage, the Press May Be Doing Putin’s Work, NEW LINES Magazine, 17/2/2022: https://newlinesmag.com/argument/in-ukraine-coverage-the-press-may-be-doing-putins-work/

 

[2]Andrew Roth, Russians ridicule western media on ‘day of no invasion’, The Guardian, 16/2/2022: https://www.theguardian.com/world/2022/feb/16/russians-ridicule-western-media-on-day-of-no-invasion

[3]Kayleen Devlin and Olga Robinson, Ukraine crisis: Is Russia waging an information war?, BBC News, 22/2/2022:  https://www.bbc.com/news/60292915

[4]روسيا وأوكرانيا: هل تشن موسكو حربا دعائية ضد كييف؟، موقع  بي بي سي عربي، 15/2/2022:

https://www.bbc.com/arabic/world-60375468

[5]أنظر: إذاعة أميركية تسعى لخرق "جدار الدعاية" الروسية في أوروبا، موقع إندبندنت عربية، 29/1/2022: https://bit.ly/3t6ZWly

[6]راغدة بهنام، أجواء «حرب باردة» إعلامية بين ألمانيا وروسيا، جريدة الشرق الأوسط، عدد  15777،  7/2/2022: https://bit.ly/3sWRchK


 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د.أسامة السعيد

    د.أسامة السعيد

    كاتب ومحاضر إعلامي، نائب رئيس تحرير جريدة الأخبار