تحليلات - قضايا عالمية

لماذا امتد التوتر الفرنسي- الإيطالي إلى أزمة اللجوء؟

طباعة
لا تزال أزمة اللاجئين تسيطر علي المشهد السياسي الأوروبي. فبعد الانتقاد  الفرنسي لرفض إيطاليا استقبال سفينة المهاجرين "إكواريوس"، تصاعدت التوترات بين الدولتين، إذ ألمح وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني إلى أن تفكك الاتحاد الأوروبي أمر وارد، حال استمر الخلاف بين أعضائه في معالجة عدة ملفات، من بينها ملف الهجرة واللجوء. ومن المقرر أن يتم عقد اجتماع أوروبي مصغر غير رسمي يوم 24 يونيو 2018 في بروكسل لإيجاد حلول للخلافات الأوروبية المتفاقمة حول أزمة اللاجئين، قبيل عقد القمة الأوروبية المقررة بنهاية يونيو الجاري.   
 
أزمة "أكواريوس" 
انتقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رفض إيطاليا في 7 يونيو 2018 استقبال سفينة المهاجرين "أكواريوس" التي كان على متنها 628 مهاجرا  غالبيتهم من إفريقيا، حيث يرغبون في اللجوء للاتحاد الأوروبي، مما أدى لبقاء السفينة لمدة أسبوع في البحر المتوسط دون وجهة حتى قررت إسبانيا استقبالها. وتم نقل المهاجرين من على متن السفينة إلى سفينتين إيطاليتين تابعتين للبحرية وحرس السواحل الإيطالي واتجهتا إلى ميناء "بلنسية" الإسباني، وتدير هذه السفينة منظمة (اس.أو.اس ميديتيران) الخيرية الفرنسية الألمانية المعنية بشئون المهاجرين واللاجئين). 
واتهم ماكرون روما بالاستخفاف وعدم المسئولية فيما يتعلق بهذا الوضع الإنساني المأساوي، وأكد أن القانون الدولي يلزم إيطاليا باستقبال المهاجرين، مما أدى لتفجر أزمة دبلوماسية بين باريس وروما، حيث استدعت إيطاليا يوم 13 يونيو 2018 السفير الفرنسي لديها للاعتراض على تصريحات ماكرون حول "إكواريوس". 
ثم تحولت الأزمة فيما بعد إلى تلاسن لفظي فرنسي - إيطالي، حيث وصف مسئولون فرنسيون رفض إيطاليا استقبال السفينة بأنه "يعد عملا معيبا، وغير مسئول، مما دفع رئيس الوزراء الإيطالي الجديد جوزيبي كونتي بدوره إلى تأكيد أن "إيطاليا لا يمكنها تقبل دروس مشوبة بالنفاق من دول كانت تفضل دائما أن تدير ظهرها لكل ما يتعلق بالهجرة" (في إشارة واضحة لفرنسا). كما طالب نائب رئيس الوزراء الإيطالي لويجي دي مايو يوم 14 يونيو 2018 ماكرون بالاعتذار لروما عن تصريحاته.  
جدير بالذكر أن الموقف الإيطالي المتشدد والرافض لاستقبال المزيد من اللاجئين يقوده وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني (رئيس حزب الرابطة المناهض للمهاجرين ببلاده والذي فاز بالانتخابات البرلمانية الأخيرة، وأسفرت عن تشكيل حكومة إيطالية يمينية متشددة في مطلع يونيو 2018) حيث أكد سالفيني أن روما " لن تستقبل سفن مهاجرين تابعة لمنظمات غير حكومية، وأن السفن التابعة لمنظمات أجنبية وترفع أعلاما أجنبية لا يمكنها إملاء سياسات الهجرة علي إيطاليا". وقد طالب سالفيني في 8 يونيو 2018 من حلف شمال الأطلسي "الناتو" بمساعدة بلاده في الدفاع عن سواحلها الجنوبية في مواجهة تدفق المهاجرين، لاسيما في ظل المخاوف من تسلل إرهابيين بينهم". 
وتعد إيطاليا من أكثر الدول الأوروبية التي استقبلت مهاجرين بلغ عددهم  640 ألف مهاجر معظمهم أفارقة منذ 2014، وتجاهلت دول أخرى بالاتحاد الأوروبي بشكل كبير محاولات روما لإقناعها باستقبال بعض المهاجرين الجدد وتقاسم تكلفة رعايتهم، مما مثل عبئا اقتصاديا واجتماعيا علي الحكومات الإيطالية المتعاقبة.  
احتواء الأزمة
 في مسعى منه لاحتواء الأزمة قبل القمة الأوروبية المقبلة المقرر عقدها في نهاية يونيو الجاري، هاتف الرئيس ماكرون رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي دون تقديم اعتذار عن تصريحاته، ثم عقد قمة ثنائية معه بباريس في 15 يونيو 2018، أوضح فيها ماكرون أن "أوروبا مقصرة في معالجة ملف الهجرات المتدفقة على شواطئها، وجاءت سياستها غير فاعلة، وتفتقر للتضامن مع الدول التي تتحمل العبء الأكبر للمهاجرين وعلى رأسها إيطاليا". 
كذلك عقدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يوم 19 يونيو 2018 اجتماعا مع ماكرون، أكدا فيه ضرورة أن يكون حل مسألة الهجرة أوروبيا، وبالتالي فهما سيسعيان لصياغة إصلاح مقبول من الجميع، في وقت تزداد التباينات بين دول الاتحاد الأوروبي حيال هذا الملف عبر تشديد مراقبة الحدود الخارجية. 
ثم عقدت ميركل اجتماعا مماثلا مع كونتي في برلين،ـ أكدت فيه أن أحد حلول القضية يتمثل في تمكين حكومة مستقرة في ليبيا، وتدريب خفر السواحل فيها بصورة أفضل لمنع الهجرة. بينما طالب كونتي بإنشاء مكاتب هجرة يديرها الاتحاد الأوروبي خارج القارة الأوروبية لمنع المهاجرين من الوصول لشواطئ بلاده، فيما سماه "رحلات الموت". 
وبرغم انتهاء أزمة "إكواريوس"، فإنها كانت كاشفة لأمرين، الأول إصرار الحكومات الأوروبية اليمينية التي تولت الحكم خلال الفترة الماضية في إيطاليا والنمسا وألمانيا على تنفيذ برامجها الانتخابية، وتشديد الإجراءات في استقبال المهاجرين، حيث إن الأزمة وقعت بعد أسبوع واحد من تعيين حكومة شعبوية جديدة في إيطاليا. أما الأمر الآخر، فيشير إلى أن الأزمة كشفت حدة التوترات والخلافات داخل الاتحاد الأوروبي بشأن سياسات التعامل مع المهاجرين واللاجئين. 
 
عوامل التوتر  
فجرت أزمة إكواريوس التوتر الفرنسي- الإيطالي المستتر، حيث إن هناك العديد من العوامل التي أدت لظهور هذا التوتر بهذه الحدة، بخلاف تباين وجهات النظر حول التعامل مع أزمة اللاجئين، ومن بينها ما يلي:  
1) الصراع على الملف الليبي: حيث أثار الدور الفرنسي المتصاعد في ليبيا منذ تولى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منصبه في مايو 2017 استياء إيطاليا التي تنظر دوما لليبيا بحسبانها إحدى مستعمراتها السابقة ولها فيها النفوذ الأكبر وهي الشريك التجاري الأول لليبيا، وتعتمد إيطاليا على نحو 35 % من إمدادات النفط، ونحو 20 % من الغاز من ليبيا. 
وفي مؤشر علي هذا التوتر، قاطعت روما مؤتمر باريس الذي عقد في مايو 2018 حول ليبيا، برغم توجيه دعوة لها، كما ترى روما أنها المعنية الأولى بما يحدث في ليبيا، لأنها تتحمل العبء الأكبر لاستضافة اللاجئين والمهاجرين الأفارقة الذين يعبرون البحر سعيًا للوصول من ليبيا إلى أوروبا. وقد انتقدت الخارجية الإيطالية ماكرون، لأنه يريد أن يكون له دور أكبر في ليبيا، واتهمته بأنه لم يستشر روما في الملف الليبي قبل عقد مؤتمر باريس. 
2) الوجود العسكري في سوريا: ففي نهاية أبريل 2018، تمركزت وحدات خاصة من القوات الفرنسية بقاعدة أمريكية في منطقة رميلان بمحافظة الحسكة شمالي البلاد، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وقام الجنود الفرنسيون بتسيير دوريات في مدن منبج والرقة، وبعض مناطق دير الزور برفقة المسلّحين الأكراد. ويوجد أكثر من 70 عنصراً، تابعاً للقوات الفرنسية الخاصة، ضمن "التحالف الدولي لمحاربة داعش" في 5 مناطق بشمال سوريا. وفي منتصف يونيو 2018، توجه عشرات الجنود الإيطاليين إلى محافظة الحسكة، ودير الزور أيضا دعما لقوات "قسد" في معاركها ضد "داعش"، ليرتفع بذلك عدد العسكريين الإيطاليين بسوريا إلى 70 جنديا. 
وبرغم أن القوات الفرنسية والإيطالية تعمل بالتنسيق مع التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، فإن التحرك الإيطالي الأخير يكشف عن رغبة روما في منافسة الوجود العسكري الفرنسي في سوريا، خاصة والشرق الأوسط عامة، لاسيما بعد الإعلان رسميا عن هزيمة "داعش" في سوريا والعراق.   
3) إصلاح الاتحاد الأوروبي: حيث يسعى ماكرون إلى زعامة الاتحاد الأوروبي عبر طرحه عدد من المبادرات لإصلاح البنية الهيكلية للإتحاد، ولإنشاء موازنة موحدة لمنطقة اليورو، حيث اتفق ماكرون وميركل علي وضع موازنة مشتركة لمنطقة اليورو بحلول عام 2021، بهدف توفير حماية أفضل بوجه الأزمات، وإنشاء قوة أوروبية موحدة أيضا تكون بمنزلة جيش أوروبي مصغر مستقل عن حلف الناتو، ولم ترق هذه الطموحات الفرنسية لروما التي اتهمت ماكرون بالسعي إلى السيطرة على الاتحاد الأوروبي وتجاهل دول أوروبية هامة وتهميش دور إيطاليا. 
وقد تصاعدت انتقادات روما لباريس منذ تولى الحكومة الإيطالية الجديدة الحكم في مطلع يونيو 2018، حيث إنها تتسم بنزعة يمينية متطرفة وتتخذ مواقف متشددة ضد ملف الهجرة، كما أنها تناهض منح استقلالية للمؤسسات الأوروبية، لأن ذلك يؤثر فى سيادة الدول، وترفض كذلك الاندماج التام في منطقة اليورو. وتسعى كذلك روما إلى تشكيل محور من الدول الأوروبية المؤيدة لمواقفها، لاسيما تجاه ملف الهجرة ومنها (مالطا، واليونان، والنمسا، والمجر، وبولندا) وهي دول صعدت لسدة الحكم فيها أخيرا أحزاب يمينية تناهض المهاجرين، مما ينذر بحقبة ستشهد تنافسا على دوائر النفوذ بين فرنسا وإيطاليا داخل الإتحاد الأوروبي، وفي الدائرتين المتوسطية والشرق أوسطية.  
 
مستقبل الاتحاد الأوروبي 
ترجع الاختلافات المتعددة التي برزت أخيرا بين الدول الأوروبية حول معالجة ملف الهجرة تحديدًا إلى تباينات أخرى أعمق حول تطبيق اتفاقية دبلن التي تلقي مسئولية المهاجرين على الدولة التي يطئون أرضها أولاً. فعلي سبيل المثال، فإن غالبية المهاجرين الذين يصلون إلى ألمانيا وفرنسا ينطلقون من ليبيا مرورا بإيطاليا التي يجب عليها أن تسجلهم في قاعدة المعلومات الخاصة بالمهاجرين "يوروداك" قبل مغادرتهم وهذا لا يحدث، لأن "اتفاقية دبلن" تقضي بإعادتهم مرة أخرى لإيطاليا حال رفضت برلين وباريس استقبالهم، وهو ما تعترض عليه روما وتطالب بتعديل الاتفاقية وترفض استقبال المزيد من اللاجئين لأنها تحملت أعباء اقتصادية، فضلا عن التأثيرات الاجتماعية الديموجرافية، جراء استقبالهم بشكل يومي.
ويمكن توضيح المواقف الأوروبية من ملف الهجرة كما يلي:   
1) الموقف الفرنسي، حيث يتعامل "ماكرون" مع ملف الهجرة من منطلق سياسي حضاري، حيث يرى أن المعايير الإنسانية تقضي باستقبال المهاجرين ويناهض الحكومات الأوروبية التي تصدر للخارج خطابات قومية رافضة لاستقبالهم. بيد أن ماكرون اعترف أخيرا بضرورة تعديل اتفاقية دبلن، وكذلك سياسة الحصص التي أقرها الاتحاد الأوروبي وتقضي بتوزيع اللاجئين بعد تسجيلهم على البلدان الأوروبية بشكل متساو، حيث ترفض بولندا والمجر تطبيق هذه السياسة، نظرا لتباين المستوى الاقتصادي بين الدول الأوروبية. وفي هذا السياق، طرح ماكرون مقترحاً لحل الأزمة ينص على إرسال ممثلين للوكالات الأوروبية المعنية بملف الهجرات إلى الضفة الأخرى من المتوسط، أي إلى بلدان الممر للعمل علي توعية الشباب لمنعهم من المهجرة غير الشرعية وغير الآمنة، لاسيما أن فرص قبولهم في الدول الأوروبية أصبحت معدومة، بعد تبني معظم دول الاتحاد سياسة متشددة في قبول المهاجرين.  
2) الموقف الإيطالي، حيث دعا رئيس الوزراء الإيطالي الجديد كونتي إلى تغيير جذري للقواعد المعمول بها في سياسة الهجرات الأوروبية، خاصة اتفاقية دبلن، فضلا عن إلغاء مبدأ بلد الوصول الأول الذي يرتب على إيطاليا المسئولية الكبرى بحسبانها أول دولة يصل إليها اللاجئون القادمون من موانئ ليبيا وشمال إفريقيا. كذلك، اقترح كونتي أن تقيم الدول الأوروبية مراكز في دول الهجرة (Hot Spots) تهدف فحص طلبات الراغبين في الهجرة إلى الاتحاد الأوروبي.  وهناك العديد من المؤيدين للموقف الإيطالي، وأبرزهم المستشار النمساوي اليميني الجديد سيباستيان كورتز الذي دعا إلى تشكيل محور راغبين لشنّ حرب على الهجرة غير الشرعية بالاتحاد الأوروبي. وهناك عدد من الدول التي ستنضم لهذا المحور ومنها (إيطاليا، والنمسا، والمجر، وبولندا، وبلغاريا، واليونان، ومالطا).   
3) الموقف الألماني، حيث أصبح ملف الهجرة أزمة داخلية في ألمانيا، حيث هدد وزير الداخلية الألماني هورست زيهوفر بإغلاق حدود ألمانيا أمام المهاجرين بدءا من أول يوليو 2018، حال عدم توصل ميركل إلى اتفاق أوروبي موحد قبل ذلك الموعد. بينما رفضت الأخيرة أي إغلاق تلقائي للحدود أمام طالبي اللجوء، حتى حال فشلت في التوصل لاتفاق أوروبي موحد لحل أزمة الهجرة. وبهذا، تكون ميركل قد ألزمت نفسها بمهمة أوروبية معقدة، لأنها لم تنجح في توحيد الموقف الأوروبي من اللاجئين، برغم جهودها المستمرة في هذا المجال منذ سنوات، وتحاول الآن التوصل إلى نتيجة سريعة لمعالجة الأزمة. وحال فشلها وتنفيذ زيهوفر تعهده، فربما يؤدي ذلك إلى انهيار الائتلاف الحكومي بألمانيا، والذي أعلن عنه منذ 3 أشهر بقيادة "ميركل" بين الاتحاد المسيحي والحزب الديمقراطي الاشتراكي، وستتم الدعوة لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، لن تترشح فيها ميركل مرة أخرى.  
 
خلاصة القول: إن الأوروبيين يعولون كثيرا علي القمة المقبلة التي ستعقد في نهاية يونيو 2018 وستتصدر أزمة الهجرة أجندة عملها، حيث سيطرحون عدة آليات لمعالجة الأزمة، ومن بينها تعزيز شرطة الحدود "فرونتكس" الخاصة بحماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، وزيادة مساعدات التنمية الاقتصادية للدول الإفريقية، حتى توفر فرص العمل، وتبقي على مواطنيها داخل حدودها، وإبرام اتفاقات تتيح إعادة من لا يحق له اللجوء إلى أوروبا إلى دولته الأصلية عبر تخصيص صندوق لمساعدة الدول الإفريقية تصل ميزانيته إلى 1.5 مليار دولار. 
وحال فشلت القمة الأوروبية المقبلة في معالجة الاختلافات المتعددة حول ملف الهجرة تحديدًا، إثر تمسك كل دولة أوروبية بموقفها، فضلا عن خلافها حول آليات التكامل الاقتصادي، والإعداد لخروج بريطانيا من الإتحاد، وتفاقم التهديدات الأمنية المتعددة على الصعيدين المحلي والإقليمي، فإن التفكك ربما يكون مصير الاتحاد الأوروبي.
 
طباعة

    تعريف الكاتب

    د. منى سليمان

    د. منى سليمان

    باحثة فى العلوم السياسية.