العلاقات المصرية الإثيوبية .. حوار مختلف
19-1-2016

د. مصطفى الفقي
* كاتب مصري
في لقاء لي مؤخراً مع الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء الأسبق قال لي إنه في لقائه مع رئيس وزراء «إثيوبيا» الراحل «زيناوي» تطرق الحديث إلى مشروعات إنشائية على «نهر النيل»، وأكد يومها رئيس وزراء «إثيوبيا» أن «سد الألفية» الذي سمي فيما بعد ب«سد النهضة» هو سد صغير تتراوح كمية المياه المحتجزة وراءه ما بين 11و14 مليار متر مكعب ولكننا اكتشفنا بعد ذلك أن الرقم قد قفز إلى 74 مليار متر مكعب. 
 
وذكر رئيس الوزراء المصري الأسبق أنه قال يومها لنظيره الإثيوبي الراحل إن آفاق التعاون بيننا بلا حدود وأنتم في «إثيوبيا» تفتقدون مخرجاً على البحر للتصدير تجاه أوروبا ونحن نستطيع أن نتحاور حول بقعة في «الإسكندرية» أو «دمياط» أو «بورسعيد» تكون منفذاً للبضائع الإثيوبية على الأرض المصرية من خلال اتفاق بيننا يؤكد حسن نية الطرفين الشقيقين، وأضاف الدكتور عصام شرف أنه لاحظ السعادة المفاجئة التي طفت على وجه «زيناوي» وجعلت الشعيرات القليلة في رأسه تكاد تقف، ولقد لفت نظري هذا الحوار إلى وجود آفاق رحبة للتعاون المشترك بين مصر ودول «حوض النهر» خصوصاً إثيوبيا وأوغندا.
 
وإذا كان موقفنا تجاه الحقوق التاريخية المصرية من «مياه النهر» ثابتاً ولا يقبل المساومة إلا أن ذلك دفع قانوني بحت يمكن أن تعززه مظاهر سياسية تقتلع المسألة من جذورها وتضع كل الأطراف على الطريق الصحيح وتعود بالفائدة على الجميع من دون استثناء، لأن الحياة تقوم على المصالح المتبادلة كما أن العلاقات بين الدول يمكن أن تحكمها المبادئ بعض الوقت، والعبارات العاطفية يمكن أن تسكن المشكلات بعض الوقت أيضاً، ولكن لا شيء يربط الدول ويوثق العلاقات بين الشعوب ويقارب بين الأمم مثل المصالح المشتركة، لذلك فإنني أطالب المفاوض المصري في موضوع «سد النهضة» بتوسيع دائرة المفاوضات لكي تغطي مساحة واسعة وشاملة من المصالح المشتركة التي يمكن خلقها بين الدولتين. فلغة العصر تقوم على الأخذ والعطاء، ونحن نطالب الحكومة الإثيوبية بالالتزام الكامل باتفاقيات «مياه نهر النيل» وتقديم ضمانات بعدم المساس بالحصة المصرية منها، ويمكن في المقابل إثباتاً لحسن النية أن تقوم مصر بشراكة حقيقية في المشروعات التنموية الإثيوبية مع زيادة حجم التبادل التجاري وتوظيف استثمارات مصرية في إثيوبيا من خلال مشروعات صناعية واستزراع أراض على الهضبة ومسطحات السهول في المناطق غير الصخرية حول «مجرى النهر» في الأراضي الإثيوبية، خصوصاً وأننا نعلم أن دولاً عربية شقيقة لها مليارات الاستثمارات في إثيوبيا ولكنها لم تشأ أن تكون وسيطاً لحماية حقوق الشقيقة الكبرى من «مياه النهر».. ولكن هذه هي حال الأمة العربية حالياً.
 
إن لدى مصر الكثير الذي يمكن أن تقدمه ل«دول حوض النهر» من معونات تكنولوجية ومنح دراسية وأفكار عملية للنهوض بالحياة على أرض تلك الدول الأكثر فقراً والأشد حاجة، فالتعاون في مجال الكهرباء كان يمكن أن يوظف الخبرة المصرية عبر سدود صغيرة لا تؤثر في حصة الدول من «مياه النهر» بدلاً من هذا المشروع المتعنت الذي لا يبرأ من أغراض سياسية والذي تقف وراءه بالتأكيد قوى تعادي مصر وتحقد عليها وتسعى لإضعافها وإطفاء أضواء الحضارة على أرضها، إنني أطرح هنا محاور ثلاثة لدعم العلاقات بين القاهرة و«أديس أبابا» بل وغيرها من دول «الجوار الإفريقي» باستثناء «السودان» لأن روابط قوية تجمعه مع مصر ولا يمكن مقارنتها بغيرها، وهذه المحاور سياسية واقتصادية وثقافية وهي: 
 
أولاً: إن دعم العلاقات بين دول «حوض النيل» سياسياً على المستويات الحكومية والبرلمانية ومؤسسات المجتمع المدني هي مسألة ضرورية بشرط أن تقوم على أسس واعية تحتوي الواقع ولا تحلق في الخيال، ولا تلوك العبارات العاطفية أو الحماسية في كل مناسبة، كذلك فإن لجنة سياسية مشتركة على مستوى رؤساء الحكومات هي فكرة مطروحة لإقامة جسور الحوار المستمر وتبادل الرأي والتفاوض حول الأزمات المحتملة بشكل استباقي يسمح بتجاوز كل ما من شأنه أن يعيق مسيرة العلاقات بين مصر ودول «الجوار الإفريقي». 
 
ثانيًا: محور اقتصادي يقوم على «دراسة مسحية» لاحتياجات كل دولة وسبل التبادل التجاري معها على أن تبحث مصر باعتبارها دولة رائدة في مشكلات أشقائها وتأخذ بيد كل منها مما تعانيه، فالمعونة الفنية تكون أحياناً أقوى من الدعم الاقتصادي، فالأمر هنا وفقاً للمثل الصيني يبدو وكأنه «تعليم للصيد بدلاً من إعطاء سمكة» خصوصاً وأن في الجعبة المصرية الكثير من المشروعات التنموية التي تجعل العلاقات «المصرية الإثيوبية» ربحاً للطرفين وفائدة للشعبين، وهنا نشير مرة ثانية إلى إمكانية منح مصر تسهيلات ل«إثيوبيا» في أحد الموانئ المصرية على البحر المتوسط للتصدير إلى أوروبا عندئذ نخلق جواً من التوافق ومناخاً لاستعادة الثقة التي هزها تجاهل مصري طويل واقتراب «إثيوبي» ب«إسرائيل» حيث يشتركان تاريخياً في الولاء لمملكة النبي «داوود» وابنه «سليمان».
 
ثالثاً: محور ثقافي « فلقد لفت نظري في يوم حفل تأبين الراحل د.«محمود المناوي» بمبنى «مكتبة جامعة القاهرة» حيث زرنا المتحف بصحبة رئيس الجامعة المتميز، وشهدنا مخطوطات إثيوبية قديمة لا تقدر بثمن، أي أن الروابط الثقافية بين البلدين تضرب بجذورها في أعماق التاريخ خصوصاً وأن «الحقبة القبطية» في تاريخ الدولتين تحوي محطات تؤكد التقارب الروحي والثقافي بين مسيحيي ومسلمي «الحبشة» و«مصر»، إن أمامنا آفاقاً واعدة للتعاون المشترك بين الدولتين شريطة وجود رؤية شاملة وسياسة مستمرة تربط بين البلدين بدلاً من العلاقات «الموسمية» التي تتأرجح صعوداً وهبوطاً وفقاً لبورصة المشكلات القائمة أو الأزمات الطارئة. 
 
أيها المفاوضون المصريون والسودانيون والإثيوبيون حول موضوع «سد النهضة» يجب التعامل معه في إطار تصور متكامل لمنظومة العلاقات الإقليمية والمصالح المشتركة عندها سوف نكتشف آفاقاً واعدة يمكن أن تجعل الجميع رابحين بدلاً من أن يكونوا خاسرين، أو يحقق أحدهم مزايا على حساب غيره وهو ما لن يحدث أبداً.
ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة
 
----------------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، 19-1-2016.

رابط دائم: