اتفاق "المناخ" بباريس.. تحول عالمي لمرحلة ما بعد النفط
16-12-2015

خالد سعد زغلول
* باحث في العلاقات الدولية في جامعة السوربون بونتيون، باريس 1، خريج المركز الدبلوماسي والاستراتيجي الفرنسي.
حمل مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ، الذي عُقدت دورته الحادية والعشرون في فرنسا، خلال الفترة من 30 نوفمبر وحتى 12 ديسمبر 2015 (COP21)، تحولات عالمية جديدة، إذ توصل المؤتمر، الذي شارك فيه ممثلو 195 دولة للمرة الأولى، إلى اتفاقية دولية تلزم جميع دول العالم بمواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري. 
 
وقادت فرنسا مفاوضات ماراثونية أثمرت إعلان هذا الاتفاق العالمي، بعد التغلب على الخلاقات بين دول الشمال والجنوب، وحتى بين الدول الصناعية الكبرى الأوروبية والأمريكية، وهو الأمر الذي دفع الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، للقول إن التاريخ يصنع اليوم في فرنسا، واصفا اتفاق باريس بانتصار للبشر والمصلحة العامة، وللتعددية، وأنه بمنزلة وثيقة تأمين صحي لكوكب الأرض ستساعد في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. 
 
الاتفاق جاء بعد أكثر من 30 سنة من المناقشات المعقدة حول المناخ، خصوصا بعد فشل مؤتمر كوبنهاجن في عام 2009. ولكي ينجح قادة الدول في التوصل إلى مثل هذه المعاهدة المصيرية الخاصة بالمناخ، استنفرت فرنسا كل طاقاتها من أجل الوصول إلى اتفاق عالمي ملزم يهدف إلى إنقاذ الأرض، فكانت من أشد الدول تحذيرا لهذه المخاطر حتى قبل استضافتها لقمة المناخ، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن مؤتمر باريس عُد تاريخيا بكافة المقاييس. فمع المشاركة التاريخية لزعماء الدول ورؤساء الحكومات، نحو 153 رئيس دولة وحكومة، أصبح هذا المؤتمر أهم التظاهرات الدبلوماسية التي تنظم خارج إطار الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان مؤتمر كوبنهاجن في 2009 قد جمع 120 رئيس دولة وحكومة.
 
 مضمون الاتفاق 
 
تضمن اتفاق باريس الدعوة إلى العمل على خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بشكل أكبر لإبقاء ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمية دون درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي. أضف لذلك مساعدة الدول النامية على مواجهة ظاهرة الاحتباس بنحو 100 مليار دولار سنويا في 2020، لتكون "سقفا" يمكن مراجعته بالزيادة، وذلك في استجابة لمطلب دول الجنوب منذ وقت بعيد. ويسرع اتفاق باريس، الذي سيدخل حيز التنفيذ في 2020، العمل على خفض استخدام الطاقة الأحفورية، مثل النفط والفحم والغاز، بعد أن وافقت الدول على تخفيض انبعاثات الكربون، والبدء في مبادرات تهدف إلى إنعاش التقنيات النظيفة، لتفادي خطر الكوارث، في حال ارتفاع حرارة الكوكب.
 
وتنطلق أهمية اتفاق باريس من أنه يتيح أيضا تسريع نمو الطاقات المتجددة بحسبانها أكثر حفاظا على البيئة، والتخلي التدريجي عن الطاقات الأحفورية المسئولة عن ارتفاع درجات المناخ. ذلك أن الطاقة المستمدة من الرياح، والشمس، ومن النووي يمكن أن تعوض عن الحاجة إلى إحراق الوقود التقليدي، وبالتالي تخفيف الآثار المترتبة على تغير المناخ.
 
 أضف لذلك أن الاتفاق يشجع أيضا على اللجوء إلى مصادر للطاقة المتجددة، ويغير أساليب إدارة الغابات والأراضي الزراعية، بل وحتى استراتيجيات الدول النفطية التي ستبحث عن طاقات متجددة وبديلة عن النفط والغاز، أو بامتلاك التكنولوجيا الحديثة، التي ظلت محتكرة من قبل الدول العظمى للحد من الانبعاثات الغازية التي تولدها المحروقات، مما يدخلنا إلى عصر ما بعد النفط، عبر تحول الاقتصاد العالمي إلى نمو منخفض الانبعاث، قادر على الصمود أمام التغيرات المناخية.
 
ويحسب للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند جهوده وحثه جميع الدول على الارتقاء بمسئولياتها لإنقاذ الأرض ومستقبل الشعوب، كما عكف ووزير خارجيته لوران فابيوس، رئيس المؤتمر، على إقناع رئيسي الولايات المتحدة والصين بالتوقيع، وهما المسئولتان عن 40% من الانبعاثات الحرارية؛ وكانت دولتاهما ترفضان دائما في كل القمم السابقة توقيع أية معاهدات، ولا سيما برتوكول كيوتو.
 
 ويرسم الاتفاق إطارا عاما ملزما للسنوات العشرين أو الثلاثين المقبلة، لاسيما مع زيادة الضغوط لخفض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، التي يُنحى باللوم عليها في ارتفاع درجة حرارة الأرض، بعد تحذيرات من علماء المناخ، ومطالب من ناشطين، ونصائح من زعماء دينيين، مصحوبة بتحقيق تقدم كبير في مصادر أنظف للطاقة مثل الطاقة الشمسية. وفي مواجهة مثل هذه التوقعات المثيرة للقلق، نفذ معظم  زعماء الدولة المسئولة عن نحو 90 % من انبعاث الغازات المسببة لارتفاع درجة حرارة الأرض وعدهم للرئيس الفرنسي بتعهدات بخفض إنتاج بلادهم من الكربون، وإن كان بدرجات متفاوتة.
 
 وكانت نقاط الخلاف الأساسية في مؤتمر باريس تعلقت بدرجة الحرارة التي يجب عدّها عتبة للاحترار، وعدم تجاوزها، و"التمييز" بين دول الشمال والجنوب في الجهود لمكافحة الاحتباس الحراري، مما يعني ضرورة تحرك الدول المتقدمة أولا باسم مسئوليتها التاريخية في انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وهذا ما تم أخذه فى الحسبان في الاتفاق.
 
 وعزز مؤتمر باريس الآلية الدولية المعروفة بـ" آلية وارسو" حول الأضرار من التغير المناخي. وتعد هذه المسألة حساسة بالنسبة للدول المتقدمة، خصوصا الولايات المتحدة، التي تخشى الوقوع في مساءلات قضائية بسبب "مسئوليتها التاريخية" في التسبب في الاحتباس الحراري. وتوصلت هذه الدول إلى إدراج بند يوضح أن الاتفاق "لن يشكل قاعدة" لتحميل" المسئوليات أو (المطالبة) بتعويضات. 
 
وكانت الأمم المتحدة قد عقدت مؤتمرا لتغير المناخ في نوفمبر 2013 في وارسو، حيث أقرت الأطراف المشاركة قراراً بإنشاء آلية وارسو الدولية حول الخسائر والأضرار، وإطار وارسو للمبادرة المعززة لخفض الانبعاثات الناجمة عن إزالة الأحراش، وتدهور الغابات في الدول النامية – وهي سلسلة مكونة من سبعة قرارات حول التمويل، والترتيبات المؤسسية، والقضايا المنهجية الخاصة بالمبادرة المعززة لخفض الانبعاثات الناجمة عن إزالة الأحراش، وتدهور الغابات في البلدان النامية.
 
لماذا نجحت باريس؟
 
انطلقت فرنسا من عدة مصادر قوة في المفاوضات الخاصة بالحد من الانبعاثات الحرارية، وتخفيف نسبة الكربون في الجو للوصول إلى تقليص درجات حرارة المناخ بمعدل درجتين مئويتين، وذلك في ضوء عدة أمور :
 
(*) إن فرنسا من البلدان التي تنتهج سياسات صارمة في مجال البيئة، فباريس تعد من أكبر الدول استخداما للطاقة النووية بنسبة85%، وهي الأقل ضررا بالبيئة،ـ والأقل تكلفة كذلك، علاوة على أن فرنسا من بين البلدان الصناعية الأقل تسببا بانبعاثات غازات الدفيئة. وما مكّن من تحقيق هذه النتائج هو استعمال مزيج من موارد الطاقة الكهربائية، يرتكز معظمه على الطاقة النووية، كما صدر قانون فرنسي خاص بعملية الانتقال في مجال الطاقة في أغسطس 2015. أضف لذلك أن فرنسا كثفت فرنسا كثفت من استخدامات وسائل النقل الكهربائية عبر السيارات العامة والحافلات، وحددت بعض الأيام في السنة تكون خالية من السيارات، وفرضت على من يخالف ذلك غرامات رادعة. 
 
 (*) افتتح الرئيس فرانسوا هولاند مؤتمر تغير المناخ بدقيقة صمت على أرواح ضحايا أحداث باريس، ثم حث زعماء العالم على تحمل المسئولية أمام التاريخ بالوصول إلى الاتفاق على نهج جديد لتغير المناخ، وتولت الحكومة الفرنسية إدارة المحادثات خلال الجلسات، وترأس هولاند مناصفة مع وزير خارجيته لوران فابيوس، ووزيرة البيئة والتنمية المستدامة، سيجولان رويال جلسات المؤتمر حتى نهايته، وذلك لكي يحل الاتفاق الجديد حول المناخ محل "بروتوكول كيوتو" في عام 2020، علما بأن هذا الأخير لا يشمل سوى 15% من الانبعاثات العالمية ولم تصدق عليه الولايات المتحدة، كما أنه لا يعني البلدان الناشئة.
 
 (*) سعت فرنسا إلى التوصل إلى اتفاق دولي لمكافحة التغير المناخي، والتي فشلت فيه جميع القمم الماضية، مستغلة في ذلك الربط بين استشعار العالم تحديات الارهاب التي ضرب باريس أخيرا، خاصة بعد تنامي ظاهرة "داعش". إذ طغى على قمة باريس تحديان رئيسيان لإنقاذ الكوكب، الأول: التغيير المناخي، أي الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، ودعم سياسات المناخ في البلدان النامية، بهدف حصر الاحترار المناخي، والآخر: ملف الارهاب الذي أصبح ظاهرة عالمية لتنسيق المواقف من أجل القضاء عليه عالمياً.
 
 (*) حددت فرنسا الهدف المنشود من قمة المناخ، وهو اتخاذ مجموعة من القرارات  المصيرية في ديسمبر 2015، استنادا إلى أعمال الدورة العشرين لمؤتمر الأطراف في ليما، عبر إبرام اتفاق طموح وملزم للتصدي لتحدي تغيّر المناخ، يسري على جميع البلدان، وتقديم الإسهامات الوطنية (الإسهامات المقررة المحدّدة وطنيا) التي تمثل الجهد الذي يعتقد كل بلد أن بوسعه تحقيقه، إضافة إلى وضع برنامج الحلول الذي يَجرُد جميع المبادرات المكملة للاتفاق الدولي، التي اتخذتها الحكومات والسلطات المحلية والجهات الفاعلة غير الحكومية على الصعيد المحلي، والتي تسهم في تعزيز الالتزامات التي قطعتها الدول في مجالات خفض انبعاثات غازات الدفيئة، والتكيف مع آثار تغيّر المناخ، والتمويل. ويرتكز برنامج الحلول هذا على تبادل الممارسات الجيدة، ونقل المعرفة والتقنيات الضرورية لتحقيق الانتقال إلى الاقتصادات منخفضة الكربون. 
 
(*) اهتمت الرئاسة الفرنسية للدورة الحادية والعشرين لمؤتمر الأطراف بمتطلبات المجتمع المدني، إذ مثلت التعبئة الجدية للمواطنين والجهات الفاعلة غير الحكومية أولوية لفرنسا. فقد جرى تنظيم لقاءات بانتظام مع ممثلي المجتمع المدني (المنظمات غير الحكومية، والمنشآت والنقابات وغيرها)، حتى حلول الدورة الحادية والعشرين لمؤتمر الأطراف، بغية جمع كل الآراء، وإشراك جميع النيات الحسنة في إنجاح المؤتمر. وأقامت فرنسا "قرية" مخصّصة للمجتمع المدني في المدينة التي عقد فيها المؤتمر.
 
مؤتمر المناخ وتحديات الكوكب
 
لا يمكن إدراك مدى أهمية التحول العالمي في مؤتمر باريس إلا في سياق التحديات المناخية التي يواجهها كوكب الأرض، والتي من أبرزها ما يأتي:
 
(*) اجتمع كافة علماء العالم على أن الأرض غداً ستصبح غير صالحة للحياة البشرية، إذا استمر العالم على هذه الوتيرة، وأن أي ارتفاع في الحرارة أكبر من ذلك سيكون له تأثير لا يمكن معالجته من موجات جفاف، وفيضانات متزايدة، وتراجع المحاصيل الزراعية، وسيشهد العالم عواصف شديدة، وتآكل السواحل، وارتفاع منسوب مياه البحر لتغرق مساحات واسعة من اليابسة بسبب خطر الاحتباس الحراري الذي يهدد باختفاء جزر ومدن بأكملها تحت سطح المحيطات والبحار، من بينها الإسكندرية، والجزائر، وطرابلس، وتونس، ونيويورك، ولندن، وسيدني، وشنجهاي، ونحو 17 مدينة كبرى، وأكثر من 2000 قرية ساحلية، ونحو مليار منزل في قارات العالم.
 
 (*) حذر العلماء من أن ارتفاع حرارة الأرض خمس درجات إضافية قد يجعل الكوكب خاليا من غاز الأوكسجين الضروري لاستمرار الحياة، لاسيما وأنه منذ الثورة الصناعية ارتفعت حرارة الأرض درجة واحدة. لكن علماء فرنسا اكتشفوا طرقا لتخزين نسبة غاز الكربون في الأرض بما لا يضر البيئة والمناخ بمعدل ضعف نسبته في الجو.
 
 في المقابل، يشير علماء أمريكيون لخطورة هذا التخزين. فرغم قدرة الأرض على امتصاص نسب الكربون بمليارات الأطنان اليومية، فإنه قد يسبب اختناقا وخللا في التوازن الغازي، لو تم تحريره.  كذلك، فإن الشعب البركانية، وبعض الكائنات البحرية مهددة بالانقراض بسبب زيادة امتصاص غاز ثاني أكسيد الكاربون في البحار والمحيطات.
 
(*) تشير بعض التقديرات إلى أن تكثّف الكربون في الهواء تجاوز معدل 400 جزئ في المليون (جزء في مليون جزء)، وهي أعلى قيمة يتم تسجيلها منذ بدء عمليات القياس. كما أن العقد الأول من هذا القرن كان الأكثر حرارة منذ عشرة آلاف سنة، حيث  سجل عام 2015 رقما قياسيا جديدا. ففي عام 2014، بلغت كمية ثاني أكسيد الكربون المنبعثة في الجو نحو 34 مليار طن. وتعد الصين، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والهند الجهات الرئيسية المسئولة عن الانبعاثات، فيما بلغت كمية الانبعاثات من سويسرا نحو 40 مليون طن. وكما هو معلوم، لا يُمكن للمحيطات والغابات أن تمتص سوى نصف الكمية الإجمالية من الانبعاثات.
 
 (*) يُهدّد ارتفاع درجات الحرارة، خلال فصل الصيف، بتحلل طبقة كتل الجليد السرمديّة المسئولة عن تماسك الجبال وصلابتها، وهو ما يُنذر بحصول المزيد من مخاطر الانزلاقات الأرضية في جبال الألب، الفرنسية والسويسرية، والتي تحتوي على 6000 من الأنهار الجليدية. وبالتالي، فمجرد زيادة 2,1 درجة مئوية من شأنه تذويب أكثر من 1436 من هذه الأنهار، وتقليص الحجم الإجمالي للكتلة الجليدية السرمدية بنسبة 37٪. كما تضم مرتفعات جبال الألب 2666 منتجعا للتزلج على الجليد، كبيرة ومتوسطة الحجم، ومن شأن زيادة بدرجة مئوية وحيدة القضاء على نحو ربع هذه المنتجعات. أما إذا بلغ الارتفاع 4 درجات مئوية، فلن يزيد عدد المحطات المتبقية على 600.
 
خلافات الشمال والجنوب
 
تباينت الآراء حول المسألة المتعلّقة بالمسئولية التاريخية عن ظاهرة الاحتباس الحراري، حيث رأت الدول النامية أن المسئولية تقع أولا على عاتق الدول الصناعية، التي تقول، بدورها، إن التفريق بين "أغنياء وفقراء" لم يعد له ما يبرره. وكان لبعض الدول الصناعية موقف دفاعي معارض لفرنسا، مثل سويسرا، حيث كانت تصرّ على أن تلتزم كل دولة ببرنامج منتظم لخفض الانبعاثات، تبعا لقدراتها وإمكانياتها، وأن التمييز بين دول صناعية، وأخرى نامية، تكون من بينها دول، مثل الصين، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، يجب أن ينتهي، خاصة أن نصف الانبعاثات العالمية (61٪) تتسبب بها حاليا دول ناشئة أو نامية.
 
 في المقابل، فإن الدول النامية، ولاسيما العربية والإسلامية، المعتمدة على الوفرة النفطية، خشيت من تضرر اقتصاداتها في حالة توقيع اتفاقية مناخ قد تقلص من إنتاجها، إضافة إلى مطالبتها بتوفير تكنولوجيا متطورة تحافظ على قوة الإنتاج من دون الإضرار بالبيئة، ولكنها اصطدمت باحتكار الدول العظمى لهذه التكنولوجيا، ورفض تصديرها. وبالتالي، فلم لم توقع هذه الدول الاتفاق إلا بعد تعديل النصوص القانونية للمعاهدة بما يسمح لها بامتلاك هذه التكنولوجيا الحديثة . 
 
من جانب آخر، شكلت طريقة تمويل سياسات المناخ في البلدان الأقل نموا تحديا أساسيا في مؤتمر المناخ، ذلك أن الدول الصناعية تعهّدت في كوبنهاجن بتوفير مبلغ 100 مليار دولار سنويا بحلول عام 2020، في حين أن الأموال العامة والخاصة التي تعهدت بها الدول المانحة بلغت في عام 2014 قريبا من النصف (نحو 62 مليار دولار) فقط.
 
 ومن وجهة نظر فرنسا، فإنه من الواجب على كل دولة قادرة أن تُعين غيرها من الدول المحتاجة، خاصة "أنها مسألة إنسانية". كما أكّدت ضرورة أن يؤمّن اتفاق المناخ الجديد في باريس استثمارات صديقة للبيئة. ولكن بقيت مجموعة من نقاط الخلاف معلقة حتى اللحظات الأخيرة، لاسيما تلك المتعلقة بمساعدة دول الجنوب لمواجهة تحديات التغيرات المناخية، وكذلك مصالح الدول والشعوب النامية التي لا تتفق ومصالح الدول الصناعية الكبرى التي لوثت البيئة، وصنعت تقدما اقتصاديا وعلميا، وتحاول إشراك دول النامية في تحمل الخسائر معها. 
 
وبعد 12 يوما من المناقشات الطويلة، سلم المفاوضون في قمة باريس حول المناخ  نسختهم المعدلة لـ16 مرة من مشروع الاتفاق العالمي لوقف ارتفاع درجات الحرارة في باريس، والتي تجاوزت خلافات الشمال والجنوب.
 
تمويل مكافحة تغير المناخ
 
شكلت مسألة تمويل مكافحة تغيّر المناخ إحدى ركائز الدورة الحادية والعشرين لمؤتمر الأطراف باريس، وغدا تأثير الصندوق الأخضر - الذي بلغ رأس ماله الأولي 9,3  مليار دولار- حاسما لبناء الثقة، وتعبئة المستثمرين من القطاع الخاص، خاصة أن الصندوق استهدف بالأساس دعم الدول النامية فى تسيير تنفيذ أنشطة التخفيف والتكيّف الواسعة مع تغير المناخ. وفي هذا السياق، برز عدد الجهود التمويلية لدفع الاتفاق العالمي لتغير المناخ، ومنها :
 
(*) تعهدت فرنسا وألمانيا بالإسهام في الصندوق بقيمة مليار دولار لكل منهما، ثم تبعتهما المملكة المتحدة التي قدّمت إسهاما ملحوظا بلغ زهاء 1,2 مليار دولار. وأخيرا، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الإسهام بقيمة 3 مليارات دولار. وقامت عدة بلدان بضخ مبالغ متواضعة أكثر في الصندوق في مؤتمر الرسملة الأول للصندوق في برلين، مثل بنما التي تعهدّت بتقديم مليون دولار. وبلغ مجموع البلدان التي تعهدت بتمويل ميزانية الصندوق للسنوات الأربع المقبلة اثنين وثلاثين بلدا. وتبقى عملية الرسملة الأولية مفتوحة لجميع المساهمين المعنيين. 
 
(*) تعهدت البلدان المتقدمة بصورة جماعية، في إطار اتفاقات كوبنهاجن وكانكون، بتعبئة الأموال للبداية السريعة ("fast start") في مكافحة تغيّر المناخ في البلدان النامية، بقيمة 30 مليار دولار للفترة من 2010 إلى 2012. كما تعهد الاتحاد الأوروبي بالإسهام  بسخاء في هذا الجهد، عبر تعبئة 7,2 مليار يورو، في إطار البداية السريعة للتمويل خلال ثلاث سنوات. وأوفت فرنسا بتعهداتها الدولية، مثلها مثل شركائها الأوروبيين، إذ عبّأت أكثر من 420 مليون يورو في السنة بين عامي 2010 و 2012 للبداية السريعة للتمويل.
 
(*) التزمت الوكالة الفرنسية للتنمية، في إطار خطتها الإنمائية الاستراتيجية للفترة من 2012 إلى 2016 ، بتخصيص 50٪ من المنح المالية السنوية التي تقدّمها للبلدان النامية لمشاريع في مجال المناخ. وأعطت مجموعة الوكالة الفرنسية للتنمية الإذن في عام 2012 بقطع تعهدات بقيمة 2,4 مليار يورو لتمويل 54 مشروعا في مجال المناخ ( مشاريع إنمائية ذات فوائد مشتركة في مجال مكافحة تغيّر المناخ) في البلدان النامية والأقاليم الفرنسية ما وراء البحار.
 
(*) عكفت فرنسا في اتفاق باريس على إقرار مساعدة الدول النامية لمواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري بمبلغ 100 مليار دولار سنويا في 2020. فقررت جميع الدول الصناعية تخصيص مئة مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمساعدتها على مواجهة التغيرات المناخية انطلاقا من عام 2020، وستكون "سقفا" يجب مراجعته لزيادته بحسب هذا الاتفاق. بينما نالت دول إفريقيا 10 مليارات دولار سنويا من 10 دول (فرنسا، وأمريكا، وألمانيا، وكندا، واليابان، وإيطاليا، وبريطانيا، والسويد، وهولندا، والاتحاد الأوروبي)، تتكلف فرنسا منها  مليارى دولار .
 
وقد وعدت فرنسا برصد ميزانية قيمتها مليارا يورو لتطوير الطاقات المتجددة، والانتفاع بالطاقة المستدامة في عدة دول إفريقية، بحلول 2020 .وبحسب ما أعلنه الرئيس فرانسوا هولاند، على هامش المؤتمر الدولي للمناخ، خلال قمة مصغرة جمعت حوله اثني عشر رئيس دولة إفريقية حول موضوع "التحدي المناخي والحلول الإفريقية"، يأتي هذا المسعى في إطار مواجهة تبعات الاحتباس الحراري مع زحف التصحر والجفاف في القارة السمراء. 
 
وتكتسب المساعدة الإنمائية في قطاع الطاقة أهمية قصوى من أجل مكافحة الفقر في الطاقة القائم حاليا، الذي يعيق التنمية في البلدان الأشد فقرا. ويجب على المساعدة الإنمائية أن تشجّع اعتماد الموارد المستدامة للطاقة، لكي تحقّق التوافق بينها وبين مسارات التنمية منخفضة الكربون.
 
(*) طلب اتفاق باريس من لجنة التكيف وفريق الخبراء المعني بأقل البلدان نموا وضع سبل للاعتراف بجهود التكيف في الدول النامية، وتقديم توصيات بهذا الشأن لينظر فيها مؤتمر الأطراف العامل. وذكر الاتفاق أن الموارد المالية المقدمة للدول النامية، في سياق تنفيذ الاتفاق، يجب أن تعزز سياساتها، واستراتيجياتها، وإجراءاتها المتعلقة بتغير المناخ في مجالي التخفيف والتكيف. وطلب من الأمين العام أن يفتح باب توقيعه في نيويورك لمدة عام، بدءا من الثاني والعشرين من أبريل 2016. 
 
كما تقرر إنشاء فريق عامل معني باتفاق باريس ليعد لدخوله حيز التنفيذ، ولعقد الدورة الأولى لمؤتمر الأطراف. وتتجلى هذه الأهداف بصورة ملموسة في خيارات فرنسا فيما يخص المساعدة الإنمائية. فمن بين المساعدات التي قدّمتها الوكالة الفرنسية للتنمية في مجال الطاقة منذ عام 2007، والتي بلغت 7,4 مليار يورو، استُعمل 5,8 مليار يورو في تنفيذ مشاريع في مجال الطاقة المتجدّدة، وكفاءة الطاقة.
 
التوجه للطاقة البديلة عن النفط
 
برغم اتجاه العالم نحو ثورة الطاقة المتجددة، فإن هناك عوائق بين دول كثيرة . ففي الصين والهند، يُنظَر إلى الطاقة المتجددة بطريقة مختلفة. فالدافع إلى التحول السريع نسبياً بعيداً عن الوقود الأحفوري في كل من البلدين ليس المخاوف بشأن تغير المناخ، بل الفوائد الاقتصادية التي يُعتَقَد أن مصادر الطاقة المتجددة تقدمها.
 
فبرغم أن الفوائد الاقتصادية المترتبة على استخدام مصادر الطاقة المتجددة قد تكون جذابة في نظر اقتصادات متقدمة، مثل فرنسا، وألمانيا، واليابان (هذه الدول تتحرك بسرعة بعيداً عن الوقود الأحفوري)، فإن المزايا بالنسبة لعمالقة الصناعة الناشئة مذهلة.
 
 فقد يؤدي المسار الاقتصادي القائم على الوقود الأحفوري إلى الكارثة بالنسبة للهند والصين، مع تسبب الجهود المبذولة لتأمين القدر الكافي من الطاقة لهذا العدد الضخم من السكان في البلدين في تصعيد التوترات الجيوسياسية. وبعيداً عن زيادة أمن الطاقة، فإن الاقتصاد منخفض الكربون من شأنه أن يعمل على تعزيز التصنيع المحلي، وتحسين نوعية البيئة المحلية، من خلال الحد من الضباب الدخاني في المدن، على سبيل المثال.
 
 من المؤكد أن الوقود الأحفوري أنعم على العالم الغربي بفوائد هائلة مع تحوله إلى التصنيع على مدى القرنين الماضيين. إذ كان الانتقال إلى اقتصاد يقوم على الكربون سبباً في تحرير الاقتصادات من القيود التي فرضتها نظريات توماس مالتوس القديمة. فبفضل إحرار الوقود الأحفوري، تمكنت مجموعة مختارة من البلدان، التي تمثل شريحة صغيرة من سكان العالم، من دخول عصر النمو الهائل، والذي بشر بإدخال تحسينات هائلة على الإنتاجية، والدخل، والثروة، ومستويات المعيشة.
 
وعلى مدى قسم كبير من السنوات العشرين الماضية، قادت الصين والهند حملة المطالبة بفوائد الوقود الأحفوري لبقية العالم. غير أنهما تحولتا أخيرا نحو تعديل نهجهما. ولأن استخدامهما للوقود الأحفوري يتلامس مع حدود جيوسياسية وبيئية، فقد اضطرتا إلى الاستثمار بجدية في البدائل، وأبرزها مصادر الطاقة المتجددة. وعبر القيام بهذا، وضع البلدان نفسيهما في طليعة التحول الكوكبي الذي قد يؤدي في غضون عقود قليلة إلى القضاء تماماً على استخدام الوقود الأحفوري.
 
والواقع أن الحجج الاقتصادية التي يسوقها البعض ضد مصادر الطاقة المتجددة ــ بأنها قد تكون مكلفة، أو متقطعة، أو غير مركزة بالقدر الكافي ــ يمكن تفنيدها بسهولة. وبرغم كثرة معارضي الطاقة المتجددة، فإن ما يحفزهم هو اهتمامهم بالحفاظ على الوضع الراهن للوقود الأحفوري والطاقة النووية أكثر من انشغالهم بأن توربينات الرياح أو مزارع الطاقة الشمسية ربما تفسد المشهد.
 
ومن غير المرجح أن ينتصر أولئك الراغبون في وقف توسع الطاقة المتجددة على الحسابات الاقتصادية البسيطة. ذلك أن ثورة الطاقة المتجددة ليست مدفوعة بضريبة مفروضة على الانبعاثات الكربونية، أو إعانات الدعم للطاقة النظيفة، بل إنها نتيجة لانخفاض تكلفة التصنيع الذي من شأنه أن يجعل توليد الطاقة من المياه، والرياح، والشمس قريباً أكثر فعالية من حيث التكلفة من توليدها بإحراق الفحم.

رابط دائم: