المعارضة السودانية تتجاوز معضلتها
25-10-2015

كمال الجزولي
*
منذ أن ألقت أمريكا قنبلتيها الذريتين على هيروشيما وناغازاكي، في أغسطس/آب 1945م، مع خواتيم الحرب الثانية، فأبادت مئات الآلاف من اليابانيين المدنيين، أضحى العنوان الأبرز لأي بحث علمي، أو عمل إبداعي، حول أي تفجير نووي، هو الرعب المزلزل مِن مجرد تصور النتائج التي يمكن أن تقع في «عقابيله»، مثلما أضحت عبارة «اليوم التالي the day after» هي المعادل اللغوي الذي يختزل هذه «العقابيل». 
وفي السودان، مع الفارق، ظل «اليوم التالي» يمثل «كعب آخيل» المعارضة السياسية، على مر أزمنة التغيير، وأزماته الثورية، في معنى «السياسات البديلة» التي يُفترض أن تحل محل السياسات القديمة، وبشكل أساسي خلال «الفترة الانتقالية» التي تعقب عملية التغيير مباشرة، والتي تتواثق أطراف المعارضة، عادة، على مداها الزمني، حيث تُجرى، خلالها، عمليات التغيير الابتدائية لنظام الحكم من الشمولية إلى الديمقراطية، ومن الحرب إلى السلام، بصرف النظر عن وسيلة التمهيد لهذا التغيير، سواء بالحوار/التفاوض، إن توفرت شروطه، أو بالانتفاضة الجماهيرية. لكن، أياً تكن الحال، فإن من أوجب واجبات المعارضة أن تتحسب لهذه «الفترة الانتقالية»، وأن تعد لها عدتها، مسبقاً، وعلى جميع الأصعدة الدستورية، والقانونية، والاقتصادية، والخدمية، والاجتماعية، وغيرها. 
 
بعبارة أخرى، لئن كانت «قنبلة التغيير» التي تتفجر بفعل الأزمات الثورية هي، في غالبها، من صنع الجماهير، فإن ما يتبقى على قوى المعارضة السياسية أن تنهض به، هو رفد ذلك الصنيع الجماهيري ب «سياسات بديلة» تملأ «الفراغ» الذي يحدثه وقوع هذه «القنبلة»، حتماً، منذ صبيحة «اليوم التالي»، حيث إن «الفراغ» مستحيل في السياسة، تماماً كما في الطبيعة! 
 
غير أن المعارضة ظلت تعجز، في كل مرة، عن طرح «السياسات البديلة» المطلوبة، قبل وقت كافٍ. وعلى العكس من ذلك، كان أقصى ما بلغته على شفا تغيير النظامين الشموليين السابقين، الأول ب «قنبلة أكتوبر» ضد نظام عبود عام 1964، والآخر ب «قنبلة إبريل» ضد نظام النميري عام 1985، هو توصلها، فحسب، وبشق الأنفس، وفي آخر لحظة، عشية إعلان الانتصار الجماهيري، بل في الساعة الخامسة والعشرين، إلى توافق شكلي على الحلف السياسي الذي يفترض أن يقود «النظام الجديد»، الأمر الذي لم يمكن التجربتين من صياغة «البديل» المطلوب، فأعجزهما، ومن ثمّ، بلوغ غايتهما الاستراتيجية في إرساء دعائم السلام والديمقراطية، مِما تسبب، في المرتين، في الإطاحة بنظاميهما، وإضاعة المكاسب العزيزة التي كانت الجماهير قد بذلت في سبيلها كل مرتخص وغالٍ من المهج والأرواح! 
 
واستطراداً، فإن ذلك هو نفس الدرس الذي لم تستوعبه، للأسف، تجارب «الربيع العربي» في المنطقة، حيث تمكنت، فقط، من إسقاط الشموليات، دون أن تتمكن من التوافق، في داخلها، على «سياسات بديلة» لمشروعات وطنية ديمقراطية تلتف حولها جماهير الشعب التي بادرت بتفجير «قنابل التغيير»، ما أدى لانتكاس ثوراتها في «اليوم التالي»! 
 
مؤخراً، ومع تصاعد احتمال وقوع تغيير قريب بأيٍ من الوسيلتين المار ذكرهما، تسارعت وتائر عمل المعارضة في تجاوز عوامل ضعفها الذاتي، وعبور الكثير من المطبات والعوائق التي تعترض طريقها، إلى أن بلغت، في السياق، وبدعم دولي وإقليمي قوي، تواثقين تاريخيين، «نداء السودان» في الثالث من ديسمبر/كانون الأول 2014، و«إعلان برلين» في السابع والعشرين من فبراير/شباط 2015، وقد مهد لهما «إعلان باريس»، قبل ذلك، في أغسطس/آب 2014، لولا أنه كان، على أهميته، مقتصراً على ضلعين فقط من أضلاع تحالف المعارضة، هما «الجبهة الثورية» و«حزب الأمة القومي». 
 
فأمّا «نداء السودان»، الذي أُبرم بأديس أبابا، ويعتبر بمثابة «الإعلان السياسي عن دولة المواطنة والديمقراطية»، فميزتاه الأساسيتان أنه، من جهة أولى، الأفضل في نوعه من حيث شمول المحتوى، وإحكام الصياغة، وقد ضم، من جهة أخرى، وبشكل حاسم وفعال لأول مرة خلال ربع قرن، قوى «المجتمع المدني»، ممثلة في ما أضحت تعرف ب «مبادرة المجتمع المدني»، إلى قوى المعارضة الثلاث الأخرى، وهي «الإجماع الوطني»، و«الجبهة الثورية»، و«حزب الأمة القومي»، مواصلة لإرث الثورة السودانية، وتقاليدها الراسخة منذ مطالع الاستقلال السياسي، ثم ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964، وانتفاضة إبريل/نيسان 1985. 
وأمّا «إعلان برلين» الذي أُبرم بين نفس الأطراف، بدعوة من الخارجية الألمانية، وتسهيل من منظمتي بيرقوف وSWP، توحيداً لمخاطبة جذور الأزمة السودانية، ودعماً لمجهودات المجتمع الدولي، ممثلاً في الاتحاد الإفريقي ولجنته رفيعة المستوى بقيادة تابومبيكي، ووصولاً لإجراء حوار قومي دستوري بين الحكومة والمعارضة يفضي إلى سلام شامل، وتحول ديمقراطي كامل، فقد أكد على استعداد قوى «نداء السودان» للمشاركة في هذا الحوار، وفق قرار الاتحاد الإفريقي/456، مع تشديدها على ضرورة استصحاب رؤيتها لتهيئة مناخه قبل الدخول فيه.
 
هذه المرة، وبخلاف المرتين السابقتين، باتت قوى «نداء السودان» أدنى للفلاح في اتخاذ موقف موحد ومتماسك حول قضية «البديل»؛ ثم ما لبث هذا الموقف أن أصبح أكثر جدوى، عندما كوّن هذا التحالف، ضمن هيكلته لنفسه، لجنة لصياغة «السياسات البديلة»، فدعت الأخيرة أكثر من 40 من الخبراء والناشطين، من الجنسين، إلى ورشة عمل التأمت بدار حزب الأمة القومي بأم درمان، من 14 إلى 17 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، حيث ناقشوا «سياسات» المشروع الوطني الديمقراطي «البديلة»، والمفضية، على المدى القريب، خلال «الفترة الانتقالية»، وكذلك على المديين المتوسط والبعيد، في ما يلي ذلك، إلى ترسيخ الديمقراطية، وتوطيد السلم، وعدالة التنمية.
 
رسمت الورشة خريطة طريق معقولة لتحقيق التوافق بين قوى «نداء السودان» حول المنهجية، والإطار العام، والقضايا المحورية لهذه «السياسات البديلة»، بما يصلح، أيضاً، للدفع به إلى طاولة الحوار العربية كأنموذج يمكن أن يُحتذى، وإلى ذلك اقتراح آليات النقاش، وتنظيمه، أثناء دراسة هذه «السياسات»، ووضع تصوراتها، وتطوير استراتيجية اتصال فعالة لإشراك المجتمع في تطويرها، بما في ذلك إشراك مكونات السودانيين، من الجنسين، في المغتربات والمهاجر، وتطوير خطة تفصيلية لإنتاج هذه «السياسات»، وتنفيذها، خلال «الفترة الانتقالية»، والأخذ في الاعتبار بالتحديات العملية لذلك، خصوصاً الميزانيات، والموارد المالية والبشرية، وسائر التحديات الموضوعية، التي من شأنها مجابهة هذه المهام داخلياً وخارجياً، والتوصل إلى توافق حول مبادئ وإطار العمل، بما يشمل القضايا والمحاور والمسائل التي ينبغي تناولها، كالاقتصاد، والقانون، والأمن والسلام، وغيرها، وكذلك المسائل ذات الصلة بمعوقات الانتقال، وما إليها، فضلاً عن فتح وابتدار النقاش الواسع حول طبيعة الدولة في «الفترة الانتقالية»، واجتراح الآليات المناسبة لذلك. 
 
وعلى أهمية وخطورة تلك القضايا جميعها، إلّا أن «الإصلاح العدلي» يشغل، بطبيعته، ومن باب أولى، مكانة متقدمة بينها، من حيث ترميم، إن لم يكن تثوير، نظام العدالة و«العدالة الانتقالية»، خلال «مدة الانتقال» على وجه الخصوص، بوجهيه الرئيسيين: الدستور والقوانين من جهة، والأجهزة المنوط بها تشريع، وحراسة، وتطبيق هذا الدستور وهذه القوانين من جهة أخرى، وذلك باتجاه تضميد الجراح، وتصفية تركة الماضي المثقلة، بغرض التمهيد للانتقال المنشود، وإزاحة كل العقبات التي من شأنها أن تعرقل طريقه، وبالأخص العوامل التي توسع من فرص «الإفلات من العقاب Impunity»، اتساقاً مع رؤية وجهود الاتجاهات الدولية الحديثة.
 
--------------------
* نقلا عن دار الخليج، 25-10-2015

رابط دائم: