الحاكم والشعب: زيارة نجيب محفوظ في ذكراه
3-9-2015

د. وحيد عبد المجيد
* مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام
لم يحصل نجيب محفوظ، الذي تحل اليوم الذكرى التاسعة لرحيله، على جائزة نوبل للآداب عام 1988 من فراغ. فهو ليس رائد الرواية العربية الحديثة فقط، بل أحد أكثر كتَّابها عمقاً واستقراءً للتاريخ واستلهاماً لدروسه. رسم صوراً قلمية مدهشة عبرت عن المجتمع المصري في مراحل عدة بعمق لم يتوفر مثله لكثير من علماء الاجتماع والسياسة والتاريخ، مستخدماً لغة جميلة أنيقة، لكنها صارمة كلغة العلم.
 
لذلك تحفل رواياته بما يمكن عدّه دروساً ملهمة نعود إليها في لحظات تاريخية فارقة، وبخاصة في مجال الحرية والديموقراطية والعلاقة بين الحاكم والشعب. وقد نجد الدرس الأعمق، والأوفر إبداعاً في التعبير عنه، في بعض ما أجراه محفوظ على لسان أنيس زكي في رواية «ثرثرة فوق النيل» الصادرة عام 1966، وفي تكوين شخصيته وهربه المستمر من واقع مؤلم. لا يشارك أنيس عادة في الحوارات التي تدور في العوامة التي تُمثّل المكان الرئيسي في الرواية، بل يناجي نفسه. وذات ليلة خرج إلى الشرفة وتخيل أنه استدعى الحكيم المصري القديم إيبو-ور ليُحدّثه عما قاله لفرعون في عصره (والذي اضمحل فيه كل شيء إلا الشعر) كما وصفه.
 
وأقبل الحكيم وهو ينشد، وكأنه يخاطب جمال عبد الناصر آنذاك، وغيره ممن يبدو أنهم «مستبدون عادلون» يبحث الناس لديهم عن «الخلاص»: «إن غرماءك كذبوا عليك... هذه سنوات حرب وبلاء... لديك الحكمة والبصيرة والعدالة... لكنك تترك الفساد ينهش البلاد... أنظر كيف تُمتهن أوامرك... فهل لك أن تأمر حتى يأتيك من يُحدّثك بالحقيقة».
 
ويشرح محفوظ هنا ببساطة شديدة وعبر إسقاط تاريخي كيف يصبح الحاكم الفرد المطلق أسير الحلقة الضيقة التي تحيطه، على نحو يتعذر معه أن يكون عادلاً. فقد شغله خطر الحكم المطلق، وقرع في روايات عدة أجراس إنذار متنوعة للتنبيه إلى عواقبه الوخيمة. ومما حرص على التنبيه إلى خطره ظاهرة عبادة الفرد أو البطل.
 
وفي رواية «قصر الشوق» الصادرة عام 1957 قدم درساً في شأنها يتجلى في مخاطبة حسين شداد صديقه جمال عبد الجواد المسحور بـ «بطولة» الزعيم سعد زغلول قائلاً: «أنت تجد دائماً وراء الأمور إما الله أو سعد زغلول».
ويُلقي محفوظ في رواية «الباقي من الزمن ساعة» الصادرة في 1982 ضوءاً على ما يحدث لمن يعبدون البطل حين يسقط، وصدمة بعضهم وعدم قدرتهم على استيعاب تحول الدفة بسرعة في اتجاه معاكس، عبر أسئلة أجراها على لسان منيرة وسهام ورشيد (من أسرة حامد برهان) بعد رحيل عبد الناصر وانطلاق حملات الهجاء ضده: «ألم يعبدوه بالأمس؟ ألم يكن القائد الزعيم المعلم الملهم؟ من نصدق الآن؟».
 
وتنطوي رواية «يوم قتل الزعيم» الصادرة عام 1985 على ما يكمل هذا الدرس، إذ يُجري محفوظ على لسان محتشمي زايد نصيحة إلى حفيده علوان الذي ظل مُتحسّراً بسبب فقد «البطل الراحل»: «إن قاموسك لا يحوي إلا بطلاً واحداً. قضيتَ فترة متلقياً مسحوراً. وتقضي الأخرى متحسراً حائراً». أما رندة خطيبة علوان فتراه ضحية لزمن عبادة البطل الذي تصفه بأنه «زمن شعارات مقزز... وبين الشعار والحقيقة هُوة سقطنا فيها ضائعين».
 
واستخدم محفوظ عبارة عبادة الحكومة حين لم يكن هناك حاكم مطلق، بل حكومات مستبدة في بعض فترات المرحلة شبه الليبرالية 1923 - 1952، كما فعل في الحوار الذي أجراه بين كمال ورياض في رواية «السكرية» الصادرة عام 1957 حول شابين احتُجزا في قسم الشرطة وكان أحدهما شيوعياً والثاني من «الإخوان المسلمين».
 
فقد سأل رياض: أما من جديد عنهما. وأجاب كمال: لقد رُحِّلا مع كثيرين إلى معتقل الطور. فتساءل رياض باسماً: الذي يعبد الله والذي لا يعبده؟ فجاءت إجابة كمال حاملة المعنى المراد: يجب أن تعبد الحكومة أولاً كي تعيش مطمئناً.
ولم يغفل محفوظ أن تداعيات الحكم المطلق، وذروتها «عبادة الفرد»، لا تقتصر على الداخل بل تمتد إلى الخارج. لذلك بدا حريصاً على التنبيه إلى ذلك عبر التذكير بالثمن الفادح الذي دفعه العرب جميعاً من جرّاء التدخل المصري في صراع داخلي في اليمن على بُعد آلاف الكيلومترات في الستينات.
 
ففي ثنايا حوارات ممتدة بين أفراد أسرة حامد برهان المتنوعة تجاهاتهم في «الباقي من الزمن ساعة»، يُجري على لسان الابن الأكبر محمد قوله ساخراً: «أسمعتَ ما يُقال عن أغنية أم كلثوم «هسيبك للزمن»؟ يقال إن الأصل هو «هسيبك لليمن».
كما اهتم محفوظ، في إطار إيمانه بالديموقراطية، بالويلات التي تجرها الفاشية، وما يشبهها، على البشرية. وبدا ملهماً في تنبيهه إلى خطر الوقوف مع الفاشية اعتقاداً بأن عدو عدوي صديقي، عبر تضمين رواية «السكرية» حواراً حول ميل مصريين كثيرين إلى دعم هتلر وموسوليني في الحرب العالمية الثانية كراهاً بالإنكليز المحتلين بلدهم. وفي هذا الحوار يسأل رياض سؤالاً يحمل في طياته الدرس المقصود: «ألسنا ديموقراطيين يهمنا أن تنتصر الديموقراطية على الفاشية التي تضعنا في جداول الأمم والأجناس في أحط طبقة، وتثير شحناء العنصرية والطائفية؟». ويمتد هذا الدرس الديموقراطي ليشمل كيفية خداع الناس وإيهامهم بما يستحيل تحقيقه للسيطرة عليهم وإخضاعهم، إذ يُجرى على لسان أحمد شوكت في «السكرية» ما يفيد هذا المعنى: «من المضحك أن الفلاحين يظنون أن رومل سيوزع الأرض عليهم».
 
ولا تخلو أعمال محفوظ من دروس ديموقراطية جزئية في هذا المجال أو ذاك من مجالات الحياة السياسية. وننتقي منها تنبيهه المبكر جداً إلى أخطار المال السياسي وشراء أصوات الناخبين في الانتخابات العامة. فعلى لسان المعلم كرشة روى في «زقاق المدق» الصادرة عام 1947: «إذا كان المال هو غاية المتنابذين في ميدان السياسة، فلا ضير أن يكون كذلك غاية الناخبين المساكين». وعلى كثرة الدروس الديموقراطية في أعمال محفوظ، يبقى درس تشتد الحاجة إلى استلهامه في مصر الراهنة، وهو يرد عرضاً في رواية «قشتمر» الصادرة في 1988 على لسان صادق صفوان، خلال حوار حول تقييم التجربة الناصرية وعلاقتها بتجارب مماثلة وإمكان إعادة إنتاجها، وهو: «سيزيف يصعد الجبل من جديد».
 
-----------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، 30-8-2015

رابط دائم: