لماذا تفجّرت الوطنية في المشرق العربي؟
2-8-2015

فؤاد خليل
*
1 ـ عصْفٌ جوفي:
 
منذ ثلاثة أعوام، طغى الصراع الاقليمي والدولي على المشهد في المشرق العربي. وقد انتظم هذا المشهد في ثلاث ديناميات قاتلة، تتنابذ وتتحارب ويضرب تحاربها عميقاً في وجود الدولة والمجتمع المشرقيين، ناهيك عما تشاركت به حول هدف واحد، هو ضرب المدني الديموقراطي الذي ميّز الحراك العربي في لحظته الاولى او في بداياته الرائعة. وهذه الديناميات هي: دينامية نظام الاستبداد العربي، الملكي والجمهوري، ودينامية الاستبداد الديني التي تتمثل في الاسلام السياسي المتطرّف بأسمائه المتنوعة، ودينامية التدخل الكولونيالي الغربي التي تدير المسار الصراعي بين الأولين، بما يخدم مصالح قوى التدخل في الاقتصاد والامن والسياسة.
 
ومما نجم عن هذا المساق هو عصف جوفي في بنى النسيج المجتمعي في دول المشرق العربي وبخاصة في العراق وسوريا. فتفجرت الوطنية في هذين البلديْن وتفسّخ بنيان المجتمع الى جماعات متجاورة ومتنابذة، بحيث عادت كل جماعة منها الى هويتها الأولية ما قبل الوطنية (القبلية ـ الاثنية ـ المذهبية ...الخ)، ودخل الجميع في حرب دهريّة ضد الجميع، ونشأ مشهد ما قبل قروسطى يعود بالمشرق العربي الحضاري الى زمن موصوف هو زمن البرابرة الجدد.
 
2 ـ أسئلة صريحة:
 
هنا يفرض النظر النقدي طرح بعض الأسئلة من دون حرج او مواربة، وبخاصة بعدما تعرى المجتمع أمام حقائقه المادية الصلبة.
لماذا تفجرت الوطنية في العراق وسوريا؟ ما هي الديناميات التي ادّت الى تفجرها؟ وقبل هذا وذاك، هل كان هناك حقاً وطنية في ذينك البلدين؟ ما هي طبيعتها؟ او ما هو قوامها الفعلي؟ قد تكون هذه الاسئلة صادمة بعض الشيء. لكننا لا نروم من خلال الاجابة عنها جلد الذات المشرقية او الانسياق الذيلي وراء الاحداث كما تفعل أقلام حاقدة، بل اننا ننطلق من فهم مختلف لمعنى الوطنية من داخل شروط ملموسة تعود لمجتمعات تتصف بالاختلاف والتنوع الشديدَيْن في تراكيبها البنيوية.
 
3 ـ تفجّر الوطنية:
 
لم يأتِ تفجر الوطنية او انحلالها في بلدان المشرق العربي بعامة، وبالسهولة التي حصل فيها، كنتيجة لدينامية التدخل الكولونيالي فقط، كما ترى نخب واسعة ممن اسرتها الايديولوجيا واعتادت ان تحجب الملموس الواقعي بتحليل خاوٍ يعيد كل موبقاته الى العامل الخارجي، بل ان تفجرها أتى بالدرجة الاولى من هشاشة اللحمة المجتمعية الداخلية او من القابلية المجتمعية للانسياق وراء سياسة الفعل الخارجي.
 
وفي هذا الصدد، ينبئنا الملموس الواقعي المشرقي، ان الاحتلال الاميركي للعراق تعامل مع العراقيين انثروبولوجيًّا، اي انه صنفهم قبائلَ وطوائفَ وإثنيات. وقد جاء هذا التصنيف ليخدم مصالحه المعروفة، ويعبر في الوقت نفسه عن النظرة الاستعلائية التي يأخد بها الغرب الكولونيالي عامة ازاء الشعوب غير الغربية. لكن الصدمة الحقيقية لم تكن في التصنيف الاميركي، بل بقبول العراقيين له والانغماس الكلي في تداعياته على الصعد كافة. وقد جاء هذا القبول يثبت من دون لبس او غموض، انه ما إن انهارت السلطة العصبية، الحاكمة في الدولة العراقية، حتى تلاشت اللحمة المجتمعية الداخلية، وتفجّرت في إثر ذلك الوطنية العراقية التي كانت قائمة بفضل استبداد تلك السلطة العصبية، وعادت الجماعات الى الاحتماء بهوياتها الاولية. وحين تنامى حضور الاسلام السياسي المتطرف وبخاصة تنظيم «داعش»؛ وجد ارضية خصبة وملائمة لمشروعه التدميري. فدينامية استبداده عمقت مسار التفكك المجتمعي وغلّبت الجماعات على المجتمع، ودفعت بتفجّر الوطنية الى الحدود القصوى تحت عناوين إلغاء الآخر المختلف مادياً ورمزياً وكسر الحدود واعلان الخلافة بامرة خليفة «يعتمر عمامة سوداء»!
 
ويفيدنا الملموس الواقعي ايضاً، انه ما إن ضعفت السلطة العصبية الحاكمة في سوريا نتيجة الصراع التناحري بينها وبين الجماعات المسلحة، وما اتخذه من اشكال صافية من الحرب الاهلية المذهبية، حتى تفسّخت الوطنية السورية التي أنبنت بفعل قمع تلك السلطة، وانتعشت الهويات الاولية ورسمت الجماعات معازلها الخاصة في السياسي والمجتمعي والنفسي والجغرافي على قاعدة تلك الهويات، الملجأ الآمن لها. ولم تعد الجماعات الى ملجأ كهذا فقط بسبب التدخل الاقليمي والدولي في الصراع الداخلي السوري، بل ارتكزت اليها في المقام الاول لان الاستبداد السلطوي ألغى اي خيار آخر تلجأ اليه، وجعلها عارية من اي انتماء غير الانتماء الاهلي...
 
4 ـ وطنية صورية:
 
لقد بنت السلطة العصبية الاقلوية في العراق قبل الاحتلال والاكثروية بعده، والسلطة العصبية الاقلوية في سوريا الحاكمة منذ اربعة عقود ونصف، وطنية صورية او شكلانية فرضها قمع تلك السلطة هنا او هناك لمكونات التنوع المجتمعي، الاثني والطائفي والمذهبي تحت غطاء من الشعارية الايديولوجية التي تزعم تارة العداء ضد الكيان الصهيوني لتأبيد النظام الحاكم، وتدعي في اخرى الحرص على وحدة الشعب في البلد، وهي وحدة كان يعبّر عنها فولكلور مقيت قوامه شيخ ومطران، وبينهما يقف رئيس يمثل الاستبداد ويختزل في شخصه «فضيلة الحكمة في كل شيء»!
 
اما الوطنية الصورية، فقد اقتصرت على الانتماء الى وطن له كيان دولتي محدد دستوريا وقانونياً. لكن ما إن ضعفت السلطة العصبية الحاكمة، حتى تمزّقت تلك الوطنية وتهددت الدولة في وجودها الشرعي، ودخل الوطن في خطر التشظي الى خرائط جديدة.
 
5 ـ العروبة هي الوطنية:
 
ان مفهوم الوطنية في النظر السوسيولوجي لا يقتصر بالطبع على بطاقة الهوية الفردية؛ إذ إن صورة الوطنية هذه تبقى معرّضة في إثر كل صراع تناحري للتآكل من الهويات المفردة؛ بل يفترض المفهوم في الشروط المجتمعية الملموسة في كل من سوريا والعراق، بناء المشترك البنيوي في مجتمع شديد التنوع، وهو ما جرى تقويضه المنظم من سياسة الاستبداد في البلدين على غير صعيد.
 
أما النظر اعلاه، فيحيل الى ان التنوع في مجتمع واحد يشترط وجود مشترك تختلف عنه المكونات المتنوعة، إذ من خلاله تتحدد طبيعة الاختلاف بينها؛ والى ان المشترك يشترط وجود تنوع تتشارك به المكونات، اذ من خلاله تتحدد طبيعة المشترك الذي تتشارك في وجوده.
 
وعليه، فان المكونات المتنوعة في كل من سوريا والعراق تتشارك في التاريخ واللغة والثقافة واشكال التنظيم المجتمعي. وهذا المشترك يتصف بطبيعة واحدة او كينونة موصوفة هي العروبة. ما يعني ان العروبة هي الرابطة الوحيدة التي تشاركت في بنائها المكونات، وإن بقدْر متفاوت بين كل منها، او أنها الرابطة الوحيدة الجامعة في المجتمع الواحد، التي تأتلف التنوع بحيث تغتني به ويغتني بها.
 
وبذلك، تكون العروبة التي تتأسس على المشترك البنيوي هي المادة السوسيولوجية للوطنية المتساوقة مع الديموقراطية اي الاعتراف بالتنوع وصونه في المجال المجتمعي الواحد، ومع العلمانية، اي فك اسرها من كل دين من اديان المكونات المتنوعة، وبالتالي مع بناء دولة مدنية حديثة.
 
والحال، فان العروبة تحتاج الى بناء المشترك في ضوء هذه المعاني التي تشكل النقيض للعروبة الرسمية اي العروبة المؤدلجة كما طبقت في سوريا وفي العراق، والتي مورس باسمها تقويض المشترك وقمع المكونات المتنوعة في آن، ما جعل الهويات الاولية تنتظر اللحظة المؤاتية حتى تضرب في وحدة الدولة والمجتمع.
 
ان العراقية والسورية و... ليستا إلا وطنية صورية. لكن الصورة تحتاج بالضرورة الى مادة. ومادة الوطنية لا تكون إلا بالعروبة، اذ من دونها ترانا نعود الى الكهوف والمغاور ليس بالمعنى الجغرافي فحسب، بل بالمعنى السوسيولوجي، اي سيادة الانتماء القبلي والطائفي والمذهبي. وتلك سيادة تقودنا الى حرب اهلية قد نعرف كيف تبدأ، لكننا لا نعرف متى ستنتهي.
 
--------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 1-8-2015.

رابط دائم: