الطائفية تهدد المستقبل العربي‮.. هل تستمر الحروب المذهبية عقودا؟
16-8-2015

د. أبو بكر الدسوقي
* مستشار تحرير مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام
تتعاظم التحديات التي تواجه العالم العربي في ظل تداعيات وتطورات الربيع العربي، حيث سقطت أنظمة إستبداية تحت وقع الثورات الشعبية في عدة دول رئيسية‮.‬ وكان من المأمول أن تنطلق المنطقة إلي آفاق أكثر رحابة من الديمقراطية والاستقرار، لكن ميادين الثورات تحولت إلي ساحات للخلاف،‮ ‬والتناحر،‮ ‬والقتال علي السلطة،‮ ‬ومحاولات الاستئثار بها، وبالتالي شهدت المنطقة حالة من الفوضي،‮ ‬وعدم الاستقرار، تراجعت فيها قدرات الدولة علي ممارسة سيطرتها ونفوذها، فشهدنا حالة‮ "‬الدولة الرخوة‮"‬، التي شكلت بيئة مواتية لتنامي الجماعات الإرهابية، مستغلة الفراغ‮ ‬السياسي والأمني الناشئ في تلك الدول‮. ‬وارتبط ذلك بحالة‮ ‬غير مسبوقة من تدخلات دول الجوار الإقليمي،‮ ‬لاسيما إيران وتركيا، فضلا عن إسرائيل التي تراقب الأحداث عن كثب، وتسعي لضمان أمنها المطلق،‮ ‬واستمرار احتلالها للأراضي العربية، ورفضها استئناف مفاوضات التسوية مع الفلسطينيين، في ظل حالة من الانشغال العربي بالتطورات الداخلية، واشتباك أطرافه في صراعات إقليمية أخري‮.‬
 
ولكن من خلال قرءاة مدققة للأحداث،‮ ‬نجد أن الطائفية‮ - ‬المذهبية تعد بمنزلة القاسم المشترك في معظم المشكلات أو التحديات الآنية التي تواجه العرب، خاصة الصراع المذهبي بين السنة والشيعة‮.‬ فالتدخل الإيراني في المنطقة العربية يتم علي أساس رغبة عرقية مذهبية لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية في شكل دولة دينية تنتصر للمذهب الشيعي، وتستخدم الطائفية كأداة لتحقيق أهدافها السياسية، كي تكون عاملا حاسما في العديد من الملفات الإقليمية بما يعزز من دورها ومصالحها‮.‬
 
كذلك،‮ ‬تسعي تركيا لاستعادة نفوذ وهيبة الخلافة العثمانية في الشرق العربي،‮ ‬علي الأقل من منظور قومي ديني ينحاز إلي الخلفية التي تنتمي لحزب العدالة والتنمية ذي التوجهات الدينية‮. ‬ولا يخفي الإسلام السياسي الذي حكمت جماعاته وأحزابه في مصر وتونس‮. ‬ورغم أنها إحدي الدول المرشحة لتكوين حلف سني لمواجهة المد الشيعي الإيراني في الإقليم، فإن سياستها التي تضع سقفا لانضمامها في هذا الاتجاه تتسم بقدر كبير من البرجماتية والمرونة،‮ ‬حفاظا علي مصالحها‮. ‬كما أن نتائج الانتخابات البرلمانية التي أجريت في‮ ‬7‮ ‬يونيو‮ ‬2015،‮ ‬وفقدان حزب العدالة والتنمية الأغلبية التي كانت تؤهله لتشكيل حكومة قوية قد يخلقان حالة من عدم الاستقرار تؤدي إلي الانشغال بالوضع الداخلي أكثر من أي وقت مضي،‮ ‬منذ أكثر من عشر سنوات‮.‬
 
وفي هذا السياق،‮ ‬يتنامي دور قوي الإرهاب‮ (‬داعش علي سبيل المثال‮) ‬نتيجة تطرف السلطة السورية في استخدام القوة والعنف ضد المتظاهرين السنة، أو كرد فعل لما قامت به‮ "‬الميليشيات الشيعية‮" ‬من أعمال عنف ضد المسلمين السنة في العراق، هذا فضلا عن اختلاف تنظيم‮ "‬داعش‮"‬،‮ ‬سني المذهب،‮ ‬مع‮ ‬غالبية أهل مذهبه في‮ ‬غلوه وفهمه المتشدد للدين، وبعده عن قيم الإسلام الصحيح‮.‬
 
وهناك اقترابان في النظر للصراع الطائفي‮ - ‬المذهبي في المنطقة العربية، الأول يري أنه السبب في جميع الصراعات التي تحدث في الإقليم، حيث نجد أن كل السياسات الإقليمية تتقاطع مع ملف الطائفية‮.‬ فقد أجادت إيران اللعب علي وتر الطائفية في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق وما بعد انسحابه، ونجحت في السيطرة علي مفاصل الدولة العراقية، عن طريق التمويل،‮ ‬والإعداد،‮ ‬وتكوين الميليشيات الشيعية المسلحة، وهو الأمر الذي دفع ثمنه المسلمون السنة في العراق تهميشا،‮ ‬وتمييزا،‮ ‬وقتلا،‮ ‬وتشريدا‮.‬
 
وقد قدمت إيران مساعدتها اللامحدودة لحزب الله في لبنان،‮ ‬وأصبح أحد أذرعها السياسية والعسكرية‮  ‬المتحكمة والمعطلة للحياة السياسية في لبنان، وفي تنفيذ سياساتها الإقليمية في لبنان وسوريا لاحقا، وأيضا في مواجهة إسرائيل‮.‬ كما قامت إيران بدعم الجماعات الشيعية سياسيا،‮ ‬وماليا،‮ ‬وعسكريا،‮ ‬مثل فيلق‮ "‬القدس‮" ‬الشهير الذي يقاتل مع النظام السوري ضد مواطنيه‮.‬ كما أصبحت طهران محركا رئيسيا للشيعة في كل من البحرين واليمن ضد شرعية النظم القائمة، وقد يحدث هذا مع الشيعة في شرق السعودية‮.‬
 
ولا تتواني طهران عن دعم حلفائها في المنطقة،‮ ‬مثلما هو الحال في دعمها لنظام بشار الأسد الذي ينتمي للطائفة العلوية الشيعية في مواجهة الثوار المنتمين للسنة‮.‬ فرغم أن التعاون بينهما ظل سياسيا علي أساس أن حكم آل الأسد كان علمانيا قوميا،‮ ‬فإن تطورات الأحداث أصبغته بالطائفية، سواء باستقطاب العلويين في المراكز المهمة في الدولة،‮ ‬وتهميش الآخرين، أو في دفاع العلويين باستماتة عن حكم آل بشار الأسد، الذين باتوا يستشعرون القلق علي مصيرهم في حالة سقوط النظام‮.‬
 
والشيء بالشيء يذكر،‮ ‬فإن القوي السنية تنبهت للسياسات الشيعية لإيران،‮ ‬سواء في محاولات مد النفوذ،‮ ‬أو نشر التشيع‮.‬ وكان الأمير الأردني الحسن بن طلال أول من أشار لمصطلح‮ "‬الهلال الشيعي‮" ‬في إشارة منه لمحاولات إيران التمدد من العراق،‮ ‬مرورا بسوريا ولبنان‮.‬ كما سارعت السعودية والدول الخليجية للتصدي لهذه المحاولات في الخليج العربي، ومحاولة دعم المسلمين السنة في العراق،‮ ‬ولبنان، والوقوف إلي جانب المعارضة السورية المعتدلة في سوريا، واستخدام كل أوراق الضغط علي الإدارة الأمريكية لإسقاط نظام الأسد،‮ ‬أو علي الأقل دعم المعارضة السورية بالسلاح‮.‬ لكن الولايات المتحدة رفضت ذلك لفترات طويلة، خشية أن يحدث استنساخ لتنظيم‮ "‬القاعدة‮"‬،‮ ‬علي نحو ما فعلت في أفغانستان سابقا‮.‬
 
ولم يقتصر التوظيف السياسي للطائفية علي الدول،‮ ‬بل تعداها لمصلحة فاعلين من‮ ‬غير الدول،‮ ‬سواء في شكل الهيئات الدينية،‮ ‬أو تنظيم‮ "‬داعش‮" ‬الذي يحرص علي تقديم نفسه علي أنه يمثل القوة السنية الوحيدة القادرة علي التصدي للتمدد الشيعي في المنطقة‮.‬ وفي هذا الإطار،‮ ‬أعلن تنظيم‮ "‬الدولة الإسلامية‮" ‬مسئوليته عن التفجيرات التي استهدفت الأقلية الشيعية التي تقيم في المنطقة الشرقية بالمملكة السعودية‮.‬ كما أعلن التنظيم ذاته أنه يسعي لتطهير الجزيرة العربية من الأقليات الشيعية، الأمر الذي يخشي معه أن يكون لـ‮ "‬داعش‮" ‬خطط أخري، محددة الأهداف الشيعية في السعودية،‮ ‬مما يهدد بنشوب مواجهة طائفية هناك‮.‬
 
والأمر اللافت هنا،‮ ‬أيضا،‮ ‬أن الدول كانت تستخدم الأداة الطائفية برشادة وحكمة أحيانا، فما بالنا إذا مارست هذه السياسات جماعات التطرف والإرهاب، التي تتسم بالغوغائية والفوضي؟، وماذا
إذا نجح تنظيم‮ "‬القاعدة‮" ‬أو‮ "‬الدولة الإسلامية‮" ‬في استهداف المراقد الشيعية في العراق، أو قيام إيرانيين متطرفين في التسبب بضرر كبير أثناء موسم الحج في السعودية، أو نجاح أي طرف منهما باغتيال شخصية كبري منتمية للطرف الآخر؟، أغلب الظن أن المنطقة ستشهد حروبا أكثر دموية وأكثر كارثية‮  ‬من حرب الثلاثين عاما الدينية التي شهدتها أوروبا في القرن السابع عشر بين البروتستانت والكاثوليك‮.‬
 
وهناك اقتراب آخر يري أن المنطقة قد شهدت حقبا زمنية طويلة من التعايش بين كافة الأديان والمذاهب،‮ ‬ولم يحدث صدام دموي بينها، حيث شهدت الفترة التالية للحرب العالمية الثانية ذلك، إلي أن جاءت الثورة الإسلامية الإيرانية عام‮ ‬1979،‮ ‬وسعت إلي تصدير الثورة، وتمكين الشيعة في الإقليم، واستفزت بتحيزها للمذهبي‮ (‬الشيعي‮)‬،‮ ‬والعرقي‮ (‬الفارسي‮) ‬دول الخليج وفي مقدمتها‮  ‬المملكة السعودية التي تعد نفسها إحدي زعامات العالم السني،‮ ‬بل العالم الإسلامي‮. ‬فالصراع القائم قبل ذلك في المنطقة كان صراعا أيديولوجيا، فقد كان الوفديون في مواجهة الناصريين، والقوميون في مواجهة الشيوعيين، لكنه لم يكن صراعا طائفيا‮.‬
 
ويري أنصار هذا الاقتراب أن الإقليم ليس طائفيا بطبعه رغم تنوعه الطائفي الفريد، وأن الطائفية ما هي إلا نتيجة للصراع الإقليمي والدولي في الإقليم،‮ ‬وليست سببا له، ويروجون لذلك بالعديد من الأمثلة، كالتعاون بين إيران‮ (‬الشيعية‮)‬،‮ ‬وحماس‮ (‬السنية‮)‬، والتعاون الاقتصادي بين إيران ذاتها ودول الخليج، وكذلك حدوث صراعات واضطرابات كبري في مصر،‮ ‬وليبيا،‮ ‬وغيرهما علي أسس‮ ‬غير مذهبية‮.‬
 
وأيا كان الوضع،‮ ‬سواء كانت الطائفية سببا أو نتيجة، فإن تداعياتها تظل قائمة وخطيرة،‮ ‬وتهدد إقليم الشرق الأوسط بالانفجار في أي لحظة‮.‬ فقد يتسبب الاستخدام المفرط للطائفية في انفراط عقد الدولة الوطنية بإعادة تقسيمها علي أسس طائفية‮.‬ فالأزمة قد تنشأ لأي سبب، وسرعان ما تأخذ طابعا طائفيا، وتتطور لتصبح صراعات ومذابح دموية، في ظل‮ ‬غياب،‮ ‬أو تقاعس الدولة الوطنية،‮ ‬وعدم قدرتها علي حسم هذه الصراعات بفقدانها لقدراتها الأمنية،‮ ‬ولأدواتها الناعمة في نظم هذه الطوائف تحت رايتها، الأمر الذي يدفع بكل فصيل للسيطرة علي البقعة الجغرافية التي يصل إليها‮.‬
 
فليس مستغربا أن هناك أسوارا تقام في بغداد للفصل بين أبناء الوطن الواحد‮ (‬سنة وشيعة‮).‬ وفي هذا الإطار أيضا،‮ ‬هناك مطالبات بفصل الجنوب الشيعي عن الدولة العراقية‮.‬ كما أن عدم الحسم في سوريا يجعل البلاد شبه مقسمة جغرافيا بين قوات النظام وقوات المعارضة،‮ ‬أو بين الثوار وتنظيم‮ "‬داعش‮"‬، وكذلك الحال بين القوي المتصارعة في اليمن أو ليبيا،‮ ‬الأمر الذي يؤدي حتما إلي انهيار الدولة الوطنية الموحدة‮.‬
 
كما قد يؤدي الصراع الطائفي إلي تغيير خريطة الإقليم بنشوء كيانات جديدة علي أسس عرقية أو مذهبية، وهو الأمر الذي يعني اقتطاع مساحات من دول قائمة لمصلحة أخري جديدة، وهو ما يسبب قلقا لقوي رئيسية في الإقليم قد تدفع في أتون صراعات قومية حفاظا علي حدودها الوطنية‮.‬
 
وقد تدفع الصراعات الطائفية الدول إلي إعادة تغيير تحالفاتها بتحالفات متوقعة‮ (‬محاولة إقامة تحالف سني بين الدول العربية وتركيا‮)‬،‮ ‬أو‮ ‬غير متوقعة‮.‬ فقد تضطر بعض الدول العربية السنية للتحالف مع إسرائيل علي قاعدة الاتحاد في مواجهة العدو المشترك‮ (‬إيران‮)‬، بل إن إسرائيل خططت لذلك بالفعل،‮ ‬حتي لا تظل بمنزلة العدو الرئيسي للعرب، وأن تحل إيران بدلا منها في مربع العداء للعرب‮.‬ بل إن موشي يعلون،‮ ‬وزير الحرب الإسرائيلي أشار إلي أن تل أبيب تراهن علي التعاون مع المحور السني مستقبلا‮.‬
 
كما قد تؤدي الصراعات المذهبية إلي إعادة إنتاج التطرف والتشدد، ويعد تنظيم‮ "‬داعش‮" ‬خير نموذج لذلك، حيث كان في البداية فرعا من فروع القاعدة‮ ‬يقاتل الاحتلال الامريكي‮.‬ لكن التمييز،‮ ‬والتعسف،‮ ‬والاضطهاد المذهبي من قبل الشيعة ضد السنة في العراق أدي إلي تطوره وتغير أهدافه لمناهضة الشيعة في المنطقة،‮ ‬فضلا عن أهدافه الأخري‮.‬ كذلك،‮ ‬فإن تصاعد قوة الشيعة،‮ ‬والثقة المفرطة في أنفسهم،‮ ‬وفي شعورهم بالتفوق قد يجعل تنظيم القاعدة يوجه جهوده ضد المصالح الإيرانية في الشرق الاوسط‮.‬
 
والحقيقة أن العرب هم المسئولون عما وصلت إليه بلادهم من صراع طائفي‮.‬ فإخفاق الدولة عن القيام بواجبها،‮ ‬وفشلها في تحقيق المصالح الوطنية المتمثلة في الأمن،‮ ‬والديمقراطية،‮ ‬والعدالة،‮ ‬والتنمية هو الذي أعطي الفرصة لدعاة الطائفية والمذهبية للتشدق بدعواتهم التي لا تهدف إلا إلي تمزيق الوطن،‮ ‬وتقسيمه،‮ ‬والاستيلاء عليه‮.‬
 
ومالم يتم تدارك الموقف،‮ ‬واستعادة المبادرة في مواجهة هؤلاء،‮ ‬أو استيعابهم، فإن مستقبل العرب يصبح عرضة للتهديد،‮ ‬وأوطانهم مهددة بالاختراق،‮ ‬والاحتلال،‮ ‬والتقسيم، ويظل الشرق الأوسط إقليما قابلا للانفجار‮.‬
 
من هذا المنطلق،‮ ‬جاء ملف‮ "‬السياسة الدولة‮" ‬ليناقش بشكل أكثر عمقا كافة التهديدات التي تواجه العرب في المرحلة الحالية،‮ ‬وآثارها المتزايدة علي أمنهم، وأبرزها تدخلات دول الجوار الإقليمي، وتهديدات التنظيمات الإرهابية‮.

رابط دائم: