المشرق العربي في ظل السياسات الإقليمية والدولية
4-6-2015

فرحان صالح
*
يعتقد بعض النخب العربية، سواء من الطرف المرتبط بالمملكة العربية السعودية وتركيا، أو الطرف المرتبط بالنظامين السوري والإيراني، أن التحولات السياسية داخل الوطن العربي وفي محيطه، وإن أخذت الطابع العنفي، فإنها ستعزز سيطرتها، وتعتقد أن الزمن، وإن طال، سيؤكد على ذلك.
 
إن موازين القوى في الوضع العربي هي في مدّ وجزر، فالوضع السياسي والعسكري اليوم، هو غيره في الغد. إذ إن الصراعات العربية التي ستتداخل مصالح الدول الإقليمية فيها، مثل تركيا وإيران، بالإضافة إلى القوى والمصالح الدولية الأخرى، لم يتبلور بداخلها ما يشي بانتصار هذا الطرف أو ذاك.
 
لكن هذه الصراعات التي تستبيح الدم العربي من دون سواه، لن تؤدي إلى انتصار طرف على آخر، خصوصاً أن الجهتين لهما غطاء دولي، سواء من قبل الولايات المتحدة الأميركية أو من روسيا. لهذا، نجد أن النزف الحاصل في العراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها، يدفع ثمنه المواطن العربي، بمعزل عن تشدّق هذا وذاك بانتصاره على الطرف الآخر.
 
ما سبق يدفعنا للقول إن هناك صراعاً فعلياً لرسم صورة الشرق الأوسط الجديد، شرق أوسط يتخلص من إرث سايكس وبيكو، وتجدده أو ترسم دوره ودور اللاعبين الجدد فيه، مصالح الولايات المتحدة الأميركية منفردة، أو مصالحها التي تتقاطع مع الصين وروسيا. أما عن إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية، فإن أي انتصار لأحدها يعني انتصار هذا أو ذاك من أقطاب الصراع الدولي، أي الولايات المتحدة وروسيا، برغم أن أي انتصار يعني انتصاراً للولايات المتحدة، نظراً لتقاطع المشاريع كافة مع مشاريعها.
 
وفي ما خصّ مصر، فإن دورها كلاعب عربي يبدأ من خلال التخلص من الإرث السياسي الطاغي على القرار المصري الذي مثلته الولايات المتحدة في علاقتها معها خلال العقود الأربعة. فما قاله أنور السادات لناحية أن 99 في المئة من أوراق الحل هي بيد أميركا، لم يصر للتخلص منه، وإن كان هناك محاولات لهذا الغرض. كذلك، فإن «الإخوان المسلمين» الذين تحولوا إلى ميليشيا مسلحة بعد الردة الشعبية التي احتضنتها المؤسسة العسكرية، كان لا بد من تصادمهم مع الجيش. إن هذا المسار الذي اتخذه التنظيم الإخواني بدعم من تركيا، ومن خلال الدور المزدوج والملتبس للولايات المتحدة، وفي ظل عدم وجود مشروع للعدالة الاجتماعية تحتضنه مصر، لن يؤدي إلا إلى رؤية ما تريده الولايات المتحدة وإسرائيل من مصر، أي تدمير الجيش المصري بدءاً، ومن ثم تدمير مصر، تماماً كما تم تدمير سوريا والعراق وليبيا واليمن.
 
لقد أراد «الإخوان» الاستفراد في السلطة المصرية، عندما كانوا في سدتها وعندما تم اخراجهم منها، إذ ليس هناك من مراجعة لتجربتهم وللمآل الذي وصلوا إليه. كما انهم ضخموا حجمهم، بل أيضاً قدراتهم داخل مصر وخارجها، وذلك على خلاف تجربة «حركة النهضة» التونسية التي تعد نفسها جزءاً من مكونات المجتمع التونسي. فهل عند النظام المصري الحالي مشروع يمكن رؤيته داخل مصر وخارجها؟
 
ان ما يحصل وينفــــذ من قبل القوى الإقلــــيمية والدولية، يدفعـــنا إلى القول إن هذه الصراعات لن تتوقف إلا بحصول مســــاومات بين تركـــيا وإيران برعاية روسية ـ أميركية. فما تريده الولايات المتحدة هو تطويع الإرادة الإيرانية لخدمة مصالحها، كما تريد تطويع روسيا وإجــبارها على الخـــضوع لإرادتها كقوة وحيدة ومسيطرة عالمياً، ولن تسمح بخروج أي من القوى عما ترسمه من دور لهذه أو تلك، في النظام الرأسمالي الذي تقوده وترعاه.
 
إن سياسة التدمير التي تمارس في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا، مسؤولة عنها الأنظمة الحاكمة بداية، بالإضافة إلى القوى الدولية أيضاً. فالأنظمة والقوى الإقليمية لا تملك مشروعاً للتعاون يأخذ في الاعتبار المصالح المتعددة، سواء أكان هذا المشروع مصرياً أو إيرانياً أو تركياً. إن عدم وجود مثل هذا المشروع أدى إلى الحالة العربية الراهنة، حيث تحاول تركيا وإيران تعزيز مواقعهما على حساب الدم العربي، إذ لم تطرحا شراكة مع غيرهما، فهل لهما مصالح مع البلاد العربية؟ وهل للبلاد العربية مصالح معهما؟ إن الأنظمة العربية التي تدَّعي الاستقلالية، أو التي تقف مع هذا الطرف الإقليمي أو ذاك، لن تؤدي نياتها الحسنة إلى وقف النزف الدموي السائد. فما يوقف هذا النزف هو الاتفاق على مشروع عربي تكون فيه مصر نقطة التوازن وعنوانه. وإن كنا لا نستبعد القيمة الجيوسياسية للجزائر وسوريا واليمن وغيرها في مشروع كهذا.
 
إن الصورة التي تظهر تدريجياً للوضع العربي، قد تميل للأخذ بما آل إليه الوضع اللبناني. فالمختبر اللبناني قد يكون هو المثال للمصالح الدولية، ليس في العراق فحسب، وإنما في سوريا واليمن وليبيا أيضاً، وغيرها من دول عربية، بالإضافة إلى إيران وتركيا. إن المثال اللبناني الحالي هو الذي رسمت صورته المصالح الإقليمية والدولية، أي بلورة كيان تحكمه كونفدراليات طائفية، وفي أحسن الحالات لا مركزيات موسعة قائمة على ارضيات عرقية أو طائفية.
 
إن ما قد يحدد تنفيذ هذا المشروع أو ذاك، هو إرادة الشعوب العربية وقدرتها على بلورة مشروع عربي، يؤكد فيه العرب حضورهم بالشراكة بين بعضهم في البدء، وبالتعاون مع محيطهم الإقليمي أيضاً، تـماماً مثلما فعلت الدول الأوروبية التي غلبت سياسة التعاون بين بعضها على سياسات أحادية الجانب.
 
إن عدم تحقيق مشروع عربي أو إقليمي، بهذا المعنى الذي نشير إليه، يدفعنا إلى القول إن الصراعات داخل وبين الدول العربية، ستستمر، ولن تتوقف إلا بتكوين إرادة عربية فاعلة، وهي غير واضحة في الأفق الحالي. لذلك، فإن الأكثر ترجيحاً هو حصول ضغوط دولية وصولاً إلى تسويات، تعبّر عن مصالح الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، بالدرجة الأساس.
 
إن إيران التي تدعمها روسيا، والتي تتدخل في العراق وسوريا واليمن، وتدعم قوى محلية في كل من لبنان وفلسطين والبحرين. هي ذاتها التي تواجه قوى مدعومة من تركيا والسعودية وإسرائيل، في الزمان والمكان نفسه. فكيف في هذه الحالة ستتمكن تركيا أو إيران، وفي ظل هذه التعارضات الصعب التوفيق بينها، من أن ترسي سلاما منفرداً مع أي دولة من هذه الدول؟ إن ما قد يحصل هو تقاسم نفوذ تفرضه قطعاً المصالح الأميركية منفردة، وقد تفرضه المصالح الأميركية ـ الروسية مجتمعتين، وإن كنا نستبعد إمكانية حصول مساومة أميركية ـ صينية وروسية، فأميركا تريد وحدانية نفوذ، وليس شراكة نفوذ، وإن كانت روسيا والصين تريدان هذه الشراكة.
 
كما أن الولايات المتحدة الأميركية لديها وسائل ضغط عديدة ليس على هذا الطرف أو ذاك فقط، بل ضد كليهما. من هنا، يمكن فهم الأوراق التي تحتفظ بها الولايات المتحدة، ومنها على سبيل المثال، الورقة الكردية. فالسؤال المطروح: هل يمكن حصر الكيان الكردي بالعراق فقط، أم أنه سيكون كياناً قومياً سيتوسع ليشمل جميع أكراد تركيا وإيران والعراق وسوريا؟
 
في الجواب على سؤال كهذا يكمن العديد من السيناريوهات التي قد تغيّر جغرافية المنطقة برمتها. إن المخططات التي تمارس على أرض الواقع، وكما هو ظاهر، ستؤدي إلى تغيير قد يكون جذرياً في النظام السعودي، وفي النظامين التركي والإيراني. كما أن «عاصفة الحزم» التي تشنها قوات التحالف العربي بقيادة السعودية، قد أدت إلى بروز المؤسسة العسكرية التي سيكون لها دور في رسم صورة المملــكة مستقبلاً. وقد تكــون السياسة الأميركية ومصالحها، معنية بإضعاف لا إيران فقـــط، وإنـــما السعودية ذاتــها، بحيث تحصر وتحـــجم دور كل منــهما لخدمة إستراتيجيتها الإقليمية والدولية.
 
---------------------------
*نقلا عن السفير اللبنانية، الخميس، 4/6/2015.

رابط دائم: