التيارات السياسية العربية وإهدار حقوق المرأة
22-3-2015

حسين العودات
*
في القرن العشرين، ساهمت البورجوازية العربية كتيار سياسي واقتصادي وأحزاب، والليبراليون العرب بفكرهم المتنور، والأحزاب والحركات القومية واليسارية بنضالها، مساهمة جدية في وضع المرأة العربية على طريق التحرر والمساواة، خصوصاً عندما بدأت البورجوازية تشارك في السلطة أو تتولاها مثلما كان الحال في مصر (حزب «الوفد») وفي سوريا («الحزب الوطني» و»حزب الشعب») أو في العراق («حزب الاستقلال») فضلاً عن أحزاب وتيارات أخرى في غير هذه البلدان. وعملت هذه البورجوازية ومفكروها والمفكرون الليبراليون والقوميون واليساريون على تعليم المرأة، وإصدار تشريعات تسمح لها بالعمل، وقوانين جديدة للأحوال الشخصية أعطتها من خلالها بعض الحقوق، فأقرت حق الانتخاب ثم حق الترشح، وبدأت مشاركة المرأة الحقيقية في الحياة العامة منذ ذلك الوقت.
 
برز من أنصار تحرير المرأة في القرن الأخير عشرات المثقفين والسياسيين والكتاب، اشتهر منهم في مصر سلامة موسى الذي تجاوز ما طرحه قاسم أمين، حيث ربط تحرير المرأة بالتحرر الاقتصادي للمجتمع، ونادى بتغيير قوانين الإرث المعمول بها. وفي سوريا برز عبد الرحمن الشهبندر الذي انتقد «المقام الوضيع الذي تشغله المرأة في المجتمع»، وسار نزيه مؤيد العظم على طريق الشهبندر. وفي تونس تصدى الطاهر الحداد لقضية تحرر المرأة، كما تصدى لها في العراق جميل صدقي الزهاوي، وشارك غيرهم في أقطار عربية أخرى في معركة تحرير المرأة.
 
إن الظاهرة السلبية المهمة في القرن العشرين هي نكوص التيار الإسلامي، خصوصاً تيار «الإخوان المسلمين» عما نادى به الإسلاميون في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مثل قاسم أمين ومحمد عبده وغيرهما، ومحاولة العودة لتقييد المرأة بالأعراف والتقاليد والطقوس وأحكام الفقهاء، ورفض نقدها أو تطويرها أو تنقية الفقه مما علق فيه من الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة في مجال المرأة. هكذا، لم يصل علي عبد الرازق ومنصور فهمي ومصطفى صادق الرافعي إلى ما وصل إليه قاسم أمين ومحمد عبده في قضايا تحرير المرأة، واكتفوا بالإشارة إلى أهمية تعليمها وتأييد السفور ورفض الحجاب، لكنهم لم يطرحوا بجدية كافية قضايا الأحوال الشخصية والإرث وتعدد الزوجات والطلاق وغيرها. إلا أن هذا النكوص كان هيناً أمام الأفكار والآراء التي طرحها «الإخوان المسلمون» في مصر منذ تأسيس الجماعة وفي غيرها من الأقطار العربية بعد ذلك. إذ إنهم تبنوا آراء الفقهاء الأكثر عداء للمرأة كحجة الإسلام أبي حامد الغزالي أو ابن تيمية وغيرهما من الفقهاء المعادين لهذا التحرر. ولم يوفر رجال دين آخرون كالشيخ صلاح أبو إسماعيل والشيخ محمد أبو زهرة جهداً في التضييق على حقوق المرأة، خصوصاً في مجالات التعدد والطلاق وعمل المرأة واختلاطها وتعليمها ولباسها وغير ذلك.
 
ساهمت البورجوازية الوطنية في مصر وسوريا ولبنان والعراق وغيرها من البلدان العربية إضافة إلى التطور التحرري والاقتصادي والاجتماعي الذي شهدته البلدان العربية وقادته الأحزاب والتيارات القومية واليسارية، في تحسين حال المرأة ووضعها على طريق التحرر الحقيقي والمساواة الحقيقية. وقد تحققت خطوات مهمة في هذا المجال في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، فسُمح للمرأة في بعض البلدان العربية بالانتخاب والعمل والاختلاط، وصدرت قوانين جديدة للأحوال الشخصية أو سُنّت قوانين ساهمت في تضييق الفجوة بين حقوق المرأة المطلوبة وواقعها، وتأسست عشرات الجمعيات النسائية وكان لكل تيار سياسي تنظيمه النسائي، وأصبح «السفور» منتشراً في المدن، واتسع مجال الأديبات والمثقفات والعاملات في السياسة وفي النشاط العام وزاد عددهن، وأخذنا نشهد منذ أوائل النصف الثاني من القرن العشرين مجتمعات جديدة، تساهم فيها المرأة مساهمة فعالة وجدية، وتراجع التيار الاجتماعي والسياسي المعادي لتحرير المرأة ومساواتها، وقامت نهضة حقيقية في مجال المساواة، وانتصرت مؤقتاً التيارات السياسية العربية نصيرة المرأة.
 
لقد توقف هذا التقدم مع غيره من جوانب تطور المجتمعات العربية بعد هزيمة حزيران 1967 والنكسة الشاملة التي تسببت بها هذه الهزيمة في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها، إذ أدت النكسة إلى هجوم الفكر الأصولي السلفي المتخلف. فاعتبر بعضه أن «ترك الدين» وإعطاء المرأة بعض حقوقها هو السبب الأساس للهزيمة. ورأى بعضه الآخر أن السبب هو «الاشتراكية» و»القومية» و»العلمانية» علماً أن المجتمعات العربية لم تطبق شيئاً مهماً من هذه الشعارات في ذلك الوقت. ووُجد من يشجع هذه التيارات المرتدة، وكانت عودة كبيرة وعميقة إلى السلفية والخضوع لها وإلى التقاليد التي تعود لعصر قديم. وبُذلت جهود للقضاء على الخطوات التي كانت بدأت في تنقية الفقه، وتطوير المجتمع، ونشر ثقافة جديدة، وتحديث الحياة. وقدم المجتمع والتطور الاجتماعي برمته هدية مجانية للمتخلفين وأعداء التقدم والتنوير. وساد فكر الأساطير على حساب الفكر النقدي. وتحت شعار العودة إلى الدين، تمت العودة للخرافة والأسطورة والأوهام، وأُعطيت السيادة للمبتزين والفاسدين والمستغلين وأعداء العدالة الاجتماعية والتقدم، واعتُبرت الحرية والديموقراطية ومعايير الدولة الحديثة مذاهب وممارسات دخيلة على المجتمعات العربية وبدعة (وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار). وساهمت بعض الأنظمة السياسية العربية في تعميق دور هذه التيارات وتفعيلها، فشجعت التنظيمات الدينية، وأدخلتها في السياسة، وسكتت عن عنفها في المجتمع. كما سكت بعضها عن تسليحها، وبقيت التيارات السياسية العربية القومية والليبرالية واليسارية عموما شبه متفرجة وقليلة الفعالية، بعكس ما كانت عليه قبل ذلك، وهمشت قضية مساواة المرأة في برامجها ولم تعد على رأس أولويات هذه البرامج. وبدأت مرحلة نشوء حركات «الإسلام السياسي» فضلاً عن الحركات الإرهابية من جهة، ومرحلة البعد عن المجتمعات الحديثة والدولة الحديثة والعودة لتجارب قديمة على رأسها إحياء الخلافة من جهة أخرى، في إطار فكر «سلفي» بدائي، يرى في المرأة سلعة وفي الرجل صاحب الحق في ملكيتها المرأة والولاية عليها وسجنها في بيتها بما لم يكن موجوداً في عصر الإسلام الأول، ولا حتى في معظم مراحل تاريخ المجتمعات العربية.
 
أدى هذا التطور في الربع الأخير من القرن العشرين إلى تدهور أحوال المرأة وإيقاف مسيرة المساواة بينها وبين الرجل في البلدان العربية، بل عادت أوضاعها وأحوالها الاجتماعية والاقتصادية والحياتية ومعظم ما يتعلق بها إلى مرحلة ما قبل النهضة، أي قرنين إلى الوراء. واستعيض عن هذه المطالب ذات الأهمية الجدية المتعلقة بالمساواة، بأن اكتفت الحركات المناصرة بالمظاهر والحريات الشكلية على حساب حقوقها الجوهرية. وصار وضع المرأة أكثر بؤساً من كثير من نساء العالم في البلدان المتخلفة، وفي بعض الجوانب باتت هي الأسوأ، وغدا واقع المرأة العربية لا يسرها ولا يسر أحداً.
 
---------------------------------
* نقلا عن السفير، السبت،  21-3-2015.

رابط دائم: