فن اضطهاد الأقليات للأكثريات!
10-3-2015

غسان الإمام
*
نملك عقلا وإيمانا. مع ذلك نجعل زيارتنا القصيرة لهذه الدنيا شقاء. وحرمانا! وكلما راكمنا حضارات. وثقافات، ازددنا عنفا. أشعلنا حروبا. ابتكرنا علوما. غدونا أكثر معرفة. فصنعنا أدوية. وأسلحة. طورنا تقنية الصناعة. فدمر لهاث السيارة والمصنع صفاء المناخ والبيئة. غزونا الغابة. محونا الخضرة والحياة الحيوانية. نشرنا غابات الإسمنت والحديد. فغدت مدننا أكثر ازدحاما. أشد صخبا. أقل أمنا.
 
تفلسفنا فملأنا الفلسفة حيرة! فلا العقائد أقامت عدلا. ولا السياسة أنجبت سلما. ولا الدساتير والقوانين نظمت الدولة. والسلطة. أتقن الإنسان الإنجاب. فملأ هذه الدنيا دودا على عود. عرفنا نظاما وتقاليد للرق. فكان اللون رمزا للعبودية.
 
رق القلب. ثارت أميركا على عبودية السود. فقتلت رئيسها الثائر أبراهام لنكولن. وظل التمييز العرقي سائدا في المدرسة. والأوتوبيس. والشارع. والكنيسة، أكثر من مائة سنة. جدلت الحبال لتعليق الأرقاء على الأشجار وأعمدة النور. استحى النظام العنصري في جنوب أفريقيا فانسحب. وبقي الرق مصدر شقاء في مجاهل الدنيا، وبينها بقع شقية. ملونة في عالمنا العربي.
 
هاجر الاستعمار. فأفنى المستعمرون اللون الأحمر في الولايات المتحدة. واللون الشاحب الحنطي لشعوب الآزتيك. عفَّ العرب عن أسلمة إسبانيا والبرتغال، بعد إقامة حضارة دامت ثمانية قرون. غادروا. تركوا وراءهم عشرات الألوف. خاض هؤلاء نضالا صامتا. خاسرا، للاحتفاظ بالهوية. والدين، أمام التعذيب. ومحاكم التفتيش. وقوانين التنصير.
 
ركب اليمنيون والعثمانيون البحر. نشروا الإسلام سلما بين شعوب اللون الأصفر، في جنوب وشرق آسيا. فغدت إندونيسيا أكبر دولة إسلامية في العالم. شنت أميركا في نهاية القرن التاسع عشر حربا دينية وعنصرية، لتنصير الفلبين. فظلت أسماء أهلها محرفَّة عن أسماء العرب المسلمين.
 
تأسلم الأتراك في العصر الوسيط. غزوا أوروبا الشرقية. فأسلموا شعوبا سلافية. ثم غادروها بلا تغطية وحماية. فذبح السلاف الأرثوذكس السلاف المسلمين. واستمرت المجازر بين الجانبين إلى نهاية القرن العشرين.
 
في العصر الراهن، منحت أوروبا الغربية 25 مليون عربي ومسلم الحرية وحق الإقامة. وحرمتهم عمليا من حق العمل. حشرتهم في الضواحي الكئيبة للمدن. تكوّموا في «الغيتو» والسجون. فروا من الحاضر والمستقبل إلى الماضي. في «اللاأمل» في الاندماج، وجههم أئمة «الإخوان» وفقهاء القرون الوسطى نحو العنف الديني.
 
في غيبة تعددية الثقافة الإنسانية، جندت أميركا شباب الثقافة الدينية الأحادية، في خوض حربها الباردة. انتصرت أميركا على «الكفار». فسرحت شباب «القاعدة». أخفق هؤلاء في إسقاط النظام العربي. فانتقموا من أميركا في نيويورك. ثأرت عشوائية بوش منهم. فأسقطت «طالبان» في أفغانستان. وصدام في العراق. وسلمته إلى عملاء إيران.
 
عاشت أميركا علاقة غرام وانتقام مع شباب الثقافة الدينية الأحادية. انتهت العلاقة بتعذيبهم، في سجون غوانتانامو. وأبو غريب. وزنزانات نوري المالكي السرية. ثم بمقتل ربع مليون سني. واعتقال ربع مليون آخر، في حرب الأقلية العلوية ضد الأكثرية السنية المتمردة. وتهجير الملايين.
 
لم تنجب الانتفاضة السورية المعارضة الديمقراطية المنشودة. أنجبت الأقلية العلوية الحاكمة معارضة سنية مسلحة، مسلوبة الوعي السياسي! تعاونها في ذلك ميليشيات الشيعة العراقية واللبنانية («حزب الله») التي تقاتل في سوريا بقيادة «الحجي» قاسم سليماني.
 
بعد مخاض طويل، أنجب الاضطهاد الواسع تنظيم داعش بقيادة فلول جيش صدام. كان هذا التنظيم بمثابة فاشية دينية انتحارية، مكتوب لها الانطفاء المحتم. فهي غير مقبولة. ولا منطقية، في دعوتها. وسلوكها. ومرفوضة لدى النظام العالمي. ولدى النظام العربي، بمجتمعاته السنية. وأقلياته المسيحية. والقبطية.
 
نكاية بعبد الناصر المؤيد لنضال الجزائر، منح ساسة الجمهورية الفرنسية الرابعة، إسرائيل في الخمسينات سر صنع القنبلة النووية. بمعرفة شيمعون بيريس الذي كان آنذاك وكيل وزارة الدفاع الإسرائيلية. وساهمت أميركا في تقديم المعدات والأجهزة الفنية لصنعها. كان الهدف ردع النظام العربي ومجتمعاته «السنية»، عن التفكير في إنشاء دولة فلسطينية.
 
اهتبلت الانتهازية الإيرانية الفرصة. فأحيت نداء الراحل أحمد الشقيري بإلقاء اليهود في البحر، لتتمكن من اختراق المشرق العربي «السني» المتعاطف مع القضية الفلسطينية. خلل النظام العالمي «الغربي» المنحاز لإسرائيل يسمح لنتنياهو الذي يضع إصبعه على زناد مائتي قنبلة نووية، بالمطالبة أمام مجلسي الكونغرس الأميركي، بتجريد إيران من مشروعها النووي.
 
وصلت الغطرسة الإسرائيلية مستوى المس بسلطة وكرامة رئيس أقوى دولة في العالم. «جريمة» أوباما مفاوضة إيران على تأجيل صنع القنبلة، لعل نظام «الآيات» يتوارى في تابوت التاريخ، خلال عشر سنوات. المذهل أن يستقبل مجلسا الكونغرس رئيس دولة أجنبية، من دون إذن أوباما. ويصفق النواب واقفين. مهللين مرارا لنتنياهو المطالب باستمرار احتكار إسرائيل للسلاح النووي في منطقة خطرة، وكأنهم أعضاء مجلس بلدية في قرية أميركية غافية!
 
ما الحل؟ كيف نعيش هذه الإقامة القصيرة في الدنيا، بأقل ما يمكن من قلق. وغضب. وعنف. وظلم. وثورة؟ كيف نعالج أمراضا وأوبئة تحمل أسماء نتنياهو. وبشار. وسليماني. ومالكي. وبغدادي. والحوثي.. فتنشر اللامبالاة. المؤامرة. المغالطة. الإرهاب؟
 
ربما كنا بحاجة إلى نظام عالمي جديد. غير النظام العالمي الذي فرضه الغرب في القرون الثلاثة الأخيرة. فقد بات نظاما متهتكا. منحازا. عاجزا. وأيضا غير نظام تفرضه دول صغيرة منتفخة لتبدو كبيرة. فتضع قنبلة الفناء المطلق في قبضات مجهولة لا مسؤولة، تسعى إلى هيمنة استعمارية جديدة، على الجيران باسم الدين. والطائفة. والمذهب.
 
ليس أمامنا حل متاح أو منظور، سوى الدولة العالمية التي تجسدها الأمم المتحدة. فقد باتت، على هامشيتها، أكثر تدخلا وحضورا في الأزمات والنزاعات الدولية. شرط تغيير شرطيها الدولي (مجلس الأمن) الذي يعطل «فيتو» الكبار عصاه الشرعية الرادعة. وربما نحن بحاجة إلى صوت مسموع أكثر خشونة من صوت بان كي مون الذي لا يمون على العالم، أكثر من صوت البابا فرنسيس في ابتهالاته المجانية التي يوزعها على الضعفاء والبؤساء.
 
ربما كنا بحاجة إلى برلمان للحكومة العالمية يشرِّع نظاما عالميا موحدا للتربية والتعليم في هذه القرية الأرضية. تربية تراعي الإنسانية. تربية تنشئ أجيالا أكثر جدارة بهذه الحياة القصيرة على الأرض. بلا فقر. بلا بطالة. بلا أزمات مالية. بلا مصارف الربا والمرابحة.
 
بشر النظام العالمي المتهالك بالديمقراطية. فلم تعد مؤسستها التشريعية (البرلمان) النادي المناسب للحوار. والتسوية. واتخاذ القرارات السياسية الكبرى. ها هما مجلسا الكونغرس الأميركي يتحولان إلى مجلس بلدية، في حضرة نتنياهو الذي يتقن فن المغالطة.
 
عجز مجلس النواب اللبناني عن انتخاب رئيس للبنان. فنقل رئيسه نبيه بري الحوار إلى بيته في «عين التينة». هلل اللبنانيون الخائفون على أمنهم للحوار بين الطرشان. فقد صدر عن «عين التينة» قرار «تاريخي» بنزع صور المتنازعين من الجدران وأعمدة النور. يبقى في المخبأ خمسون ألف صاروخ في عهدة «حزب الله». وجنود لبنانيون أسرى في قبضة «داعش» و«جبهة النصرة» في جرود عكار، في انتظار قرار تاريخي آخر من نوع «عين التينة».
 
تقول لي، قارئي العزيز، هازلا: أنت تقترح حلا أسوأ من المشكلة. ما رأيك في أن تنقل دولة بان كي مون العالمية إلى الإقامة في دولة «عين التينة»؟
----------------------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط، الثلاثاء، 10/3/3015.

رابط دائم: