معضلة السياسة الفرنسية
8-3-2015

حياة الحويك عطية
*
أكثر من تصرف شخصي وأقل من وفد رسمي، لكنها لحظة تاريخية لا يمكن القول معها بالتلقائية أو بالاستطلاع . ولا يمكن قراءتها في إطار محلي أو ثنائي . كانت الأزمة العراقية يوماً الفصل الافتتاحي في النظام العالمي الجديد، وكانت الأزمة السورية بدورها فصلاً افتتاحياً في نظام عالمي جديد آخر . كل نظام عالمي يفرز نظاماً إقليمياً سواء في الإقليم الأوروبي أو في إقليمنا . ومن سوء طالع الفرنسيين أنهم وفي المرتين أساءوا استشراف المآل . توقعوا احتمال منع سقوط العراق عام 2003 وتوقعوا حتمية سقوط سوريا عام 2010 من دون أن تشهد المرة الثانية وزيراً يمتلك فكرة معينة عن الجمهورية وجرأة تقودانه إلى الاستقالة كما فعل جان بيير شفينمان وزير دفاع ميتران عام 1991 .
 
في كل المفاصل يبقى سؤال المعيار الفرنسي - الأوروبي واحداً: هل تكمن مصلحتنا في الارتماء في ذيل العباءة الأمريكية من دون شروط لنحصل ولو على فتات المائدة؟ أم تكمن في سياسة استقلالية، حليفة لواشنطن ولكن غير تابعة لها، تؤمن لنا مصالحنا؟ هذا الجدل هو مسألة أساسية عابرة للأحزاب، فكل منها كان يمينياً أو يسارياً ينقسم حولها وبحدة ولا داعي للتوضيح بأن اللوبي الأمريكي يتماهى مع اللوبي - "الإسرائيلي" لدعم دعاة الأطلسة . انقسام يشكل لب السياسات الخارجية القائمة - تحديداً بخصوص الشرق الأوسط والمتوسط - منذ ديغول - أديناور، مع فارق كبير هو أن انهيار جدار برلين جعل تحالف شيراك - شرودر ثلاثياً يضم بوتين . لكن سقوط العراق واكتساح الأمركة للعالم فكك خط موسكو- برلين - باريس، وجاء بساركوزي وميركل والآن هولاند.
 
المشهد اليوم مختلف . سوريا كذبت التوقعات وصمدت، روسيا ضمت شواطىء القرم وتمكنت على شواطىء المتوسط (مصر بعد سوريا)، أما إيران . . إيران عقدة أخيل فمدت نفوذها على الشواطىء والمضائق الأخطر في العالم، وأثبتت حضورها في أخطر العواصم العربية . . والأهم من كل ذلك أنها تكاد توقع اتفاقها مع الأمريكي .
 
لا اتفاقيات من دون أثمان سياسية واقتصادية . والأثمان متبادلة . فما الذي سينوب أوروبا، وفرنسا تحديداً منها (بريطانيا استشرفت الأمر وحاولت تأمين شيء ما)، الأم الحنون للبنان أرادت أن تكون الأم الحنون للمعارضة السورية ول'' أصدقاء سوريا'' ولعلها نسيت أن العرف الفرنسي هو أن ينفصل الابن الأصلي عن أمه إذا ما بلغ المراهقة، فكيف إذا كان ابناً بالتبني، ولمجرد الاستغلال أو إذا فشل في تحقيق ما تريده منه؟ 
 
الآن، أوروبا كلها تخاف، وفرنسا تخاف أكثر . حرب العالم اليوم هي حرب الغاز، وأوروبا هي رهينة الغاز . الغاز الروسي أولاً، وإذا ما أرادت التمرد عليه فسيكون البديل هو الغاز الإيراني بعد رفع العقوبات . أو الغاز الأمريكي الأغلى سعراً . أما سوريا ما بعد الحرب فهي المنتج والممر والمفتاح للغاز، وهي ساحة إعادة الإعمار التي يسيل لها لعاب المستثمرين الفرنسيين وهي عقدة المحور الدولي السياسي المقابل للأمريكيين . في المقلب الآخر لا انتصار على "داعش" والمنظمات التكفيرية إلا بالتنسيق مع سوريا .
 
هل فعلاً يراد ل"داعش" أن تنتهي؟ ربما لا مرحلياً . وربما أريد "تحجيمهم" فقط كما جاء في خطاب أوباما الأول حولهم . ولكن هذه المعادلة ستتغير بعد تغير التحالفات . وإذا ما حصل، فإلى أين سيذهبون؟ 
 
في عام 1991 كتب كولن باول محذراً من أن الحل العسكري في العراق سيؤجج الكراهية للولايات المتحدة، فأضاف شفينمان محذراً: "ذاك سيغذي الإرهاب في المنطقة، وهذا الإرهاب لن يتأخر في العبور من الضفة الشرقية إلى الضفة الغربية للمتوسط" . يوم 3-3 أمكن رصد حملة معممة في الصحف الأوروبية على الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط: إيطاليا ترتجف من الهجرة وحراس الشواطىء يطالبون بالتسلح (لو فيغارو)، ألمانيا الثرية ترتبك أمام تدفق المهاجرين (لوموند) عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين دخلوا أوروبا عام 2014 بلغ 247 ألف مهاجر، أي ثلاثة أضعاف مثيله عام 2013 (فرونتكس: منظمة أمن الحدود الخارجية الأوروبية) وقالت ايفا مونكور الناطقة الرسمية باسم هذه المنظمة إن ليبيا أصبحت نقطة الانطلاق الرئيسية لهذه الأمواج البشرية، في حين تشكل امبيدوزا وصقلية نقطتي العبور الأساسيتين . إضافة إلى مئتي ألف شخص تجمعهم التنظيمات التكفيرية في مخيمات في ليبيا تمهيداً لإجبارهم على الرحيل من دون أن ننسى أن العبور إلى سائر أوروبا هو أمر سهل .
 
الأوروبيون لا يخشون الأعداد فحسب، وإنما يخشون بالطبع ما يمكن أن تحتويه هذه الأعداد من إرهابيين محتملين . خاصة في ظل تقديرات محللين استراتيجيين بأن واشنطن تعمد إلى تشجيع هذا الإرباك الأوروبي كي تضع القارة العجوز تحت نير فزاعة هؤلاء، وبالتالي حاجتها للأطلسي وتبعيتها للولايات المتحدة . فزاعة لن توفر استعمالها أيضاً في وجه روسيا والصين . 
 
الهاجس الأمني تجلى في تركيبة الوفد الفرنسي إلى سوريا: مستشار في وزارة الدفاع، مستشار أمني في بيروت، مسؤول الأمن في "الاتحاد لأجل المتوسط" ورئيس الاستخبارات السابق .
 
أما قصة "الاتحاد لأجل المتوسط" فهي حلم ساركوزي الذي أراد به أن يجمع غاز الجزائر إلى غاز ونفط وثروات ليبيا إلى وزن مصر إلى استراتيجية سوريا ولبنان، وفي قلب كل ذلك "إسرائيل" كما قال يومها . وكما رد بالرفض كل من الرئيس بوتفليقة ومعمر القذافي، في حين قبل مبارك بتداول الرئاسة وأضيف الأردن من دون أي تماس متوسطي . منذ فجر التاريخ والصراع المصيري على المتوسط هو رهان يتعدى دول حوضه بشرقها وغربها إلى توازنات العالم . 
 
بكل هذه المعطيات نفهم زيارة بعض النواب الفرنسيين إلى سوريا من دون تكليف رسمي، ولكن من دون سلوك معزول بدليل قول عضو الوفد جيرار بابت: لن أذيع سراً إذا قلت إن 12 نائباً اشتراكياً كانوا مهتمين بزيارتي . وعندما دعا كامباديليس معاقبتي حزبياً عرضت مقابلته . علماً بأن النواب الآخرين كانوا أكثر تجرؤاً وقابلوا الرئيس الأسد معترفين بقوته وبعدم إمكان الحل من دونه . 
 
بهذه المعطيات نفهم أيضاً ردة فعل فرانسوا فيون، صاحب أطول مدة ولاية في رئاسة الوزراء، بعد بومبيدو . حيث أعرب عن تأييده للنواب واستعداده لزيارة دمشق . الرجل معروف بمعارضته للتجنيس التلقائي ولتصويت الأجانب بوصفه تعد على المواطنة، وبتأييده لاقتصار المساعدات الاجتماعية على المهاجرين الشرعيين، وانشاء جهاز رسمي لإدماج المهاجرين يكافىء ويعاقب .
 
ولكن الأهم هو أن هذا السياسي الاستراتيجي هو صاحب نظرية الدعوة إلى كونفدرالية أوروبية مع ألمانيا وشراكة مع روسيا في إطار قطاع اليورو، شراكة اقتصادية وسياسية تسمح للطرفين بالتوازن مع القارة الآسيوية ومع أمريكا . وهو الذي صرح بعد اتفاقية مينسك الأخيرة قائلاً: "إن هذه الاتفاقية هي خبر سعيد للأمن الأوروبي . . وهي تبرهن على فائدة الحوار مع روسيا . وعلى أن المبادرة الفرنسية - الألمانية التي ما زلت أدعو اليها منذ عشرة أشهر هي فاعلة . لقد أضعنا وقتاً طويلاً . . فرنسا وألمانيا تستطيعان معاً أن تقلبا مسار الأحداث والمجموعة الأوروبية ليست محكومة بالجمود والعجز . علينا أن نجدد إطلاق علاقتنا بروسيا والتخطيط لأوروبا الكبرى" .
 
الأنباء الرسمية نقلت عن لقاء النواب مع الأسد معادلة ذات جناحين: ما يفيد الشعبين - قالوا - شرعية المحافظة على مبدأ عدم التدخل - محاربة مبدئية لا انتقائية للإرهاب - قال: "مصالح ميركانتيلية مقابل مصالح وجودية حقوقية . رغم ذلك، هي الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل" . رحلة خطى فيها آخرون أميالاً طوالاً فيما تتلمس فرنسا أصابعها التي تبحث عن معلومات أمنية قد تفيد منها "إسرائيل" وواشنطن أكثر من باريس . وتنسى أن العلاقات الدولية التي تقوم أساساً على المصالح يجب ألا تفترض لدى الآخرين زهايمر وطنياً وإنسانياً فيما يتعلق بالقيم" .
 
-----------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأحد 8/3/3015.

رابط دائم: