النظام الدولي و«الخلفاء الجدد»
18-1-2015

عبد الله بن بجاد العتيبي
* كاتب سعودي
لم تزل البشرية تعيد تشكيل نفسها بين وقت وآخر، وتعيد ترتيب علاقات مراكز القوى فيها على المستوى الدولي ضمن مفهوم الإمبراطوريات الشاملة والكبرى وصولا للدولة الحديثة، وإقليميا ضمن الولايات أو المقاطعات التابعة لكل إمبراطورية، وداخليا ضمن التناقضات الأصغر والأكثر تفصيلا.
 
لقد كان أي انتقال لبناء نظام دولي جديد يتم عبر عملية معقدة من التفاعل المؤثر بين ما تشمله كل تلك الأبعاد التاريخية والثقافية والحضارية والسياسية والاقتصادية، وصعود بعضها وهبوط الآخر، وطبيعة العلاقات فيما بينها، ونحن اليوم نعيش تشكل مرحلة جديدة من العلاقات الدولية شبه التائهة وتوازنات القوى الإقليمية وتأرجحات الدولة الوطنية الحديثة وتناقضاتها، وهو تماما ما يوحي بتشكل جديد لنظام دولي يجب إنتاجه يرث النظام الحالي بكل الثغرات البادية عليه والانتقادات الموجهة إليه.
 
تم في مرحلة سابقة تأسيس الأمم المتحدة والاتفاق عليها كوريث لعصبة الأمم، ومن ثم تأسيس مجلس الأمن، والقرارات التي تصدر عنه بغرض ترسية نظام دولي فاعل وصارم، ورعاية مفاهيم أساسية كاحترام السيادة الوطنية للدول المعترف بها، وحماية وحدتها وسيادتها على كامل ترابها الوطني، مع تأكيد على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لها، والتي ظلت أمدا طويلا كمبادئ مستقرة وغير قابلة للجدل أو التعديل أو التطوير، إلا أن تطورات التاريخ وتحديات الواقع اليوم تقول بكل صراحة إنها لم تعد صالحة للاستعمال لأنها أصبحت قواعد لا يلتزم بها أحد، وبالتالي فالمجتمع الدولي بأسره ومنظماته ومؤسساته بحاجة لإعادة النظر والمراجعة والتصحيح واستيعاب النقد القوي والسعي للخروج بما هو أكثر فاعلية وأبلغ تأثيرا، وبالتالي أكثر مواءمة للحاجات الجديدة للبشرية والتطورات التاريخية على كل الصعد.
 
ففي مسألة احترام سيادة الدول رأينا كيف أن روسيا الاتحادية التي ورثت الاتحاد السوفياتي وبطموحات الإمبراطورية القديمة التي استعادتها قد ابتلعت شبه جزيرة القرم بالكامل وتدخلت في الشؤون الداخلية لدولة أوكرانيا بكل قدرتها، هذا على المستوى الدولي، أما على المستوى الإقليمي في منطقتنا فقد رأينا الجمهورية الإسلامية في إيران وبدافع الآيديولوجيا وطموحات التوسع وأهداف بسط النفوذ كيف لم تحترم سيادة دول قائمة كجمهورية العراق أو سوريا أو لبنان أو فلسطين أو اليمن، ولم تكتف بالتدخل في شؤون تلك الدول، بل خلقت لها ميليشيات مسلحة وسماها بعض قادتها بالجيوش داخل تلك الدول، وهي تعيث فسادا وتدميرا وتخريبا بلا حسيب أو رقيب، وهو أمر لم يكن له أن يكون لو كان ثمة نظام دولي فاعل وصارم مما يؤكد على أهمية مراجعة النظام الدولي برمته.
 
والجمهورية الإسلامية تعتمد في ذلك كله على مفاهيم الطائفية الأكثر تخلفا، وتسعى لتقديم نفسها كمدافع عن مصالح الشيعة في العالم، وهي لم تكتف بالدول المذكورة أعلاه فحسب، بل لقد سعت جهدها للتدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليج العربي، إنْ عبر خلايا التجسس أو محاولة اختراق بعض الأقليات عبر عناصر تابعة لها، وإنْ باستغلال الحركات الإرهابية التابعة لها لخلق فتنة داخلية، وكل هذا يتم بلا رادع من النظام الدولي ولا من الدول الكبرى والغربية منها تحديدا التي يفترض أنها الحافظ الأمين للنظام الدولي والراعي لاستمراره.
 
المشكلة أن كل تلك الخروقات للنظام الدولي تتم أحيانا بما يشبه المباركة من الدول الكبرى إن بالصمت المطبق وإن بالاكتفاء بالتصريحات، وفي بعض الأحيان بالدخول في تفاوض مع المعتدي، كما تصنع الولايات المتحدة والدول الغربية مع روسيا ومع إيران، وهذا أمر قد يكون مقبولا بانتظار أن يؤدي لنتائج كبرى ولكن مسارات التفاوض ومواقف المتفاوضين المعلنة تظهر أن اختراقا كبيرا ومؤثرا غير قريب من التحقق وأن أفضل ما ترجوه الأطراف المتفاوضة هو شراء الوقت والمزيد منه لا أقل ولا أكثر.
 
تشهد منطقة الشرق الأوسط انفجارا للتاريخ في وجه الحاضر بل والمستقبل، وهو يقذف حممه كبيرة وصغيرة في كل لحظة وكل آن، والفوضى تضرب أطنابها في كثير من جمهورياته المنتفضة، والأصولية تفرض خطابها وآيديولوجيتها وأولوياتها على الجميع، والإرهاب يعربد ما شاءت له اللحظة التاريخية ويتخذ من مناطق الفوضى والاضطراب مراكز تخطيط لمهاجمة العالم وإجباره من جديد على الانخراط في المعارك التي لم تحسم والحروب التي لم تنته.
 
ولئن كانت إيران تستخدم الطائفية فإنها تستخدم الأصولية كذلك، وتاريخ العلاقات بين الأصولية السياسية السنية الممثلة في جماعات الإسلام السياسي وفي مقدمها جماعة الإخوان المسلمين وجماعات العنف الديني كتنظيم القاعدة موثقة ومعروفة، ولكن طرأ جديد على المشهد وهو أن الجماعات الأصولية والعنفية السنية قد لقيت راعيا جديدا يتمثل في توجهات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وتوجهات حزبه، فقد زادت أحداث «شارلي إيبدو» في فرنسا ما كان ظاهرا من قبل، وهو الرعاية والتغاضي التركي عن الجماعات الإرهابية كجبهة النصرة وتنظيم داعش في سوريا، وتسهيل مرور المقاتلين من الدول العربية والغربية للانضمام لتلك التنظيمات.
 
تبدو فرنسا بعد أحداث الإرهاب لديها وكأنها المعنية الأولى بحل مشكلات الشرق الأوسط بعد التخاذل الأميركي، كما تبدو وكأنها الشريك الحقيقي المعني بالتدخل العسكري لإنهاء كل المشكلات في المنطقة، ووعيا منها بخطر الإرهاب تدخلت في مالي من قبل، وسعت لتخليص الدولة والشعب من شرور الإرهابيين، كما أنها أرسلت رسائل للتدخل في جنوب ليبيا وضرب قواعد الإرهابيين هناك، وهي أرسلت مؤخرا حاملة طائرات للخليج العربي، ولديها عقود عسكرية ضخمة مع دول الخليج العربي، فلديها قاعدة عسكرية في دولة الإمارات العربية المتحدة، ولديها عقود كبرى لتسليح دول الخليج، وكذلك لرعاية وحدة واستقلال الدولة اللبنانية عبر تقوية جيشها بمنحة سعودية بـ3 مليارات دولار.
 
إننا نشهد انتقالا عبر الزمان، فالماضي يتم استحضاره بقوة ليكون مؤثرا في الواقع، فالمفاهيم المتخلفة باتت أكثر حضورا وأبلغ تأثيرا من المفاهيم الحديثة، سواء كانت تلك المفاهيم أصولية أم هوياتية أكثر عمقا وتخلفا.
أخيرا، وكتعبير عن مشروعه الأصولي فقد تناقلت وسائل الإعلام صورا لإردوغان في قصره عالي التكلفة والأبهة وهو ينزل سلم القصر محاطا بعسكر يلبسون ملابس مقاتلين من أيام الخلافة العثمانية وكأنه قد داعبته الغيرة من تنظيمات الإرهاب التي يعلن رؤساؤها الخلافة في العراق والشام أو حتى في نيجيريا أو ليبيا، ويريد أن يقول بأنه راعي الخلفاء الجدد.
 
-----------------------
نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الأحد، 18/1/20115

رابط دائم: