هيكل وحرب أكتوبر؟!
31-12-2014


*
نجح الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل فى استفزازى للمرة الألف عندما قادته الأستاذة لميس الحديدى إلى الحديث عن حرب أكتوبر مرة أخرى. ومصدر الاستفزاز أن الحرب كانت هى أعظم الأحداث التى شاركت فيها، وشرفت بالكتابة عنها، وكانت موضوع رسالتى للدكتوراه، وهى الموضوع الذى شغفت بمتابعة كل ما يتاح من معلومات عنه، وبشكل ما يمكننى الادعاء أننى أعرفه جيدا. وكان آخر ما قرأته عنها ما ورد فى كتاب لورنس رايت «ثلاثة عشر يوما من سبتمبر: كارتر وبيجين والسادات فى كامب دافيد»، وفيه كانت حرب أكتوبر هى الأساس فى عملية تحرير سيناء. ومع ذلك فإن الأستاذ لديه نظرية عن الحرب تقول: إن الحرب كانت عملا مجيدا عبأت له الأمة كل مواردها، ورغم الانتصار الذى جرى فى العشرة أيام الأولى منها، فإن السياسة (وهى اللفظ الضمنى للرئيس السادات) قد أضاعتها سواء عندما تم توقيع اتفاقيات الفصل بين القوات، أو عند توقيع اتفاق كامب دافيد ومن بعده معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية. وللأستاذ طريقة حينما يريد التقليل من شأن شخص، أو طعنه بشياكته المعروفة، أن يقوم أولا بمدحه، ويعرب عن تقديره له ثانيا، وبعد ذلك تأتى الكلمات التى تضيع كل ذلك. وعندما يتعلق الأمر بموضوع مثل حرب أكتوبر فإن الأستاذ سرعان ما يبادر بأنه هو الذى كتب قرار الحرب، وبعد ذلك يمضى فورا إلى الحرب التى أهدرتها السياسة، أى الرئيس السادات، مع بعض من الغمز واللمز فيمن سرب سر الحرب؟.
 
المعضلة فى كل ذلك هى أنه إذا كان الأستاذ قد كتب قرار الحرب، وهو ما فعل، فإن معنى ذلك أنه كان شريكا فى عملية اتخاذ القرار ومن ثم فإنه كان مقتنعا بما جاء فى القرار الذى كتبه، والذى يقول بصراحة إننا إزاء «حرب محدودة» تحدث أثرا دوليا وعالميا يكفى لتحرير الأرض وفق مراحل متتابعة. ألم يكن ذلك هو ما حدث فعلا، وهل يمكن أن تفرز استراتيجية «الحرب المحدودة» نتائج «غير محدودة» فيتم تحرير ليس فقط سيناء وإنما كافة الأراضى العربية المحتلة بما فيها القدس. وبصراحة، وليسمح لى الأستاذ باستخدام عنوان مقالاته، هل كان لدى الأستاذ الشريك فى القرار- الصحفيون لا يكتبون قرارات الحروب كما نعرف- استراتيجية أو تكتيك بديل عند كل لحظة من اللحظات تحقق نتائج أفضل مما تحقق؟ ودون تجن على الأستاذ، فإن الخطوط العامة لما يعترض عليه تجعلنا نذهب إلى أن الاستراتيجية الأخرى التى كان يرغب فيها اقتربت مما فعله السوريون، ومن ثم كانت النتائج التى نعرفها الآن ليس فقط بالنسبة للجولان وإنما لسوريا كلها.
 
قال الأستاذ بحزم ثلاث مرات إن الإسرائيليين كانوا يعرفون بموعد الحرب، وفى السابق كان قد وضع ذلك على كاهل الملك حسين، ومصادر أخرى على كاهل أشرف مروان، ولكن الثابت الآن من المعلومات والوثائق المتاحة أن المعرفة بموعد الحرب أمر، وتصديقه أمر آخر، وتصديقه إلى درجة مواجهته وإحباطه أمر ثالث. وفعلا فقد عرفت إسرائيل من مصدر عربى بأن الحرب سوف تجرى فى السادس من أكتوبر، بل إن انسحاب الخبراء السوفيت من مصر وسوريا يوم ٤ أكتوبر كان إشارة فاضحة، ومع ذلك فإن المخابرات العسكرية الإسرائيلية كانت مصممة على أن الحرب غير محتملة، أما ديان وزير الدفاع وجولدا مائير رئيسة الوزراء فكانا مصممين على أن الحرب لا يمكن تأكيدها إلا من مصدرهم «المصري». ومن الثابت أن المصدر «المصرى»- أشرف مروان- لم يقم بالإبلاغ بموعد الحرب التى موعدها «السادسة» مساء اليوم التالى(كما نعرف بدأت الحرب فى الثانية وخمس دقائق)، لمصدر إسرائيلى إلا فى الساعة العاشرة مساء ٥ أكتوبر بتوقيت لندن أى ١٢ مساء بتوقيت القدس. ولكن اختيار يوم «عيد الغفران» للحرب الذى كان جزءا من عملية الخداع الاستراتيجى الكبرى بالإضافة إلى الدور الذى أداه أشرف مروان، أفاد فى أن المصدر الإسرائيلى لم ينجح فى نقل الرسالة إلا فى الساعة الثالثة من صباح ٦ أكتوبر، ولم يتم إيقاظ ديان إلا فى الساعة الرابعة وكانت تلك هى التى اقتنعت فيها إسرائيل بأن الحرب آتية لا ريب فيها. وهنا كان هناك عامل آخر وهو الغرور الإسرائيلى، وغرور ديان شخصيا، الذى أصر لرئيس الأركان أنه لا داعى لإعلان التعبئة العامة حتى لا تتهم إسرائيل ببدء الحرب، وإنها بعد ذلك عندما «تسحق» الهجوم المصرى والعربى فإنها تستطيع أن تفرض شروطها. هذا الخلاف بين وزير الدفاع ورئيس الأركان استغرق حتى الساعة التاسعة صباحا عندما انعقد مجلس الوزراء الإسرائيلى وقررت رئيسة الوزراء تعبئة جزئية لمائة ألف جندى.
 
كان الخبر قد وصل إلى إسرائيل كما أنها كانت تشاهد ما يجرى على الأرض، ولكن غرورها جعلها تعتقد أن التعبئة المصرية هى نتيجة الخوف من هجوم إسرائيلى، ومن ثم كانت الرسالة التى أرسلت إلى كينسنجر ليلة الحرب بأن إسرائيل لا تنوى الهجوم وهو ما قام بإبلاغه إلى وزير الخارجية المصرى. وفى الحقيقة أنه حتى بدء العمليات العسكرية فإنه لم تجر عملية تعزيز للقوات الإسرائيلية على خط بارليف الذى كان فيه ٤٣٧ جنديا، و٧٠ قطعة مدفعية، و٣ دبابات، وأنابيب النابالم، ويعززهم من الخلف ٨٠٠٠ جندى و٢٧٧ دبابة. كانت مصر تجنى فى الحقيقة حصاد المفاجأة الاستراتيجية والخداع الاستراتيجى، والتغيرات الكبرى فى الجيش المصرى، فكان لها التفوق الساحق حيث كان لديها على الجانب الغربى من قناة السويس ٢٠٠٠ قطعة مدفعية و١٥٥٠ دبابة. كانت «السياسة» قد أوصلت الحالة فى ميدان المعركة إلى توازن عسكرى ساحق لصالح مصر استطاع الجيش المصرى ليس فقط العبور، واجتياح خط بارليف، وصد الهجمة المضادة التى دمرت فيها ٢٥٠ دبابة إسرائيلية إضافية (مع يوم ٨ أكتوبر كان قد تم تدمير ٥٠٠ دبابة).
 
هذا النصر العظيم لم تخذله السياسة، اللهم إلا إذا اعتبرنا محاولة إنقاذ سوريا بالخروج عن مظلة الصواريخ يوم ١٤ أكتوبر رغم اعتراض الفريق الشاذلى وقائد الجيش الثانى حسن مأمون هى سبب خذلان الانتصار، ومن ثم لم يكن الأسبوع الأخير من الحرب مثل أسبوعها الأول. لقد كانت «السياسة» أى السادات، هى التى أنقذت النصر فى النهاية سواء خلال قرار وقف القتال، والحفاظ على قدرات الجيش المصرى رغم الثغرة بل والاستعداد لتصفيتها، ثم بعد ذلك فى كل المفاوضات التى تلت وأدت إلى تحرير سيناء. كل ذلك يعرفه الأستاذ جيدا، ومع ذلك فإن معالجته للوقائع تبدو متعمدة فى تشويه ما حدث عن طريق وضع أهداف للحرب لم تكن مقررة من قبل ولا جاءت فى أمر القتال الذى كتبه، مع تجاهل كامل للحقائق الدولية والإقليمية، بما فيها الإسرائيلية، التى أحاطت بالحرب. هل يكره الأستاذ السادات إلى هذه الدرجة؛ وهل مشكلة هيكل مع السادات أن الهزيمة جرت فى عهد عبدالناصر والنصر حدث فى عهده والتحرير على يديه؟!.
 
----------------------------------
نقلا عن المصري اليوم، الثلاثاء، 30/12/2014.

رابط دائم: