حكومة العبادي وحصاد سياسات المالكي
29-9-2014

محمد الأنور
* كاتب صحفي متخصص في الشأن العراقي.
بدأت الأزمة الأخيرة في العراق، قبل سنوات، بتطبيق سياسات منحازة وإقصائية، استنادا إلي مبدأ المحاصصة الطائفية الذي اعتمد أساسا علي الوضع العراقي فيما بعد الاحتلال الأمريكي. وأدي تعقد الموقف، وتحوله إلي أزمة محتدمة بين المالكي وخصومه من كل الأطياف، إلى تمكن تنظيم داعش من الانتشار والسيطرة علي مناطق في العراق. ورغم أن هذا التطور ذاته لعب دورا في الإطاحة بالمالكي، وحلحلة الموقف السياسي، فإن الأسباب الحقيقية للتوتر لا تزال قائمة، وتمثل جوهر التحديات التي تواجه حكومة حيدر العبادي، خليفة المالكي.
 
أولا- تداعي سياسات المالكي:
 
تعد انتخابات 30 أبريل 2014 من المحطات الرئيسية التي دفعت بالأمور الي الأسوأ في العراق، فقد جاءت وسط حالة احتقان شديد تسببت فيها سياسات رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، وأسلوبه في التعامل مع مختلف الأوساط العراقية. الظاهر علي السطح أن المالكي كان يمارس التهميش والإقصاء ضد العرب السنة، ويرفض الاستجابة لأي من مطالبهم التي عبروا عنها في الاعتصامات السلمية في الأنبار، والحويجة، وسامراء، وكركوك، وقامت قواته باستخدام القوة مع المحتجين.
 
إلا أن الواقع غير ذلك، فقد مارس المالكي التهميش والإقصاء ضد العرب الشيعة أيضا، بل وضد شركائه وحلفائه الذين أوصلوه لسدة الحكم، خاصة التيار الصدري، والمجلس الإسلامي الأعلي  وغيرهما، مع غياب شبه تام للخدمات، وانتشار للفساد لم يفرق بين شيعي، وسني، أو كردي، وتركماني. وترافق ذلك مع عدم إنجاز المالكي أيا من مطالب الأكراد حول الموازنة والنفط، والمادة 140 بشأن كركوك والمناطق المتنازع عليها، الأمر الذي جعل الجميع يتحالف سياسيا ضد المالكي، فضلا عن التحالفات علي الأرض بين فصائل سنية مسلحة قاومت الاحتلال، وسياسات المالكي، والدور الإيراني، وبين ما يسمي بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). فالمالكي لم يستوعب دروس التاريخ القريب، عندما اختير لتشكيل الحكومة في مايو 2006، بعد تخلي رئيس حزب الدعوة الإسلامية، رئيس الحكومة إبراهيم الجعفري، عن ترشيحه للمنصب، إثر معارضة شديدة له من الكتل السنية والكردية.
 
وازداد الوضع الأمني سوءا في بداية ولاية المالكي، حيث بدأت عمليات الخطف، والتهجير، والتصفيات الطائفية، فأطلق في عام 2007 خطة لفرض القانون، وكان ضمن هذه الخطة عمليات عسكرية مثل "صولة الفرسان" التي شنت ضد ميليشيا جيش المهدي في البصرة، والناصرية، وبغداد، ومناطق كانت شبه خاضعة لسيطرة الجماعات المسلحة، وعملية "أم الربيعين" في الموصل لتفكيك تنظيم القاعدة. وصدق المالكي علي حكم إعدام الرئيس الأسبق، صدام حسين، الذي صدر من محكمة عراقية، ثم بادر إلي المسارعة بتنفيذ الحكم. ووقع مع الولايات المتحدة نهاية عام 2008 اتفاقية تنظيم انسحاب القوات الأمريكية، وفاز بولاية ثانية في انتخابات 2010 البرلمانية، مشكلا ائتلافه (دولة القانون) الذي حصل علي 89 مقعدا من مقاعد البرلمان ليتحالف مع الكتل الشيعية الأخري.
 
وبعد ثمانية أشهر من إجراء الانتخابات، استطاع الفوز بمنصب رئيس الوزراء لفترة رئاسية جديدة، وذلك بعد حل المشاكل المعلقة، ومنها تأسيس المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية، علي أن توكل رئاسته لرئيس القائمة العراقية، إياد علاوي. وكلف رسميا بتشكيل الحكومة في 25 نوفمبر 2010، قبل يوم واحد من انتهاء المهلة الدستورية. وعمل المالكي منذ انتخابات 2010 علي تكريس سياساته، وإبعاد خصومه من العرب الشيعة، إضافة إلي استمراره في تهميش وعزل وإقصاء العرب السنة والأكراد أيضا.
 
وبعد أن نجح في القضاء علي تنظيم القاعدة في المناطق العربية السنية، بمساعدة من القاعدة نفسها عبر تصرفاتها التي نفرت العرب السنة منها، مثل قتل المئات من الرموز الدينية والعشائرية وغيرهم، استمر المالكي في مهاجمة المدن العربية السنية بدعوي مكافحة الإرهاب، وأطلق يد الميليشيات التي تحالف معها ضد العرب الشيعة والسنة من خلال المئات من عمليات الاغتيال، والتفجيرات، والاعتقالات العشوائية.
 
ورغم الكثير من الدعوات لإلغاء أو تأجيل انتخابات 2014 البرلمانية، بسبب الظروف الأمنية، عمد المالكي إلي إجرائها، تمهيدا لولاية ثالثة لرئاسة الوزراء، رغم الرفض الشعبي له من كافة الأطياف العراقية. وأجريت الانتخابات بآليات وأجهزة أمنية، وفي أجواء لا تسمح للمرشحين بمباشرة حملات انخابية كما ينبغي، بل تمت الانتخابات بينما تجري عمليات عسكرية في الأنبار، وديالي، وأطراف بغداد، وأسفرت نتائجها عن تفوق ائتلاف دولة القانون بأغلبية مقاعد البرلمان بحصة 92 مقعدا، متقدما بفارق كبير علي قوائم التيار الصدري التي حصلت فقط علي 34 مقعدا (النتائج كاملة في الجدول المرفق). وحيث إن تلك الأغلبية لم تكن تسمح للمالكي بتشكيل الحكومة منفردا، فقد سعي إلي التنسيق مع التحالفات الأخري، والانشقاق عن القوائم بهدف تشكيل الحكومة للمرة الثالثة، الأمر الذي أزم الموقف بشدة، وفجر موجة غضب واسعة بين الأوساط السياسية والشعبية، والقبائل والعشائر السنية، بصفة خاصة، بالإضافة إلي أطراف من الشيعة.
 
ثانيا- أزمة داعش الحاسمة:
 
مع هذا الانسداد، ومع استمرار الاحتقانات والعمليات العسكرية، ودمج الميليشيات في الأجهزة الامنية الخاصة الخاضعة للمالكي، فقدت المؤسسات الأمنية العراقية التنوع الذي يجسد الوطنية كأساس للتجنيد، وأصبحت انعكاسا لمكون واحد. فقد اقتصرت نسبة العرب السنة علي 3 من تشكيل مختلف المؤسسات الأمنية. في المقابل، أصبحت العمليات الأمنية موجهة حصريا إلي المكون السني فقط، تحت شعار مكافحة الإرهاب، حتي صار الاقتران بهذا المكون -ولو بالاسم فقط- سببا كافيا لتحويل صاحبه إلي هدف لميليشيات مسلحة، منها عصائب الحق، وحزب الله، وكتائب سيد الشهداء. بل إن هذه الميليشيات التي تحالف معها المالكي كانت تستهدف خصومه السياسيين من التيارات والقوي الشيعية الأخري، ومنها التيار الصدري وغيره. وتحولت الميليشيات، بجانب الأجهزة الامنية التي تعمل لحساب المالكي، إلي أداة تصفيات جسدية علي خلفيات سياسية ومذهبية.
 
مع تفاقم هذه الأوضاع، دخلت (داعش) المشهد الداخلي العراقي، مستغلة الوضع المتأزم سياسيا، والمتدهور أمنيا، والمنقسم اجتماعيا. ورغم تأكيد التقارير الغربية والعراقية أن عدد مقاتلي (داعش) العراقيين وغير العراقيين لا يتجاوز عشرة آلاف عنصر، فإن تحالفهم في البداية مع فصائل مسلحة علي الأرض أطاح بثلاث فرق للجيش، وفرقة  للشرطة في الموصل، مركز محافظة نينوي، البالغ عدد سكانها نحو مليوني نسمة، لتتمدد (داعش) اعتمادا علي ذلك التحالف في محافظات ديالي، ونينوي، والأنبار، وأطراف بغداد، مع الاستيلاء علي آبار نفطية، ومناطق حيوية، منها سد الموصل الاستراتيجي.
 
وبعد أقل من شهر من سقوط الموصل في يونيو 2014، أعلنت (داعش) ولاية الموصل، ثم قيام دولة الخلافة الإسلامية بقيادة أبي بكر البغدادي. وطلب التنظيم البيعة من زعماء العشائر والفصائل المسلحة، وقتل المخالفين من ضباط جيش صدام حسين. ونتيجة تلك الممارسات، أصبحت المواجهة حتمية، وهو ما حدث في جبل حمرين وغيرها مع جيش النقشبندية، وكذلك مع كتائب ثورة العشرين، وقيادات بعثية عسكرية، وجيش المجاهدين. يضاف إلي ذلك أن الخطاب الإعلامي للتنظيم، فضلا عن ممارسته القتل والتهجير الجماعيين، أديا إلي انفضاض الكثيرين عنه، خاصة أنه أساء إلي (حركة ثورية مسلحة) (وانتفاضة شعبية) ضد التهميش والإقصاء. وكان معظم من تحالفوا مع (داعش) في البداية قد دُفعوا إلي ذلك دفعا بعد أكثر من 11 عاما من التعرض للاستهداف والتهميش. 
 
غير أن ممارسات (داعش)، خصوصا الإعدامات الجماعية، وهدم المساجد والحسينيات، أتاحت للمالكي حشد الميليشيات الطائفية، واستصدار فتوي من المرجعية بالجهاد، وهو الأمر الذي أشعل الساحة، وزاد منه التدخل العسكري الإيراني في المعارك في الموصل وغيرها من المناطق. ومع تكشف كثير من تلك الحقائق، جاء رفض المرجعية الشيعية في النجف لاستمرار المالكي، بداية بالمرجع الشيعي بشير النجفي، ثم المرجع الشيعي الأعلي في العراق، علي السيستاني.
 
تنازل المالكي أمام الضغوط، وتم تكليف حيدر العبادي بمنصب رئيس وزراء العراق. كان للعبادي تحفظات كثيرة علي  المالكي وأسلوب إدارته للدولة، رغم أن كليهما ينتمي إلي حزب (الدعوة) الشيعي. وكان ملحوظا أن ترحيب مختلف الأوساط، داخل العراق وخارجه، كان حذرا، خصوصا في الداخل، وتحديدا في المناطق التي تشهد مواجهات مسلحة. وحسب بعض السياسيين الشيعة، مثل عزت الشهبندر، فإن العالم يراقب العبادي وتحركاته، وكان هذا أيضا موقف إياد علاوي، زعيم القائمة العراقية. ولم يختلف كثيرا موقف الأكراد الذين يخوضون مواجهات شرسة ضد (داعش)، بعد أن هاجمت كردستان العراق، وقتلت وهجَّرت شيعة ويزيديين من سنجار، وتلعفر، وغيرهما، فقد رحب رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، باختيار العبادي. ثم ترجم ذلك الموقف بعودة الوزراء الأكراد إلي ممارسة مهامهم في الحكومة المنتهية ولايتها في 20 أغسطس الماضي. وكان أولئك الوزراء قد جمدوا عضويتهم في الحكومة، إثر اتهامات المالكي لهم بإيواء عناصر (داعش) في يونيو الماضي.
 
ثالثا- تحديات ومطالب عاجلة:
 
واجه العبادي، فور قبوله التكليف برئاسة الوزراء، حزمة من التحديات والمطالب التي تعكس مدي تأزم الوضع الداخلي، وضرورة التعامل الفعال السريع من خلال حكومة توافقية تحظي بقبول عام. وبالفعل، أعد الأكراد والعرب السنة قائمة بمطالبهم.
 
وتركزت مطالب الأكراد التفاوضية حول رواتب قوات البشمركة، وملف النفط في الإقليم، بأن تعترف أي حكومة جديدة بعقود النفط الكردية، ودفع مستحقات شركات النفط العاملة بالإقليم.
 
وتضمنت المطالب الكردية أيضا حصة إقليم كردستان من الموازنة الاتحادية. كما طالب الأكراد أيضا باعتراف السلطة المركزية بسيطرة الإقليم علي المناطق المتنازع عليها التي فرضوا سيطرتهم عليها، عقب انسحاب القوات العراقية أمام هجوم مسلحي (داعش)، والبحث جديا في ملف المناطق المختلف عليها المشمولة بالمادة 140 من الدستور العراقي.
 
في السياق ذاته، عرض ائتلاف "متحدون للإصلاح"، المنضوي في اتحاد القوي الوطنية "سني"، مطالب تضمنت: تحقيق التوازن في جميع مؤسسات الدولة، وضمان استقلالية القضاء، وإبعاده عن التأثيرات السياسية، وإظهار حسن النية بإطلاق سراح المعتقلين، والإسراع بإقرار قانون العفو العام، باستثناء الذين تلطخت أيديهم بدماء العراقيين. كما تتضمن المطالب إعادة الممتلكات والعقارات التي تمت مصادرتها من الوقف السني والمواطنين، وتفعيل التعديل الثاني للقانون 21، خاصة توسعة صلاحيات المحافظين ومجالس المحافظات، والبدء بمشاريع النقل الاستراتيجية في محافظات الأنبار، والموصل، وصلاح الدين، وديالي، وفي مقدمة هذه المشاريع السكك الحديدية، وإنشاء المطارات، وإلغاء قانون المساءلة والعدالة لانتفاء الحاجة إليه، وحصول اتحاد القوي 
علي منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية، وإظهار حسن النية بإطلاق سراح قيادات الجيش السابق.
 
في مقابل ذلك، هناك كثير من الأطراف العربية (سنة وشيعة) لديها مطالب ومظالم واضحة، وهو الأمر الذي أكدته هيئة علماء المسلمين في رسالة إلي الشعب العراقي يوم 18 أغسطس الماضي، أكدت فيها أن ثوابت الموقف السياسي من الاحتلال الغاشم وعمليته السياسية الحالية لا تتغير بتغير الأشكال والحكومات، ولا بالأقوال والأمنيات، وإنما تتغير بالأفعال والوقائع.
 
وطالبت الهيئة بمنع نشاط الميليشيات التي تمارس القتل والتهجير الطائفيين، وإنهاء سياسة الإقصاء والتهميش لأبناء العراق، والمحافظة علي ما تبقي من أموالهم، ومحاكمة كل من اقترف الجرائم، ومارس القتل والتهجير ضد الشعب العراقي، وسرق المال العام، فضلا عن إعادة المهجرين والنازحين إلي ديارهم.
 
رابعا- شروط النجاح:
 
التحديات والمخاطر التي يواجهها العراق الآن أكثر من أن تحصي، والمسئولية الآن تقع علي عاتق حزب الدعوة الشيعي، ممثلا في حيدر العبادي، إذ عليه أن يختار هو وحزبه بين عراق يتسع للجميع، بعيدا عن التطرف، أو عراق يكون ساحة للعراك الإقليمي والداخلي تحت دعوي المذاهب التي جُعلت أساسا لتيسير الدين.
 
فالكيان العراقي قيد التهاوي، وعلي شفا الانهيار علي كافة الأصعدة. وحكومة العبادي ربما تكون الأخيرة في تاريخ هذا البلد، إذا لم تحسن التصرف والتحرك. فالعبادي الذي تولي السلطة في ظروف أصعب من المالكي لا يمتلك رفاهية التجريب أو التخندق، مثل المالكي. فلا بديل عن التعايش في دولة أساسها المواطنة والقانون، وليس الطائفة، أو العرق، أو المذهب.

رابط دائم: