غموض الخطة الأمريكية يزداد ويطرح بدائل
25-9-2014

جميل مطر
*
مازلت غير مصدق أن يجرى التعامل مع قضية دولية مهمة، وأقصد قضية التصدي للتنظيمات الإرهابية، على هذا النحو الهزيل من الأداء . قلت، كما قال غيري، لعله الغموض المتعمد، غموض يريدونه بناء، يخفون خطوات وترتيبات ليفاجئوا العدو . بالغموض ربما يريدون كسب الوقت حتى يكتمل تجهيز حملة القضاء على الإرهاب . قال آخرون إنه إذا لم يكن الغموض المتعمد السبب في هذا الأداء السيئ فلعل السبب هو هذا التناقض في كثير مما يصدر عن القادة السياسيين والعسكريين، وكل من له صلة بخطة التصدي ل"داعش" وأخواته .
حرب أم لا حرب؟
 
الغموض والتناقض صارخان ومتلازمان منذ بداية الإعلان عن الخطة التي وضعها الرئيس أوباما للتعامل مع الإرهاب في العراق وسوريا . لم نفهم إن كنا مقبلين على حرب أم إجراءات لا يعكس مجموعها معنى الحرب . تصف الخطة نفسها بأنها متدرجة ومتصاعدة وأنها تتكون، حسب إحدى صياغاتها، من ثلاثة مكونات . هذه المكونات هي القصف الجوي وإنشاء حلف متعدد الجنسية وإرسال 475 ضابطاً وجندياً إلى شمالي العراق، كمدربين ومستشارين غير مرخص لهم القيام بمهام قتالية، ومع ذلك تنص الصياغة على أن تكون وظيفتهم الأساسية "تنفيذ حملة مناهضة للإرهاب" .
 
في صياغة أخرى، جاء ترتيب مكونات الخطة على الوجه التالي: قصف جوي ودعم الحلفاء استخباراتياً و"حرب ضد الإرهاب" و"مساعدات إنسانية" و"أداء واجبات الدفاع ضد هجمات داعش" .
 
هل نحن على الطريق إلى حرب؟ وإذا لم تكن حرباً، فما هو الشكل المتوقع للتصدي للتنظيمات الإرهابية؟ الرئيس أوباما قال إنه لن يتوجه بأمريكا نحو حرب، وينكر بشدة وجود حالة حرب . ولكن هناك في أمريكا وخارجها من يعتقد أننا في خضم "جزء" من الحرب ضد الإرهاب . بمعنى آخر، نحن بصدد حرب . والظاهر على كل حال هو أن الأمريكيين وآخرين يستعدون لحرب . لا أرى عنواناً آخر غير الحرب يصلح لوصف حالة من التوتر الشديد والقلق في العلاقات الدولية تعبأ لها الجيوش والأساطيل والصواريخ، وفي الوقت نفسه يعبأ لها عساكر الدورية وخفر السواحل والموانئ والمطارات وخفر القرى والنجوع ونساء ورجال الإعلام . ومع ذلك يتعهد الرئيس أوباما أنها ليست حرباً، ولن تكون حرباً .
يقول الرئيس إن "هذه الحرب" ليست حرباً لأنها "حرب" لحماية الشعب الأمريكي . وقد استنكر عليه كثيرون هذا القول، لأنه يبدو كأنه يعترف بأن حروب أمريكا السابقة لم تكن لحماية الشعب الأمريكي . دليل آخر يستخدمه مساعدو الرئيس والرئيس نفسه، وهو أنه لن تكون هناك قوات برية، وبالتالي لا يجوز استخدام تعبير الحرب .
أفهم أن الرئيس لا يريد استخدام كلمة الحرب باعتبار أنها الحالة التي تستلزم موافقة الكونغرس وتستدعي تدخله الدائم في مسيرتها . هكذا فعل الأسبقون من حكام أمريكا . نذكر ما فعله الرئيس ترومان في 1950 حين أنكر أنه يستعد لحرب في كوريا . قال وقتها إنها عملية بوليسية في إطار الأمم المتحدة . نذكر أيضاً أن هذه "العملية البوليسية" استمرت ثلاث سنوات، ومازال جنود وضباط أمريكا هناك إلى يومنا هذا، أي بعد إطلاق شرارة العملية بما يزيد على 60 عاماً .
 
من هو العدو؟
 
الاجتماعات تعقد في مدينة بعد أخرى، في جدة وباريس ونيويورك والقاهرة وكارديف، لمناقشة الوضع الإرهابي الجديد في المشرق . لم تعقد اجتماعات شبيهة لمناقشة الوضع الإرهابي المتردي في نيجيريا واليمن وكينيا والصومال، رغم أن العدو واحد . أو هكذا أفهم . لم أقع حتى اليوم على تعريف واحد واضح وغير ملتبس لهذا العدو الذي يجمعهم عندما ينشط في المشرق، ويفشل في جمعهم عندما ينشط في نيجيريا أو في مصر .
 
العدو، حسب الرئيس أوباما، لا يخرج عن كونه "مجموعة صغيرة من القتلة استطاعت أن تجذب اهتمام العالم بأسره" . هو يقصد "داعش" . يراها مجموعة صغيرة . ولكن يعود فيؤكد أنها رغم صغرها فالخطر الذى تمثله "فريد في نوعه" . قال "سنتدخل بسبب التهديد الفريد الذي يمثله داعش" . لكن الرئيس الأمريكي في خضم الغموض المحيط بخطته وأهدافه يقول إن أمريكا ستتدخل للدفاع عن هؤلاء الذين "يقاتلون من أجل الحرية" . يقول هذا وهو يعلم أن "داعش" وأخواته، جاءوا إلى سوريا تحت سمعه وبصره ورضائه "ليقاتلوا من أجل الحرية" وحصلوا على الدعم اللازم من دول هي الآن في حلفه المناهض لها .
 
هل يعني هذا أن العدو كان حليفاً ظريفاً ناعماً ومقاتلاً من أجل الحرية قبل أن يصبح عدواً خشناً متوحشاً ومعادياً للحرية؟ أم أن الظروف تتطلب وجود عدو لتتشكل من أجل مناهضته تحالفات، وتخصص لمحاربته أموال ويعاد بفضله تنظيم صفوف دول المنطقة وتصنيفها على أسس جديدة؟
 
المشكلة مع الحلفاء
 
أتصور أنه يتوفر الآن ما يقارب الإجماع بين المعلقين على أن حلفاء أمريكا، غير مقتنعين هذه المرة بحق أمريكا المطلق في التوجيه والقيادة، أو حتى بقدرتها على القيام بهما . أستطيع من جانبي أن أفهم سلامة هذا المنطق الجديد في العلاقات الدولية . إذ لم يعد خافياً أن الولايات المتحدة لم تبل بلاء حسناً في العدد الأكبر من القضايا الدولية التي تدخلت فيها في السنوات الأخيرة . الحلفاء في الشرق الأوسط مثلاً يدركون أكثر من غيرهم هذا الأمر، بعد أن قضوا عقوداً ينتظرون حلاً للقضية الفلسطينية وعدتهم به أمريكا ومنعتهم من تنفيذ حلول أخرى، وقضوا عاماً كاملاً يراقبون بشك كبير النتائج الهزيلة إن لم تكن سلبية لوساطة جون كيري بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" .
 
فشل كيري . . وفشلت أمريكا في حسابات القيادة، فضلاً عما سبق ذكره حول سجلها العسكري والسياسي الذي يثير الشكوك حول قدرتها على تحقيق نصر حاسم في أي قضية تنوي التدخل فيها . مازلنا نرى عدم الرضا بادياً وبارداً، عن مواقف الدول الأوربية وغيرها إزاء قيادة أمريكا للغرب في المواجهة الجديدة مع روسيا . الشيء نفسه ينطبق على الحلف الجاري تشكيله حالياً .
 
لا يخفى متخصصون عرب قلقهم من عودة أمريكا إلى العراق واختيارها ساحة أساسية لتنفيذ خطة الحرب . فالتغيير الذى طالب به بعض العرب في نظام الحكم في بغداد لا يبدو مقنعاً لهؤلاء العرب، فضلاً عن أن الأمور في أنحاء العراق لا تشجع بقية العرب على المجازفة بالمال والرجال في حرب على أرض حليف منهك .
من ناحية أخرى، قليلون في الساحة العربية هم القادرون على فهم العلاقة بين الحلف الأمريكي والنظام السوري .
 
العقدة الأمريكية
 
يبدو أن أوباما سوف يحصل لنفسه على ما تعوّد أن يحصل عليه رؤساء أمريكا السابقون، وأقصد الحرب الخاصة به . قد يستمر في إنكار أنها حرب، أو يقلل من أهميتها، أو يوزع معظم مهامها على حلفاء عرب وغير عرب، ولكن سيسجل التاريخ أنه حصل على حرب باسمه، حرب تناسب ظروفه وتطلعاته المتواضعة، فالتهديدات الكلامية الصادرة عن "العدو" متناهية الشر والوحشية، ومع ذلك لا تتطلب مواجهتها سوى أدوات حرب متدنية المخاطر، فلا جيوش برية ولا إقامة على الأرض . يظل أهم ما في هذه "الحرب" أنها غير محددة الأمد، بدأت مفتوحة واستمرت مفتوحة وتنذر بأن تبقى مفتوحة طالما بقي النظام الإقليمي رهن التشكيل .
 
إلا أن حرباً، أياً كان شكلها في المنطقة، وفي هذا التوقيت بالذات، لا بد أن تحمل توقعات غير مألوفة أو مسبوقة . يدرك بعض الخبراء الأمريكيين أن هذه الحرب سوف تختلف حتماً عن حربي العراق وأفغانستان . إذ استطاع العسكريون الأمريكيون التعتيم على تفاصيلهما وتعقيداتهما . أخفوا أيضاً خيبات أمل العسكرية الأمريكية وتخبط السياسي مع العسكري في قراراتهما . أما حرب "داعش" فستكون في الأغلب مكشوفة لمن يرى ويسمع، فهي تجري في الشرق الأوسط، الساحة المفتوحة دائماً والمفضوحة أحياناً . فضلاً عن أن الرأي العام الأمريكي مازال يناقش إنفاق الحربين السابقتين، الذي تجاوز 8 .1 تريليون دولار، ومسؤوليتهما عن انحدار أمريكا .
 
من ناحية أخرى، لا يمكن تجاهل حقيقة ثانية، وهي أن المنطقة لا تزال على فوهة بركان الربيع العربي، حيث العلامات متضاربة ومتشابكة، وحيث النتائج لا تزال تنضج على نيران العنف وفقدان الثقة وعودة العهود القديمة .
 
هناك من يعتقد أن "داعش" تجسيد لخيبة أمل عامة في المنطقة من مواقف القوى الحكومية والمتحكمة والقوى الدينية الوسطية، وجميعها حارب ثورات الربيع ولا يزال يحاربها . الأمر الذي لا تخطئه عين أو أذن هو أن أمريكا، وغيرها من دول الغرب وبعض الأنظمة العربية، تتعامل الآن وستتعامل مستقبلاً مع "إنسان عربي مختلف"، حتى وإن بدا هذا الإنسان لها غير مبال وغير متحمس وغير مهتم .
 
عقدة أخرى يحاول خبراء الأمن الأمريكيون الالتفاف حولها هي تلك المتعلقة بتسليح كتائب عربية وتدريبها على الحرب ضد الإرهاب . بمعنى آخر تحاول أمريكا مرة أخرى "تصنيع" إرهابيين جدد تحت اسم كتائب مناهضة الإرهاب، سلاح قديم جربته واتضح أنه ذو حدين، أحدهما أصاب الولايات المتحدة وحلفاءها إصابات غائرة .
كثيرة هي العقد، ولكن تقف فى صدارتها قضية رصد ومتابعة حركة الأموال التي تغدق على الإرهابيين . هذه العقدة مرشحة لتعقيد أكبر في حال استمرت الأزمة المالية العالمية، واستمر حصار روسيا وإيران، وفي حال بوشرت ضغوط قوية على دول مجلس التعاون الخليجي لضبط عمليات تمويل التنظيمات الدينية على مختلف أنواعها .
 
حلول:
 
لا شك في أن معظم البدائل المطروحة فاشلة منطقياً وعملياً، لتجاهلها تحولات عدة وقعت، وتطورات تحدث يومياً . ومع ذلك مطروحة بدائل لم أتصور أن يوما سيأتي وأسمع نقاشاً جاداً حولها . سمعت أصدقاء، هنا وفي الخارج، يناقشون ما يلي:
 
* أولاً: فكرة الاستغناء كلية عن جيوش أمريكا وخططها وحلفائها وإحلال كتائب من الجنود المرتزقة تابعة لشركات خاصة . تقدير هؤلاء الزملاء أنها ستكون أوفر في التكلفة، وبعيدة عن الضغوط السياسية المرهقة، ولا مصلحة لها أو هدفاً أيديولوجياً . فضلاً عن أن جنودها لا تنقصهم الوحشية اللازمة للتعامل مع وحوش "داعش" وأخواته .
 
* ثانياً: فكرة تشجيع إجراء تغيير جوهري في طريقة عمل وتفكير بعض الحكومات التقليدية إلى الحد الذي يدفع هذه الدول إلى الاقتناع بضرورة شن حرب أيديولوجية . تهدف هذه الحرب إلى نسف بعض مخططات الفكر المتشدد والتكفيري، وتحويل ملايين الدعاة والمنشغلين بقضايا مناهضة للتطور والحداثة والاعتدال الديني إلى بشر منتجين . بمعنى آخر قيادة ثورة عربية وإسلامية شاملة للتحديث الديني، وهي الثورة التي تأخرت قروناً .
 
* ثالثاً: فكرة أن يأتي الحل من خلال "يقظة قومية كبرى"، أو بمعنى أدق انطلاق مرحلة جديدة في الحركة القومية العربية . أمل هؤلاء الحالمين أن يظهر في العالم العربي من اقتنع بفشل كل التجارب التي أعقبت انحسار التيار القومي، وبإمكانية إنعاش إيجابيات هذا التيار ومزجها بإيجابيات التيارات السياسية والاجتماعية الأحدث في العالم .
 
---------------------
* نقلا عن دار الخليج، الخميس، 25/9/2014.

رابط دائم: