خريطة سايكس -بيكو
17-7-2014

د. وحيد عبد المجيد
* مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام
لم يكن غلاف عدد مجلة «تايم» الصادر في الأسبوع الأخير من شهر يونيو الماضي وحده الذي بدا صادماً عندما حمل خريطة للعراق يتفجر من قلبه وعنواناً جازماً «نهاية العراق». فكثيرة هي الاجتهادات التي تذهب إلى أن صورة منطقة الشرق الأوسط المعروفة منذ نحو قرن من الزمن تتغير الآن، بل يخلص بعضها إلى أن صيغة الدولة العربية القائمة منذ اتفاقية سايكس -بيكو إما وصلت محطتها الأخيرة أو تقترب منها.
 
والحال أن الواقع نفسه صادم بدرجة تفوق ما يمكن أن يحمله أي عنوان يدل عليه أو اجتهاد يستهدف فهم ما يحدث فيه. وعندما خرج زعيم تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) المكني أبو بكر البغدادي طالباً مبايعته أميراً للمسلمين في كل مكان، بدا المشهد أكثر من صادم فضلاً عن كونه مفزعاً.
 
ومع ذلك فليست هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها العراق، والمنطقة انطلاقاً منه، إلى صدمات مفزعة. كانت عملية «الصدمة والإبهار» هي العنوان الذي اختاره مخططو الحرب الأميركية على العراق عام 2003. لكن الصدمة التي أرادها رامسفيلد تحولت فزعاً لم يتوقف منذ إسقاط أول دفعة من الصواريخ على بغداد، وصار التطرف والإرهاب والطمع الإيراني عوامل مغذية لاستمراره.
 
ولو عدنا إلى الجدل الذي أثارته تلك الحرب، لوجدنا أن تقسيم العراق وإعادة صوغ خريطة المنطقة على خطوط مذهبية وطائفية وعرقية كان عنواناً رئيسياً من العناوين التي تصدرت ذلك الجدل. غير أن حديث التقسيم ومشتقاته من تفكيك وتفتيت لا يقتصر على العراق الآن، بعد أن تمكن نظام بشار الأسد من تحويل ثورة شعبية ضد جبروت نظامه إلى حرب أهلية دخل الإرهاب في قلبها. وها هو هذا الإرهاب يفتح الحدود بين غرب العراق وشرق سوريا على نحو يبدو للبعض كما لو أنه بداية خريطة إقليمية جديدة تنهي تلك التي صنعها الدبلوماسيان، البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، عام 1916 لتحديد مصير الولايات العربية في الإمبراطورية العثمانية.
 
غير أنه مازال مبكراً الجزم بأننا إزاء تحول استراتيجي في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، أو حتى منطقة المشرق العربي والعراق التي يدور جدل الخرائط الجديدة حولها بالأساس. فليس كل تغير يحدث في منطقة حدودية مؤذناً بتحول جوهري في الجغرافيا السياسية. وينبغي التمييز، هنا، بين تغيرات يمكن تكريسها بلا رجعة، وأخرى قابلة للمراجعة. ومن الضروري أيضاً أن نُفرّق بين تغيرات مفروضة بحكم أمر واقع وأخرى يمكن تقنينها.
 
وفضلاً عن ذلك، فالحدود في منطقة المشرق العربي والعراق لم تعد تعبّر عن الواقع الميداني منذ نحو عامين على الأقل. ولا يقتصر ذلك على الحدود بين غرب العراق وشرق سوريا، حيث يتحرك تنظيم «داعش» على جانبيها في جزء كبير من صحراء الأنبار ومساحات أخرى في محافظتي صلاح الدين ونينوى، وفي منطقة تمتد من البوكمال الحدودية إلى الرقة وأطراف حلب الشمالية الشرقية.
 
فرغم أن الوضع ليس بهذا الانسياب على الحدود السورية اللبنانية، فقد تحولت المنطقة بين القلمون وحمص من ناحية وعرسال وجوارها من ناحية ثانية إلى قاعدة للثوار الذين يقاتلون نظام الأسد لأكثر من عام. وحتى بعد أن تقدمت قوات النظام في القلمون وقلعة الحصن في حمص في مايو 2014، ظل عبور الحدود في الاتجاهين مستمراً، خصوصاً نحو لبنان بحثاً عن ملجأ من الجحيم.
 
ولا ننسى أن السلطة السورية هي التي بدأت بـ«إسقاط» هذه الحدود خلال الحرب الأهلية اللبنانية وبعدها لعقدين كاملين تعاملت خلالهما مع الجارة الصغيرة كما لو أنها مستعمرة أو محمية. غير أن ذلك التغير لم يستمر، لأنه افتقد مقومات التحول الاستراتيجي. فليس كل تغير يحدث في الواقع الميداني على حدود أو أخرى يمثل تحولاً من هذا النوع.
 
وينطبق ذلك، وربما بصورة أكثر وضوحاً، على التغير الحاصل على جانبي حدود تركيا الجنوبية وحدود سوريا الشمالية، حيث يتحرك مقاتلو بعض الفصائل التي تواجه نظام الأسد بحرية، ويتدفق لاجئون بمقدار ما يمكن استيعابهم.
 
وإذا كان دخول قوات «البشمركة» الكردية إلى كركوك استغلالاً لحالة الاضطراب التي نجمت عن انسحاب القوات التابعة للمالكي في الأسبوع الثاني من يونيو الماضي، قد دفع بقضية انفصال هذا الإقليم إلى الصدارة، فالحال أنها مثارة ومثيرة للجدل منذ الحرب الأميركية على العراق.
 
وإذا كان رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني تحدث عن واقع جديد فور دخول «البشمركة» كركوك، فالصراع الذي لا سقف له داخل الإقليم هو جزء من هذا الجديد. ولعله كان مأخوذاً بنشوة مشهد وجود قواته في كركوك، وربما تذّكر ما سمعه بعض قادة الكرد من طارق عزيز وزير خارجية نظام صدام حسين، عن كركوك. فقد قال لهم: «ليس لكم إلا حق واحد في كركوك هو حق البكاء عليها، ولن نحرمكم هذا الحق».
 
وإذا كان استقلال إقليم كردستان سيبقى متعذراً، وهو العنصر الأقوى في أي سيناريو لإسدال الستار على خريطة سايكس -بيكو، يصبح ضرورياً وضع هذا السيناريو في حجمه باعتباره واحداً من سيناريوهات عدة، وقد لا يكون أكثرها رجحاناً.
 
فلا يكفي تمدد تنظيم «داعش» وتنامي نفوذه للجزم بأن هذه الخريطة تتمزق بشكل نهائي، لأن عناصر ضعف هذا التنظيم لا تقل عن مواطن قوته اليوم وقد تفوقها في أمد ربما لا يطول. كما أن الإرهاب لا يملك بحكم طابعه أن يملأ فراغاً، أو يرسم خريطة. فالإرهاب يستطيع إلحاق الضرر وتسديد ضربات والسيطرة على مواقع، لكنه لا يقدر وحده على تحقيق تحولات استراتيجية.
 
فالواقع الإقليمي شديد التعقيد على نحو يصعب اختزاله في نهاية قريبة لخريطة سايكس -بيكو حتى في أكثر مناطقها تمزقاً الآن في سوريا والعراق، الأمر الذي يستحق أن نواصل السعي لفهمه الأسبوع المقبل.
 
------------------------------
نقلا عن الحياة اللندنية، الأربعاء، 16/7/2014.

رابط دائم: