«سايكس بيكو» جديدة!
3-7-2014

د. أحمد عبد الملك
* عمل مديراً للشؤون الإعلامية بمجلس التعاون الخليجي في الفترة من عام 93-1999، له العديد من المؤلفات في مجال الإعلام، عمل سابقاً رئيس تحرير جريدة "الشرق" القطرية.
حالة الدهشة التي تسيطر على الشعوب العربية جرّاء التطورات المتلاحقة في الشرق الأوسط، خصوصاً العراق وسوريا، جعلت الكتاب العرب يرسمون خرائط عدة لشكل المنطقة في الأيام المقبلة، وهذا ليس نقيصة، قدر ما هو احتراز وتحذير بالمحظورات التي قد تتم في غير صالح الشعوب والبلدان العربية، ومن تلك الخرائط ما أسموه (سايكس بيكو) جديدة ترعاها الدول الكبرى، وتقضي بتقسيم المنطقة العربية على أساس طائفي، دونما مراعاة لأحكام التاريخ والجغرافيا، ولكأن هذه المنطقة «عزبة» مشاعة، يتحكم فيها الغرب وحلفاؤه بعد كل مئة عام؟ والحديث عن (سايكس بيكو) الجديدة يُذّكرنا بالاسم ذاته عام 1916 عندما باركت روسيا القيصرية اقتسام فرنسا وبريطانيا منطقة الهلال الخصيب وما حولها، بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وعدم قدرتها على السيطرة على مقاليد الأمور. وكانت الاتفاقية قد عُقدت سرية بين الدبلوماسي الفرنسي (فرانسوا جورج بيكو) والبريطاني (مارك سايكس)، وتم تبادل وثائق التفاهم بين وزارات الخارجية في كل من باريس ولندن وموسكو، ولم يتم الإعلان أو الكشف عن الاتفاقية إلا عندما وصل الشيوعيون إلى سدة الحكم في روسيا عام 1917. وبذلك استولت فرنسا على سوريا ولبنان والموصل في العراق، واستولت بريطانيا على جزء من جنوب بلاد الشام والعراق والمنطقة الواقعة ما بين الخليج العربي والمنطقة الواقعة تحت النفوذ الفرنسي، بينما ظلت فلسطين تحت الوصاية الدولية ليتم تحديد مصيرها في المستقبل. وللأسف أقرت الأمم المتحدة عام 1922 وثائق الانتداب المذكورة. وصدر في عام 1917 وعد بلفور المشؤوم ليعطي اليهود وطناً قومياً في فلسطين، حيث أعلن وزير الخارجية البريطاني عن تعاطف بريطانيا مع التوجه لإعطاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وقام بإرسال رسالة إلى المليونير اليهودي المعروف روتشيلد. ولقد دعمت الدول الكبرى والصهيونية العالمية هذا التوجه، وبدأت عمليات الهجرة إلى فلسطين التي كان العرب وقتها يمثلون 93% من سكانها، وبقية القصة معروفة.
 
الشكل الجديد الآن لهذه الاتفاقية ما زال لم يُعلن. لكن القراءة الأولية لواقع الأحداث تُنبئ عن أن الاتجاه يسير نحو تقسيمات جديدة في كل من العراق وسوريا. رغم إعلان وزير الخارجية الأميركي كيري التزام بلاده بوحدة العراق، لكن ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي يرى أن سايكس بيكو جديدة سوف تنقذ بلاده من ورطتها المتفاقمة في العراق وترددها في سوريا؛ مؤكداً أن الشرق الأوسط القديم سوف يتفكك، وأن المسألة مسألة وقت!؟ والصورة التي رسمها هاس لا تختلف عما يدور في الأروقة السياسية من أن دولة شيعية مع هيمنة إيرانية ستكون في الجنوب العراقي، ودولة كردية في الشمال، واحتراب سني مع قوى أخرى ستفضي إلى دولة سنية في الشمال الغربي وبغداد. (العرب – 17/6/2014).
 
الصورة غير واضحة، ولقد ازداد التوتر على الحدود العراقية الأردنية، بعد ورود أنباء عن اقتراب مسلحين إلى المنافذ الحدودية، ونشر الأردن لعتاد حربي كبير على مسافة 100 كيلو لحدوده مع العراق. قد يزداد التوتر إذا ما اقتربت تلك العناصر إلى الحدود الجنوبية والجنوبية الغربية من العراق، أي الاقتراب من الكويت أو السعودية، وهنا لا مندوحة للولايات المتحدة من التدخل، لوقف تغيّر الحالة الأمنية، خصوصاً بعد تلميح كيري من أن توجيه ضربات لتلك العناصر تمثل أحد الخيارات المهمة، لكنها لا تمثل الجواب الكامل. ويبدو من شكل الوجود الأميركي الجديد في الخليج (سفينة النقل البرمائية و550 من مشاة البحرية الأميركية وحاملة الطائرات (H.W.Bush) وطراد الصواريخ والمدمرة (تروكستون)، التي تحمل صواريخ موجهة، فإن محاصرة العناصر المسلحة ستكون عبر الصواريخ دون أن يتورط الجنود الأميركيون في مواجهات قتالية مع تلك العناصر. وفي الوقت ذاته، ترفض المملكة العربية السعودية أي تدخل أجنبي في شؤون العراق، وهو موقف مجلس التعاون أيضاً، حيث يتخوف الخليجيون من رد فعل مشابه لما جرى عام 2003 عندما احتل الأميركيون العراق.
وما يزيد من قتامة الصورة وضبابيتها، اختلاف توجه (داعش) في العراق، عنه في سوريا، حيث وقفت عناصر (داعش) ضد الجيش السوري الحر المناضل من أجل الحرية وإطاحة نظام دمشق، لكن الفصيل في العراق يبث رسائل مختلفة – ولربما قام البعض باختلاق تلك الصور وبثها باسم (داعش) لأن وسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن التعويل على مصداقيتها- ومشاهد لقتل جماعي ضد الأطراف الأخرى، كما أن حجم عناصر (داعش) مازال مبهماً. وهل من المعقول أن توجد هذه العناصر على تلك المساحات الهائلة من أراضي العراق؟ باستثناء الشمال.
 
رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، ما زال ينتظر العون الأميركي بعد أن تفاقمت الأمور، وازداد العنف في العراق، خصوصاً بعد هروب عناصر الجيش الرسمي من جبهات المواجهة والتخلي عن أسلحتهم. فهل تعترف الولايات المتحدة بأنها أخطأت في دعم المالكي المدعوم من إيران نظراً لاعتماده المذهب الشيعي المرتبط بإيران، وما عليها إلا أن تدفع ثمن هذا الدعم؟
 
نحن نعتقد أن تجاوز عناصر (داعش) للحدود العراقية سوف يفتح جبهات عنف عديدة، وليس من المُستبعد قيام توازنات جديدة تشارك في أطراف إقليمية ودولية، لتأمين منابع ومصافي النفط العراقية، وهو الهدف الأسمى للغرب وللولايات المتحدة، على غرار ما حدث عام 1991 لطرد القوات العراقية من الكويت. أما بقية القضايا، فإن الإدارة الأميركية لا تلتفت إليها بإلحاح، وتدعها «تحلحل» نفسها بنفسها مع الأيام. كما صار الحال في سوريا، التي لم « يتحمس» الغرب والولايات المتحدة لسرعة حسم المعارك فيها وإسقاط النظام، كما حصل تحمس كبير من قبلهم في مناطق أخرى من العالم العربي. لا يمكن تقديم تقرير جازم أو رسم صورة محددة لمستقبل الأحداث في المنطقة، ولكن تغيّر خريطة العراق وسوريا قد لا تكون من الأمور غير المُستبعدة في ظل الظروف الحالية.
 
---------------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الخميس، 3/7/2014.

رابط دائم: