الجزائر والشرعية التاريخية
13-5-2014

عبد الاله بلقزيز
*
من يعتقد أن رأسمال الشرعية التاريخية انتهى مفعوله، أو مبرّر وجوده، في الحياة السياسية في مجتمعاتنا ودولنا العربية، واهم أشد الوهم وقليل الدراية بالآليات الحاكمة للمجال السياسي العربي: الموعى بها وغير الموعى بها . والمعتقد بهذا هو، في أحسن أحوال الظن به، مشدود إلى النصوص لا إلى الوقائع، وإن هو انشد إلى وقائع فإلى البراني منها لا إلى الداخلي، حيث الإيقاع التقليدي في المجال السياسي العربي لم يطرأ عليه تبدل نوعي تتغير به العلاقات والآليات عما كانت، واستمرت عليه، منذ ابتداء حقبة الاستقلال الوطني وميلاد الدولة "الحديثة" في البلاد العربية . والمستفاد مما نقول إن رأسمال الشرعية التاريخية سيظل فاعلاً، في الحياة السياسية العربية، حتى إشعار آخر، أي إلى حين تتولد شروط وظروف أخرى ينشأ فيها رأسمال سياسي جديد يلتغي بوجوده رأسمال الشرعية التاريخية، أو ينكفئ عن موقع السدة في السياسة .
 
إليكم أحدث مثال طري لاستمرار مفعول هذا الرأسمال في حياتنا السياسية العربية: انتخاب عبدالعزيز بوتفليقة رئيساً للجزائر لولاية جديدة . ليست الجزائر خلواً من الكفاءات السياسية والقيادية حتى لا ترى القوى المؤثرة في الدولة غير المرشح الرئاسي عبدالعزيز بوتفليقة رجلاً مناسباً للمرحلة القادمة، فالبلد يعج بالكفاءات والرجالات، وحظوظ أي مرشح مفترض في انتخاباتها لا تقل عن حظوظ الرئيس بوتفليقة إن تعلق الأمر بالكفاءة والاقتدار . وقد يوجد من بينهم من يملك رؤية أوسع لمسائل الاقتصاد والأمن والتعليم والشغل والعلاقات الدولية تؤهله لأن يقتعد مقعد الرئاسة، ويحظى بتأييد الجمهور الأوسع . غير أنه لا أحد من تلك الكفاءات، ومن هؤلاء الرجال، يمتلك ذلك الرأسمال الذي يحتازه عبدالعزيز بوتفليقة، ويكاد ينفرد بملكيته في الجزائر اليوم: رأسمال الشرعية التاريخية . وهو هو الذي أتى به إلى منصب الرئاسة مجدداً على الرغم من توقعات الكثيرين بأن ظروفه الصحية قد تؤثر في الجمهور الناخب سلباً، فتصرف رأيه إلى غيره .
 
رأسمال الشرعية التاريخية هذا ليس شيئاً آخر سوى انتماء الرئيس بوتفليقة إلى جيل الثورة الجزائرية، ومساهمته في بناء دولة الاستقلال في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، وموقعه القيادي السابق في "جبهة التحرير الوطني الجزائرية" . والرأسمال هذا هو عينه الذي جاء به رئيساً للبلاد، لأول مرة، قبل خمسة عشر عاماً في الهزيع الأخير من القرن العشرين، ومن حرب الجزائر الأهلية، بعد أن استنفد آخرون يشاطرونه الرأسمال عينه . ولم يكن صدفة أنه بعد "استقالة" الرئيس الشاذلي بنجديد من منصب الرئاسة (يناير 1992)، عقب الدورة الأولى لانتخابات المجلس الوطني الشعبي (البرلمان)، في نهاية ديسمبر ،1991 ثم قيام "المجلس الأعلى للدولة" - كصيغة انتقالية لتغطية حال الفراغ الرئاسي - بحثت الجزائر، والقوى المؤثرة في الدولة، عن شخصية وطنية تتمتع برأسمال الشرعية التاريخية، فلم تجد أفضل من الراحل محمد بوضياف، الذي كان مقيماً في مدينة القنيطرة بالمغرب، والذي كان قد غادر الجزائر منذ ثلاثين عاماً عقب خلافات مع رفاقه في "جبهة التحرير"، فجيء به رئيساً ل "المجلس الأعلى للدولة" قبل اغتياله . وحين اغتيل بُحث عن شخصية وطنية أخرى تتمتع بذلك الرأسمال، فكانت علي كافي رئيس "منظمة المجاهدين" الذي اختير رئيساً . ثم ما لبث أن تكرر الشيء عينه مع اليامين زروال الذي اختير رئيساً - من داخل المؤسسة العسكرية - قبل انتخاب الرئيس المدني عبدالعزيز بوتفليقة .
 
ليست الجزائر وحدها تتمسك برأسمال الشرعية التاريخية، سائر البلاد العربية تفعل ذلك على تفاوت، خصوصاً منها تلك التي مازال جيل التحرر الوطني فيها يحتل مواقع قيادية في السلطة، وتعتبر النخب الحاكمة فيها نفسها امتداداً للثورة أو لقيادة حركة التحرر والاستقلال من الأجنبي . في بيئة هذه الشرعية ينمو الرأسمال الكاريزمي، الذي يعده ماكس فيبر، عالم الاجتماع الألماني، واحداً من أسس الشرعيات الثلاث التي تقوم عليها السلطة (الشرعية التقليدية، الشرعية الكارزمية، الشرعية العقلانية) . ولا يفعل هذا الرأسمال الكاريزمي فعله في مجتمعاتنا، فحسب، التي لم تعرف بعد ذلك النمط الأعلى من الشرعية (الشرعية العقلانية)، وإنما تعرفه المجتمعات الحديثة في الغرب، التي تقوم الأنظمة السياسية فيها على الشرعية العقلانية، وأحياناً على نحو يضارع أو يفوق، في الحدة، ما يمارسه ذلك الرأسمال الكاريزمي في مجتمعاتنا . إن أسماء مثل جورج واشنطن أو أبراهام لنكولن أو روزفلت أو شارل ديغول أو فرانسوا ميتران - حتى لا نضيف لينين وماوتسي تونغ وهوشي منه وتشي غيفارا وفيدل كاسترو - أسماء ذات مفعول سحري في الوجدان الجمعي لتلك المجتمعات بمثل ما هي كاريزماتنا التاريخية والمعاصرة في وجداننا . ومعنى ذلك أن الظاهرة الكاريزمية تتغذى من فكرة الشرعية التاريخية بما هي ظاهرة تاريخية لم تستطع الثقافة السياسية المعاصرة، عندنا وعند غيرنا، أن تتخطاها في اتجاه توليد شرعيات جديدة تتحصل المقبولية الشعبية عينها التي للشرعية التاريخية .
 
-------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الإثنين، 12/5/2014.

رابط دائم: