الثورتان في مصر وأوكرانيا ضحيتان للصراع الدولي
4-3-2014

جميل مطر
*
لثورة أوكرانيا مذاق خاص. عبارة سمعتها تتردد على ألسنة متعاطفين مع ثورات العرب أو متفهمين لها. ألم تكن ثورة أوكرانيا البرتقالية درة ثورات شرق أوروبا؟ ألم تكن في 2004 نموذجاً للثورة السلمية كما يجب أن تكون؟
 
كانت ثورة أوكرانيا السبب وراء إطلاق صفة الربيع على التغيرات التي وقعت في عدد من الدول التي خضعت للاتحاد السوفياتي وقتاً طويلاً وللشيوعية وقتا أطول. كانت كييف وميدانها الهادر بالثورة محط أنظار قادة حركات الاحتجاج في دول أخرى خارج أوروبا. هناك في كييف أخذت الثورة معناها الجميل الذي سرعان ما تبناه الكثيرون خارجها.
 
من ناحية أخرى، كانت الثورة الأوكرانية في 2004 مثالاً بارزاً على قدرة الإعلام الغربي على تجاوز المعوقات السياسية والقانونية لاختراق الدول ونقل الثورة من حيزها الضيق في شرق أوروبا إلى مواقع أوسع في الشرق الأوسط. كانت أيضاً التجربة العملية، وبدت وقتها تجربة حاسمة أيضاً، لاستفادة دول الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، من حال الاحتجاج وتصاعد طموحات الشعوب لتحقيق الديموقراطية والحصول على الحق في التعبير بحرية والتخلص من قمع السلطة الاستبدادية، لينتقل (أي الغرب) إلى المرحلة الأخيرة في مسيرته نحو القضاء على كل العقبات التي وقفت أمام انتشار الرأسمالية والليبرالية بمناهجها الأحدث والأشرس.
 
هنا في الشرق الأوسط وهناك في أوروبا الشرقية، وضعت القيادات الثورية خرائط طريق، بنودها تمثل مراحل الانتقال من أوضاع الاستبداد وأنظمة حكم الحزب الواحد، وأحياناً الرجل الواحد، إلى أنظمة حكم تعتمد التعددية الحزبية والانتخابات الحرة. لم يهتم قادة الثورة، في أغلب الحالات، بأن تتضمن خرائط الطريق بنوداً تلتزم تحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الفساد والاهتمام بالفقراء. نستطيع الآن أن نقدر أن يكون السبب وراء إهمال إدراج بند العدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر، أن الغرب لم يكن مهتماً بهذه النقطة تحديداً، وإنما ركز اهتمامه على هدم الهياكل السياسية القائمة. ولكن قد يكمن السبب في حقيقة أن العدالة الاجتماعية والحقوق الدنيا للمواطنين في أوروبا الشرقية كانت في حال أفضل، ولم يكن تغييرها أو إصلاحها هدفاً عاجلاً للمستشارين والمتدخلين من دول الغرب.
 
أعتقد أن اهتمام ثورة الربيع المصرية بالجانب الاجتماعي كان إضافة مهمة للموجة الثورية، ومع ذلك لم يحظ هذا الجانب بالاهتمام نفسه عند وضع خريطة الطريق التي التزمتها -ولو شكلياً- القوى التي استلمت الحكم. هنا أيضاً، كان الغرب حريصاً على أن تكون هناك خريطة طريق، ولكن لم يكن حريصاً بالقدر نفسه على أن تتضمن الخريطة بنداً أو مرحلة لتحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الفساد والفقر.
 
ما لم ندركه في مصر إلا متأخراً، هو أن للثورات طبيعة خاصة بها وإن انطلقت في بداياتها بسبب أوضاع عامة داخلية وإقليمية ودولية. لم يخطر ببالنا ونحن نراقب تطور ثورة أوكرانيا في عامي 2004 و2005، أن «نخبة الثورة» يمكن أن تسيء إلى الثورة وبلادها وإلى نفسها. القادة الذين تولوا الحكم في كييف بعد ثورة أوكرانيا، وبينهم السيدة تيموشنكو، أساؤوا التصرف فانتكست الثورة، أساؤوا فهم العلاقة مع موسكو وأساؤوا فهم أهداف الإعلام الغربي الذي جعل من هذه السيدة الشقراء أيقونة زينت بها صحف العالم صفحاتها الأولى وكادت تصبح بتسريحتها الفريدة مشهداً ثابتاً على شاشات التلفزيون.
 
الثورة التي كانت درة الثورات في شرق أوروبا جاءت بحكام فاسدين، أو لعلها، وهو الأهم بالنسبة إلينا في مصر والعالم العربي، سمحت بأن يركبها حكام فاسدون عادوا بها إلى أوضاع ما قبل نشوب الثورة، وكان لا بد أن يتولى تسيير هذه الأوضاع قادة مدربون عليها ويعرفون تفاصيلها. هكذا عادت أوكرانيا إلى نظام حكم الأوليغاركية التي تحكمت فيها قبل الثورة، وهو النظام نفسه الذي حكم روسيا قبل أن يتولى تسييره فلاديمير بوتين بطريقته الخاصة.
 
خابت الثورة في أوكرانيا، أو بمعنى أدق، خابت جهود الثوار في خلق قيادة سياسية تؤمن بالثورة وتتمتع بحكمة كافية لقيادة «حالة ثورية» خلال عملية انتقال شديدة الحساسية والدقة. ما لم يقدره ثوار أوكرانيا، وفي الغالب لم يقدره ثوار مصر، أن القوة الحقيقية في الثورات تنتقل من مقرات الحكم وقادته وأجهزته إلى الميادين والشوارع. هناك في تلك الشوارع ترقد هذه القوة في انتظار من ينحني ويلتقطها.
 
يحدث أحياناً أن يلتقطها من تصادف وجوده في الشارع بحكم واجباته وتنظيمه ويقرر القضاء عليها، أو يحدث -كما في مصر- أن تلتقطها قوة حسنة التنظيم لتكتشف على الفور أنها صيد ملتهب فتلقي بها لتلتقطها بدورها قوة أخرى حسنة التنظيم كذلك.
وفي حالة أوكرانيا، استطاع الشعب الثائر في «الميدان» أن يجبر حكومة الثورة على التخلي عن الحكم حين أسقطها في الانتخابات، ولم يدرك أن الانتخابات ستأتي له بقيادة فاسدة أسوأ من تلك التي ثار ضدها.
 
كذلك لم يدرك قادة الثورة في كل من أوكرانيا ومصر حساسية موقع بلادهم، وأن الثورة في حد ذاتها قد تكون مطمعاً لقوى دولية متنافسة تزمع استخدامها لإعادة رسم خرائط إقليمية أو صنع توازنات قوة جديدة.
 
كان لافتاً للنظر أنه في كلتا الحالتين، حالة أوكرانيا وحالة مصر، أن القوى الأجنبية المؤثرة في أوضاع الإقليم ظلت قريبة من تطور الأحداث منذ اللحظة التي أسقط فيها الثوار آخر الرؤساء .. لم يمر أسبوع منذ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي لم تتمتع كييف بزيارة مسؤول أو آخر من الاتحاد الأوروبي، أو لم يقم مسؤول أوكراني بزيارة الاتحاد، إلى جانب المكالمات الهاتفية من واشنطن وإليها. من ناحية أخرى، لم تنقطع الاتصالات بين موسكو وكييف، وكذلك الوعود بالمعونات العاجلة تعويضاً عما كانت أوكرانيا ستفقده بسبب نكوصها عن توقيع صفقة الارتباط بالاتحاد الأوروبي، واستمرت المفاوضات الأوروبية على أعلى المستويات مع أطراف الحكم والمعارضة في كييف، إلى أن حانت ساعة اعتراف الرئيس يانوكوفيتش وجماعته بأن «الميدان» في كييف يحظى بدعم من الغرب أقوى بكثير من الدعم الروسي الذي تحظى به جماعة كبار رجال الأعمال والمال الذين استعادوا سطوتهم على الحكم وتصوروا أنهم قضوا على الثورة البرتقالية.
 
في مصر حدث تطور مماثل، إذ لم تتوقف القوى الأجنبية، دولية وإقليمية، عن بذل الجهود للتدخل في مسيرة الثورة أملاً في الوصول بها إلى ما يحقق مصالح هذه القوى. كان هناك من كان يسعى إلى الضغط على القوى السياسية والمؤسسات لمنع الثوار من الذهاب في مطالبهم إلى حد إسقاط نظام مبارك. وكان هناك من يسعى إلى الانتقال بسرعة، عبر خريطة طريق ومؤازرة المؤسسة العسكرية، إلى صندوق انتخاب يأتي بالقوة السياسية المنظمة الوحيدة في مصر، وهي «الإخوان المسلمون» باعتبار أنها تجسيد للفكرة التي هيمنت على مؤسسات البحث وصنع السياسة في واشنطن ولندن منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وتحولت مع الوقت إلى حلم إقامة أنظمة حكم إسلامية معتدلة تستقطب إلى اعتدالها قوى التطرف والإرهاب. لم يتوقف التدخل الغربي ومحاولات التأثير في مسارات الثورة المصرية حتى لحظة كتابة هذه السطور بأساليب شتى، منها الضغط «العسكري» أو على «المؤسسة العسكرية» تحديداً باستخدام اتفاقية تمويل التسليح، وبالحصار الإعلامي، والوقيعة السياسية بين مختلف قوى المجتمع.
 
الثورتان، في مصر وأوكرانيا، حادتا عن أهدافهما الداخلية ووقعتا في حبائل صراع دولي وأزمات اقتصادية ومالية وتوازنات إقليمية سريعة التغير. في الحالتين خاب أمل مغتصبي الثورة في الغرب كممول، فالغرب وإن كان أغنى من روسيا ومن دول الجوار في الشرق الأوسط، إلا أن التجارب الماضية تؤكد جميعها أنه شديد البخل، حتى على حلفائه.
 
من ناحية أخرى تظل الدول الغنية القادرة، ولو نظرياً، على تمويل مرحلة الانتقال، غير راغبة في أن تستعيد الثورة مسيرتها نحو عدالة اجتماعية وحرية وديموقراطية، خشية أن تعود فتصبح نموذجاً تحتذيه بلدان أخرى في الإقليم.
 
ومع ذلك، يبقى الأمل لدى الحريصين على مستقبل أقل اضطراباً في مصر وأوكرانيا، في أنه لا توجد مصلحة لقوة خارجية في تمزيق الدولتين وتفتيتهما. كل الأطراف الخارجية تريد أن تحتفظ مصر وأوكرانيا بوحدة ترابهما، الغرب يعرف أن روسيا لن تخرج من شبه جزيرة القرم ولكنها لن تشجع مناطق الشرق الأوكراني على طلب الانفصال، ويعرف أيضاً أن مصر لن تخرج من شبه جزيرة سيناء مهما زادت الضغوط ودعاوى الانفصال.
 
وفي كل الأحوال، وتحت أشد الظروف قسوة، لن يكون من مصلحة الأطراف الأجنبية السماح بتدهور الثورتين إلى حدود الفوضى الغوغائية المطلقة، وبخاصة بعد أن كشفت الأحداث عن قوة الغوغاء وقدرتهم على التدمير واستعدادهم للعمل في خدمة أي جهة لها مصلحة في إثارة الاضطرابات.
 
المؤكد أن الأطراف الأجنبية تتوقع صعوبات شديدة عند تشكيل حكومة وطنية في أي من البلدين تقود البلاد نحو الاستقرار، فالخلافات عميقة إلى حدود قصوى، إلى جانب أنه تظهر في مصر عناصر إرهاب في أشكال متنوعة، وظهرت في أوكرانيا عناصر تطرف في شكل نازيين جدد وقوميين متطرفين وليبراليين متوحشين.
 
كما لا يخفى على عين مراقب مدقق، أن البلدين يعانيان عقدة فساد مستحكمة تستبعد الأمل في تحقيق نهاية سريعة للفساد، ففي مصر وأوكرانيا تعددت بؤر الفساد وتعمقت وتشعبت واستشرت في جميع المواقع، مهددة كل الآمال في انتقال هادئ وسلس لثورتين كانتا كدرّتين في تاج الثورة العالمية.
 
--------------------------
نقلا عن الحياة اللندنية، الإثنين، 3/3/2014.

رابط دائم: