لماذا تقدمت الثورات العربية فى تونس وتعثرت فى بلاد أخرى؟
5-2-2014

مصطفى كامل السيد
* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة.
لا نملك فى مصر إلا أن نشعر بالتقدير والإعجاب للشعب التونسى ليس لأنه فقط هو الذى بدأ مسيرة الإطاحة بالنظم المستبدة فى الوطن العربى، ولكن لأنه تقدم صفوف الثورات العربية بضرب المثل فى قدرة قواه السياسية على العمل معا بروح الفريق والتغلب على خلافاتها بإقرار دستور يقيم أركان دولة القانون وبالتوافق على الخطوات التالية للمرحلة الانتقالية وعلى الحكومة التى ستشرف على تنفيذ هذه الخطوات. صحيح أن اليمن أيضا نجح فى أن يكرر نفس النموذج من التوافق بين قواه السياسية فى الحوار الوطنى الذى انتهى بدوره منذ أيام قلائل وطرح ترتيبات متفقا عليها للقضايا الخلافية بين هذه القوى. ولكن ربما لا يزال الوقت مبكرا للحكم على نجاح اليمنيين، فما زالت أمامهم مهمة وضع الدستور الجديد بل والتأكد من أن ما خلص إليه الحوار الوطنى سوف يفضى إلى الاستقرار المطلوب، خصوصا أن القوى الرافضة له لا تشمل فقط الحوثيين المتمردين فى الشمال وأتباع تنظيم القاعدة بل بعض أتباع الحراك الجنوبى الذين لا يقبلون سوى الانفصال عن اليمن بدلا من الصيغة الفيدرالية التى طرحها هذا الحوار. الأمر جد مختلف فى سوريا التى حصد الصراع المسلح فيها أرواح أكثر من مائة وخمسة وعشرين ألف شخص فضلا على مليونين ونصف المليون من اللاجئين خارج البلاد وربما مليون من المشردين داخلها وثمانية ملايين مواطن يتهددهم الجوع دونما نهاية لهذا الصراع فى الأفق القريب. وإذا كان الصراع المسلح أقل حدة فى ليبيا إلا أن الحكومة هناك عاجزة عن فرض الأمن فى مواجهة الميليشيات المسلحة التى تختطف قادة الحكومة أنفسهم أو التصدى لنزعات انفصالية فى شرق البلاد تحديدا، وفى البحرين تستقر أوضاع تحكم الأقلية السنية فى حكم البلاد فى مواجهة رفض الأغلبية الشيعية لهذا الحكم الطائفى مدعومة بتدخل مسلح من جانب دول الخليج الأخرى بقيادة السعودية. وبينما كان الأمل أن تكون مصر أسبق من تونس فى إقامة قواعد نظام سياسى جديد يستوعب كل قواها السياسية، وخصوصا أنها كانت أولى دول الثورات العربية فى وضع دستور جديد فى سنة 2012، إلا أن الخلافات بين قواها السياسية أدت فى النهاية إلى تدخل القوات المسلحة وإقصاء القوة السياسية الأكثر تنظيما والتى فازت بالأغلبية فى خمس مشاورات انتخابية جرت بعد سقوط النظام المستبد السابق. هذا التباين الواسع بين مسار الثورة العربية فى تونس ومسارها فى دول الثورات الأخرى يطرح التساؤل حول أسباب ما يبدو حتى الآن وكأنه استثنائية تونسية، نتمنى بكل تأكيد أن يعم صداها أرجاء الوطن العربى.
 
تعود جذور هذه الاستثنائية التونسية إلى عوامل بنيوية فى تركيبة كل من الدولة والمجتمع فى تونس. هذه التركيبة هى التى دفعت القوى السياسية إلى البحث عن التوافق واستخلاص الدروس الصحيحة من تجارب الآخرين. فى مقدمة هذه العوامل البنيوية طبيعة العلاقات المدنية العسكرية من ناحية وقوة المجتمع المدنى خارج الأحزاب السياسية فى تونس، فضلا على إخفاق تيارات الإسلام السياسى فى تونس فى تحقيق الهيمنة على المجتمع التونسى. وتبدو أهمية هذه العوامل الثلاثة عند مقارنة تونس بمصر.
 
فمن ناحية أولى حظيت تونس منذ استقلالها بنظام سياسى أخضع المؤسسة العسكرية تماما للسلطة المدنية التى تمثلت فى حزب الدستور الذى قاد النضال من أجل الاستقلال وحظى زعيمه الحبيب بورقيبة بشرعية لا نزاع فيها طوال عقدين تقريبا من الحكم قبل أن يخفق حكمه فى التجاوب مع تطلعات أغلبية التونسيين للعدل وللديمقراطية، وهو ما تبدى فى انتفاضات شعبية ونمو تيارات المعارضة السياسية التى فتحت الباب أمام سقوطه فى انقلاب عسكرى فى سنة 1987. ولكن ضباط الجيش ظلوا خارج حلبة السياسة وارتضوا بهذا الدور يتدخلون فقط عندما تفقد السلطة المدنية شرعيتها بسبب إصرار رئيس الدولة على البقاء فى السلطة رغم افتقاد أهليته الصحية والذهنية نتيجة التقدم فى العمر أو بسبب ثورة شعبية لا تمكنه من الحكم. يختلف ذلك الوضع عما عرفته مصر أو سوريا أو ليبيا. القوات المسلحة المصرية لديها تاريخ طويل من الانخراط فى العمل السياسى، وهو دور استعادته بصفتها المؤسسية بعد ثورة يناير، وأصرت على بقائه من خلال الإعلان الدستورى الأخير للمجلس الأعلى للقوات المسلحة قبل تولى الرئيس السابق لمهامه، ودعاها ضعف الأحزاب السياسية والمجتمع المدنى إلى مواصلته منذ 3 يوليو 2013، وكرس الدستور المصرى الأخير هذا المركز المتميز فوق كل السلطات المدنية بالمواد التى تقضى بتشاور الرئيس المنتخب شعبيا مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة قبل تعيين وزير الدفاع وذلك خلال مدتى الرئاسة القادمتين واستقلالها بإعداد ميزانيتها وإخضاع المدنيين للمحاكمات العسكرية فى جرائم العدوان على المنشآت العسكرية أو أفراد القوات المسلحة أثناء أدائهم لوظائفهم. وفى سوريا يخضع الجيش السورى لقيادة حزب البعث، وفى ليبيا تمثل الميليشيات المسلحة أكبر تحد لحكومتها ولأمن مواطنيها. لا ينطوى الدستور التونسى الجديد على أى نصوص تقترب مما جاء فى الدستور المصرى وإنما يكتفى الفصل السابع عشر منه بالنص على واجب الجيش فى الدفاع عن الوطن وحياده التام ودعمه للسلطات المدنية. وعلى عكس قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى مصر آثر اللواء رشيد بن عمار قائد الجيش التونسى الذى أطاح ببن على على الاستقالة من منصبه والابتعاد عن الحياة العامة كلية، وهو مثل نادر فى تاريخ الجيوش العربية عموما لا يقترب منه سوى نموذج سوار الذهب فى السودان فى أعقاب انتفاضة 1985 التى أطاحت بجعفر النميرى الذى كان يحكم السودان بعد انقلاب عسكرى فى 1969.
 
والسمة الثانية فى بنية المجتمع التونسى هى قوة منظمات المجتمع المدنى، وسبب هذه القوة هو استنادها لقاعدة شعبية واسعة واضطلاعها بدور مؤسسى فى صياغة السياسات العامة وصمودها دفاعا عن حقوق المواطنين فى مواجهة كل الحكومات التى تعاقبت على تونس فضلا على تاريخ بعضها فى الحركة الوطنية التونسية واحتفاظها جميعا بوحدتها بعيدا عن الانشقاقات أو ضغوط السلطة الحاكمة. ولذلك فقد اضطلعت أربع من هذه المؤسسات بدور القائد لعملية التحول الديمقراطى وهى الاتحاد التونسى للشغل والاتحاد التونسى للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والهيئة الوطنية للمحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
 
قارن ذلك بافتقاد كل من الاتحاد العام لنقابات العمال فى مصر وتنظيمات رجال الأعمال لمصداقيتها لممالأتها دائما السلطة الحاكمة وللانشقاقات الحادة فى صفوف المحامين ومنظمات حقوق الإنسان والتى تحول بينها وبين ممارسة أى دور فعال فى المجتمع فضلا على افتقاد منظمات حقوق الإنسان ومعها معظم منظمات المجتمع المدنى الأخرى أى قاعدة شعبية.
 
وأخيرا تمكنت الأحزاب السياسية فى تونس من أن تدير خلافاتها بروح التوافق والسعى لحلول وسط. وكان السبب فى ذلك هو أن أيا منها لا يملك ولا يدعى الهيمنة على المجتمع السياسى التونسى. طبعا حزب النهضة الإسلامى التوجه كان يمتلك 41% من مقاعد الجمعية التأسيسية، ولكن الأحزاب المدنية كانت تمتلك 59% من المقاعد، وما كان له أن يحكم تونس وهو بالمعايير الحسابية حزب أقلية، ولم يكن يسانده حزب آخر له خلفية دينية يمللك نسبة معتبرة من الأصوات، ولذلك كانت مرونة حزب النهضة اختيارا عقلانيا بل لعله كان اضطرارا. أما فى مصر فقد حصل الإخوان المسلمون على 59% من المقاعد فى انتخابات مجلس الشعب فى سنة 2012، ولكن السلفيين فى حزب النور حصدوا 25% من المقاعد، أى أنه كان لهذه الأحزاب دينية التوجه 84% من المقاعد وفازوا بنسب عالية فى كل الانتخابات التى جرت بعد الثورة. ولذلك شعر الإخوان المسلمون تحديدا أنهم يملكون أغلبية الأصوات والمقاعد، وانه عندما يتعلق الأمر بمدنية الدولة، فالأحزاب دينية التوجه الأخرى تناصرهم. باختصار بدت المرونة والحلول الوسط فى تونس ضرورة لازمة، وبدت كأنه لا حاجة لها فى مصر. الوضع فى اليمن وفى ليبيا شبيه من هذه الناحية بتونس، ولكن تحديات الأمن أشد خطورة فى كل من هذين البلدين، ولا يرى حزب البعث الحاكم فى سوريا بديلا آمنا له سوى الاعتماد على قواته المسلحة وميليشياته مع المناورة بين الأطراف الدولية.
 
ربما تكون هناك دروس يمكن تعلمها من تجربة تونس فى دول الثورات العربية الأخرى، ولكن البشر يختارون دائما فى ظل أوضاع لم يكن لهم يد فى وجودها.
 
--------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، الأربعاء، 5/2/2014.

رابط دائم: