التصدع العـصى:| عوامل انتهاج الملكيات الخليجية مسارا مختلفا‮ ‬بعد الربيع العربى
30-3-2014

د. محمد عز العرب
* خبير الشئون الإقليمية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية مدير تحرير التقرير الاستراتيجي العربي
إن واحدا من الأسئلة المثارة في المنطقة العربية،حاليا، هو مدى احتمالية تعرض الملكيات الخليجية للحالة نفسها من التصدع التي صارت عليها بنية الدولة الوطنية،في مرحلة ما بعد الربيع العربي. برزت في مرحلة ما بعد الثورات الشعبية والاحتجاجات الجماهيرية في المنطقة العربية احتمالات العودة إلى البدائل الأدنى من الدولة، فيما يعرف بالولاءات التحتية، أو البيئة القاعدية للانتماءات، خاصة في حالات ليبيا،واليمن،وسوريا، وربما يطول دولا ظلت توصف بأنها مركزية مثل مصر وتونس، في ظل قناعات مستقرة لدي التيار الرئيسي في أدبيات النظم السياسية بأن"الملكيات متماسكة والجمهوريات مفككة"،أو تتجه إلى التفتيت(1)، بعد الخلاف بين القوى السياسية السائدة،والتيارات الفكرية المهيمنة علي شكل وهوية،ووظائف،ونظام حكم،وأمن حدود الدولة.
 
علي الرغم من أن هذا التصور ليس صحيحا على إطلاقه، لاسيما وأن هناك جمهوريات لم تشهد نزعات مجتمعية نحو التفكيك، في حين عرفت ملكيات خليجية احتجاجات عنيفة،وصلت إلى حد الانتفاضة في البحرين، وبدرجة أقل في سلطنة عمان،وشرق السعودية، ورفع خلالها شعارات"ثورية" تطالب بإسقاط النظام،والتحول إلى النظام الجمهوري،أو تحقيق الاستقلال،وتقرير المصير، بما يشير إلى أنه قد تحمل الحالات الخليجية هبات مجتمعية تعكس المفاجآت الخاصة بها،مثلما حدث مع دول الجمهوريات في نهاية عام2010-فإن دول الخليج ليست محصنة بشكل نهائي ضد التفكك،أو التفتيت،أو التقسيم، بل إن ما يميزها عنغيرها من الدول العربية هو"عامل الخصوصية"، الذي لا يشير إلى"الاستثناء"، بقدر ما يعبر عن اختلاف السياسات والموارد،والتحالفات(2).
 
في هذا السياق، تتناول الورقة أربعة عناصر أساسية، وهي أسباب بروز احتمالات التفكك في الحالات الخليجية، وأبرز مناطق ومحاور التفكك المحتملة، ومقاربة العوامل المختلفة لتحفيز التفكك أو تقييده، وأخيرا إبراز التداعيات المحتملة لسيناريو التفكك على المحيطين الإقليمي والدولي لمنطقة مجلس التعاون الخليجي.
 
أولا- احتمالات التفكك في الحالة الخليجية:
 
هناك مجموعة من التفسيرات التي تعكس احتمالات حدوث التفكك، وفقا لأسوأ سيناريو، في بعض حالات الدول الخليجية، خلال المرحلة الحالية من تطورها السياسي،والاقتصادي،والاجتماعي، على النحو التالي:
 
* عدم تبلور الهوية الوطنية للدولة الخليجية: إن إحدى الإشكاليات الرئيسية التي قد تمهد لسيناريو التفكيك، كأسوأ حالة، داخل بنية الدولة الخليجية، هي طبيعة الدولة ذاتها، إذ إن الولاءات لا تزال تقع ضمن العلاقات الأولية. وتأتي علاقة الفرد البحريني، أو السعودي، أو الإماراتي، بقبيلته، وعشيرته، وطائفته، قبل علاقة المواطنة. ووفقا لما يشير إليه نيل بارتريك، فإن حداثة نشأة الدولة الخليجية (والتي تتراوح بين أربعة وخمسة عقود) تشير إلى أن الدولة لم تنشأ لحسابات خاصة بالاستقلال الوطني، أو التحرر من الاستعمار الأجنبي، بما أدي برؤساء الدول، أو الملوك، أو الأمراء إلى توظيف الأبعاد الدينية، أو الهويات القبلية لتعزيز الشرعية الداخلية لحكهم. وقد أدت هذه الهويات (ما دون الدولة) إلى إضعاف التماسك الوطني(3).
 
وعلى الرغم مما شهدته غالبية دول الخليج من تنمية اقتصادية، وتحولات اجتماعية، بدرجات مختلفة، فلم يتواز معها تغيرات سياسية بنيوية. ومن ثم، فإن المواطن في هذه الدولة الخليجية أو تلك لا يشعر بمعني أو علاقة المواطنة إلا من خلال انتمائه إلى تحالف قبلي واسع، فيما يعرف بالمخاض الطويل من القبيلة إلى الدولة(4)، وهي حالة مرشحة لإنتاج صراع ممتد، لو برزت ميول انفصالية لدي جماعة مهمشة متحالفة مع أجنحة حاكمة، وإن كان حسمها صعبا، سواء عن طريق الثورة، أو تغيير النظام، أو حتى الإصلاح من الداخل(5). ورغم ذلك، تظل احتمالات التفكك قائمة لغياب الرابطة العضوية بين المواطنين، بما يشير إلى معضلة الهوية الوطنية في بعض الدول، مثل الإمارات والبحرين.
 
* فجوة الثقة بين الحكم والمعارضة السياسية: إن أحد الأسباب التي قد تؤدي إلى التفتت أو التفكيك لأقاليم الدولة في الحالة الخليجية، وهو ما تعبر عنه الحالة البحرينية، فجوة الثقة Trust Gapبين نظام الحكم والمعارضة الشيعية، التي تشكل الأغلبية المجتمعية، وفقا للكثير من الأدبيات، بحيث تصل إلى ما بين 60 و70٪ من السكان(6). ولا تختلف حالة البحرين في هذا المجال عن غيرها من الحالات العربية، إذ لا يمكن تفسير موجة الثورات العربية المتوالية بمعزل عن أزمة الثقة التي احتدمت بين الشعوب العربية، ونظمها الحاكمة، وفقدان الأخيرة مصداقيتها لدي الشعوب.
 
ووفقا لما طرحه فرنسيس فوكاياما، تعد الثقة شرطا رئيسيا لإيجاد مجتمع اقتصادي وسياسي متماسك، وعنصرا رئيسيا أيضا في الثقافة اللازمة لتحقيق هذا الهدف. إن انعدام الثقة تلك يفسر لنا لماذا تفشل الاستجابات الجزئية من جانب أنظمة الحكم لمطالب المحتجين في العالم العربي في احتواء الانتفاضات أو الثورات، بل على العكس كانت تدفع بهؤلاء الثوار إلى رفع سقف المطالب بسبب غياب عامل الثقة. ومن خلال الثقة، يمكن تقليص ما يطلق عليه الاقتصاديون "تكاليف التعاملات" السياسية، أي تكاليف التفاوض والإرغام والإكراه، والتي تمثل مصدرا للنزاع وعدم الاستقرار. فالنظم السياسية والاقتصادية لا تعمل ولا تنجح إلا في مجتمع متماسك نسبيا، مما يستلزم توافر حد أدني من تبادل الثقة(7). وقد عبر عن ذلك ولي عهد البحرين، سلمان بن حمد، خلال موجة الاحتجاج في فبراير 2011، حينما قال لشبكة سي إن إن "مهمتنا تتمثل أساسا في بناء ما يكفي من الثقة مع الأطراف المعتدلة في البلاد، حتى نتمكن من تجاوز هذه المشكلة"(8).
 
أضف إلى ذلك أن احتكار فئة قليلة للقدرات السياسية والاقتصادية للمجتمع يخلق مشكلة مواطنة في البلاد، أو ما سمته ابتسام الكتبي "المواطنة غير المتوازنة"، حيث يحصل أفراد في المجتمع على امتيازات كثيرة دون القيام بالواجبات المقابلة. ومن ناحية أخرى، فإن استئثار القلة بمقدرات الوطن يدفع الآخرين الذين لم يتمتعوا بهذه الفرص أو المقدرات إلى حالة من السخط الذي قد يتراكم، فيتقلص ارتباط غالبية المواطنين بالوطن، مما قد يدفعهم إلى الانزواء بعيدا على هامش المجتمع، حيث يعيشون حالة من المواطنة المنقوصة. من هذه النقطة، تحديدا، تبدأ الفجوة بالاتساع بين النخبة الحاكمة من جانب، وشرائح قليلة من السنة، وقوى كبيرة من الشيعة من جانب آخر. وتتبلور التباينات بين الطرفين شيئا فشيئا، إلى أن تصل إلى حد التناقض نتيجة لعدم الثقة بين طرفي المعادلة، مما يؤدي إلى ظهور الأزمات، وتصاعد التوترات، وتزايد الاحتقانات، والتي قد تصل إلى حد التفكيك(9).
 
* تصاعد الخلافات الإثنية: يمثل نمط السياسات الحكومية في التعامل مع مطالب الشيعة، وهو ما يعبر عنها باستمرار المعضلة الشيعية في الحالات الخليجية الثلاث (البحرين، والكويت، وشرق السعودية)، جزءا من مشكلة عامة، هي أزمة المواطنة. فالتمييز المذهبي هو أحد عناصر تلك الأزمة التي تنطوي على الكثير من تلك التجليات، إلا أنه يتصل باستقرار الدولة الخليجية ووحدتها الإقليمية، والتعايش بين أبنائها(10).
 
بعبارة أخرى، ثمة تفاوت في درجة الانصهار الاجتماعي بين الشيعة والسنة في المجتمعات الخليجية، وطرأت في السنوات الأخيرة تغيرات ملحوظة، حيث تراجع التداخل السكاني لصالح التركز السكاني، بمعني تركز أبناء الشيعة في مناطق معينة، وتركز أبناء السنة في مناطق أخرى. وقد ظل التعايش الملمح المميز لجوهر العلاقة القائمة بين السنة والشيعة في دول الخليج لفترات طويلة. إلا أن هذا لا يمنع من بروز بعض التوترات الموسمية، والتي قد تطول، والتي يمكن إرجاعها إلى عدة عوامل، أولها: الاتجاهات المتشددة التي تتبناها بعض القوى السياسية والتيارات الفكرية داخل إحدى هاتين الطائفتين تجاه الأخرى، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى حد تكفير الطائفة الأخرى، وعدم الاعتراف بها. ثانيها: شعور بعض الشيعة بالتمييز والاضطهاد ضدهم، نتيجة لمعاناتهم أوضاعا اقتصادية واجتماعية صعبة، فضلا عن تهميشهم النسبي في دوائر صنع القرار في دول الخليج. ثالثها: الدور الخارجي في إذكاء الخلافات بين السنة والشيعة من جانب، وبعض القوى الإقليمية والدولية من جانب آخر(11).
 
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن دور الطائفة الشيعية يبرز جليا في الحالة البحرينية، لاسيما أن الأغلبية المحكومة شيعية، والأقلية الحاكمة سنية. ولعل بروز دور الشيعة في احتجاجات منتصف التسعينيات أو احتجاجات 2011 تعبر عن نفاذ المتغير الديموجرافي الطائفي، على الرغم من تصريحات قوى المعارضة بأن الاحتجاجات البحرينية تعبر عن مطالب شعبية، وليست مطالب طائفية، وإن كانت الرؤية الرسمية تطابق بين التهديد الخارجي، ومصدره الأساسي إيران، والتهديد الداخلي لحكم آل خليفة، ومصدره الشيعة البحرانيون الذين يشكلون أغلبية السكان(12). لذا، قد يسهم التوزيع غير المتكافئ للموارد الاقتصادية، والعيش في مناطق طرفية، والحصول على دعم من إحدى الدول الإقليمية في حدوث التفكيك.
 
* التأثيرات الإقليمية الانسيابية: يري اتجاه بارز في دراسة النظم الإقليمية أن حدوث حركة احتجاج، أو أزمة حادة، أو ثورة شعبية، أو ميول انفصالية في بلد ما يعني انتقالها لدول الجوار الجغرافي بشكل أكثر كثافة مما يحدث في حالة الدول غير المتجاورة(13). لذا، فإن الثورات والانتفاضات في عدد من الدول العربية أسهمت في إنعاش الولاءات الأولية (القبلية، والطائفية، والعرقية، والدينية، والجهوية)، وهو أمر كان له تأثيراته في مفهوم وكيان الدولة الوطنية، وما تنطوي عليه من تأثيرات انسيابية في منطقة الخليج(14)، لاسيما أن الدولة اليمنية، على سبيل المثال، بدأت تدخل دائرة الخطر، خاصة في ظل ضعف أجهزة الدولة، وهشاشة مؤسساتها، حيث تبدو التكوينات القبلية أقوى من الدولة(15)، وهو ما يجعل الدولة الخليجية غير محصنة من التحولات الهيكلية(16)، وإن لم تصل إلى حد التفكك(17).
 
* التدخلات الخارجية: إن واحدا من العوامل الثانوية التي قد تساعد في إنجاح سيناريو التفكيك هو التدخل الإيراني، سواء عبر المال السياسي، أو الإعلام الطائفي، أو التشيع الثقافي في شئون الدول الخليجية، وتعاملها مع "الجماعات" الشيعية داخل الدول، لاسيما في ظل تفاقم مشكلاتها، وتداعيات الثورات العربية، وتفاعلات الثورة السورية، ومشكلات الشيعة في دول الجوار الجغرافي، بحيث أصبح يمثل تهديدا حقيقيا للتماسك المجتمعي والاستقرار السياسي لبعض الدول. وفي هذا الإطار، فإن التطورات السلبية، على صعيد هذه القضايا، سوف تنعكس على ظاهرة العنف الطائفي في عدد من دول الخليج، سواء في اتجاه تصعيدها وزيادة حدتها، مقابل محاولات دول الخليج تقليصها، أو الحد منها(18).
 
وفي هذا السياق، تشير تطورات الأعوام الثلاثة الماضية إلى أن تأثيرات عدم الاستقرار الداخلي في دولة مثل البحرين تمتد إلى "البؤر الثورية" في دول الخليج الأخرى، خاصة المنطقة الشرقية بالسعودية. كما أن أية مكتسبات تحققها المعارضة الشيعية البحرينية بلي الذراع قد تحسب في ميزان القوى لصالح إيران. وبعد قيام كل من السعودية وقطر بتسليح المعارضة السورية لإسقاط نظام بشار الأسد، قد يؤدي ذلك إلى اتجاه إيران، والعراق، وحزب الله بتسليح المعارضة البحرينية، انطلاقا من المعاملة بالمثل، وتصوير أن ما يحدث في البحرين هو شبيه لما يحدث في سوريا.
 
ثانيا- مناطق التفكك ومحاوره المحتملة خليجيا:
 
إن الاتجاه السائد في أدبيات النظم السياسية المقارنة يشير إلى أن التفكك أو الانفصال يحدث لدي أقلية أو جماعة في منطقة جغرافية، متي توافرت المحفزات المؤدية لذلك، والتي تتمثل في خمسة عوامل رئيسية، هي: التركيز الديموجرافي للجماعة في منطقة جغرافية معينة، ووجودها في منطقة طرفية، وتعرضها للتمييز من قبل الدولة أو الجماعة السائدة، وعدم حصولها على نصيب عادل من الثروة الوطنية، ووجود تحريض من الخارج لهذه الأقلية أو الجماعة على الانفصال(19).
 
وإذا انتقلنا من الأبعاد النظرية إلى الحالات العملية، فسنجد أن خبرة التحولات الداخلية الخليجية تشير، خلال السنوات الماضية، إلى أن محاور التفكك المحتملة هي التي عبرت عن نفسها في لحظات غضب سابقة، والتي تتمثل بصفة خاصة في مملكة البحرين، وسلطنة عمان، وشرق السعودية، والكويت، حيث شهدت احتجاجات تفاوتت حدتها، وإن تركزت بصفة خاصة في الجيوب الثورية الجغرافية، أو المناطقية المحددة، مثل القري الشيعية الفقيرة (مناطق الصمود) مثل سترة، والغريفة، والدراز، والمعامير، والسهلة، وبني جمرة، وسار وجدان، وتوبلي، وبلد القديم في مملكة البحرين، وصلالة، وصحار، وظفار في عمان، والإحساء، والقطيف، والعوامية في السعودية، ولم تتمكن من استقطاب القاعدة الاجتماعية الأعرض، أو تسيطر على قلب الدولة.
 
تركزت نقاط الاشتعال في نقاط الضعف الخليجية الأكثر حرمانا من عائدات الدولة الريعية، وهي أكثر المناطق والطوائف من ناحية المعاناة سياسيا، واقتصاديا، ومذهبيا(20). غير أنه لم تظهر الميول الانفصالية لدي ساكني الإمارات الشمالية الفقيرة، رغم الفجوة القائمة، مقارنة بقاطني الإمارات الأخرى الغنية، في حالة دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو ما يشير إلى اختلاف السياسات المتبعة لدي كل دولة خليجية على حدة، على نحو جعل احتجاجات تنشب، وأخرى لا تنشب، أو تندلع وتخمد، وأخرى تندلع وتستمر. بعبارة أخرى، تشابهت المقدمات، واختلفت النتائج.
 
غير أن أكثر البؤر الثورية قابلية للتفكك هي تلك التي تقع في المنطقة الشرقية، حيث الأغلبية الشيعية في المملكة العربية السعودية، في الوقت نفسه تحتوي على غالبية المخزون النفطي. كما أن وجود الشيعة في هذه المنطقة جعلهم على مناطق تماس بالوجود الشيعي المكثف في دول الجوار، وأبرزها العراق، وإيران، والبحرين، وهو ما عبرت عنه شعارات للمحتجين قبل عدة شهور، إبان تولي محمد بن فهد إمارة المنطقة الشرقية. وفي بعض الأحيان، يتواصل أبناء الطائفة أو القبيلة الواحدة بين دولتين عبر مناطق حدودية، تتشابه فيه أنماط حياتهم على الجانبين من ناحية الفقر الاقتصادي، والوضع الاجتماعي، على نحو يهدد بخلق مناطق توتر عابرة للدول شديدة الحدة، وهو أمر يوجد في مناطق حدودية بين السعودية والبحرين(21).
 
وقد وقع نشطاء سياسيون إصلاحيون في المنطقة الشرقية رسالة إلى الملك عبدالله، في فبراير 2011، تطالب بملكية دستورية، وشملت قائمة الموقعين على الوثيقة، التي سميت بـ "إعلان وطني للإصلاح"، مجموعة واسعة من الناشطين من مختلف ألوان الطيف الأيديولوجي والطائفي. ودعت الوثيقة إلى مجموعة من الإصلاحات السياسية والمدنية، منها إنشاء مجلس نيابي منتخب، وحماية حقوق الإنسان، والأهم من ذلك تأسيس نظام فيدرالي، من شأنه أن يعطي سلطة أكبر لحكومات المحافظات (إمارات المناطق). ويمثل المطلب الأخير تحولا كبيرا، إذ يشير إلى سخط سياسي ومجتمعي متزايد داخل المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية. بل برزت حركة "خلاص في الجزيرة العربية" التي دعت إلى تقرير المصير، بحسبانه حقا مشروعا لأي جهة مضطهدة، وإطلاق "جمهورية الإحساء والقطيف"(22).
 
ومن ثم، لم يكن غريبا أن تبرز تحليلات غربية تشير إلى توقعات مبكرة بتقسيم السعودية، حيث كتبت روبرت رايت تقريرا في صحيفة "نيويورك تايمز"، أخيرا، وبثته شبكة "سي إن إن" الإخبارية في 30 سبتمبر الماضي، عن تقسيم خمس دول عربية إلى 14 دولة، على خلفية تفاقم النزاعات الطائفية والسياسية في المنطقة، وأبرزها تقسيم سوريا إلى ثلاث دول، واليمن إلى دولتين، وليبيا إلى ثلاث دويلات. أما السعودية، فسوف يتم تقسيمها إلى خمس دويلات هي السعودية الشمالية، والشرقية، والغربية، والجنوبية، والدولة الوهابية، على نحو يغير من خريطة المنطقة العربية إلى حد كبير(23).
 
ولم تكن هذه هي المرة الأولي التي تثار فيها مسألة "تقسيم" السعودية، بل طرحت خلال تسويق مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الموسع، خلال إدارة جورج بوش الابن في عامي 2004 و2005، بتقطيع أوصال المملكة إلى منطقة شرقية نفطية للشيعة، ومقاطعات جنوبية لليمن، وشمال للأردن، وفاتيكان إسلامي تتداوله المذاهب الإسلامية، وهو ما كان يشير إلى خريطة جديدة رسمتها الولايات المتحدة للشرق الأوسط الذي تريده، الأمر الذي يعكس وجود رغبة لدي تيارات معينة داخل إحدى الإدارات الأمريكية لتقسيم السعودية(24).
 
كما سبق أن طرح المؤرخ الأمريكي برنارد لويس، في عام 1983، فكرة تداولتها بعض مراكز أبحاث أمريكية مثل "راند"، تشير إلى تقسيم شبه الجزيرة العربية إلى ثلاث دول فقط، هي دولة الإحساء الشيعية (تضم الكويت، والإمارات، وقطر، وعمان، والبحرين)، ودولتان سنيتان، الأولي في نجد، والأخرى في الحجاز، تضم اليمن أيضا، وهو تصور يغلب عليه عدم الواقعية، نظرا لأن التركيبة المجتمعية في الدول الخمس مغايرة، سواء الأغلبية الشيعية في البحرين أو الأغلبية الإباضية في سلطنة عمان، أو الأغلبية السنية في الكويت، أو الأغلبية الأجنبية الوافدة في الإمارات. كما أن إدارة التعدد الإثني، واللغوي، والطائفي تختلف من دولة خليجية لأخرى.
 
غير أن الأوضاع القائمة تشير إلى صعوبة حدوث ثورة وطنية في غالبية دول الخليج، وإنما الأقرب للحدوث هو انفجار بؤر ثورية في مناطق محدودة تكون على أنقاض الدول القائمة، بحيث تأخذ شكل دويلات متصارعة، وكيانات منقسمة، وفي مناطق بها وزن نسبي لطائفة معينة، أو قبيلة محددة، ولا تنتهي في هذه الحالة إلى تقوية المركز، أو حتى الاحتفاظ بهذه الصيغة المركزية، وإنما قد تقود إلى تمزقه أو تفتته. ومن المرجح أن تسعي الأقاليم التي تتركز فيها الثروة النفطية داخل الدولة إلى الاستئثار بمواردها، والانفصال عن الدولة، والسعي لانتهاج طريق ذاتي، وهو ما يعني أن الانفصال خيار وارد(25).
 
ثالثا- عوامل تحفيز/ تقييد التفكك:
 
إن هناك عددا من العوامل التي تفسر عدم حدوث التفكيك في الملكيات الخليجية، تزامنا مع سياق إقليمي محفز لذلك، وهي:
 
* احترام الشرعية السياسية: يمثل هذا المحدد أبرز العوامل الكابحة لحدوث تفكك الدولة الخليجية، نظرا لعدم تغير العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع في الملكيات الخليجية، مقارنة بالجمهوريات العربية. لذا، فإن معظم المواطنين في الملكيات الخليجية يرغبون في أن تطول التغييرات حكوماتهم، لا النظام بأكمله، أو الدولة ببنيتها، نظرا لسهولة الوصول من جانب أفراد المجتمع إلى متخذ القرار السياسي، كبر في المركز أو صغر. يتيح هذا الأمر فرصة للحكام، كي يسيروا على طريق إصلاح سياسي أشمل، من دون أن يخسروا عروشهم، أو ينهار نظامهم، وتتفتت دولتهم(26).
 
وهنا، تمثل شرعية الإنجاز أحد الملامح الرئيسية لأداء حكومات الخليج، على مدى السنوات الماضية، عبر بذل جهود تنموية مهمة مكنتها من تحقيق بعض مؤشرات التقدم، على نحو يجعل دول مجلس التعاون مختلفة عن دول الثورات والجمهوريات العربية، فيما يتعلق بالمؤشرات الخاصة بالحالة المادية، وتحقق دولة الرفاه، ودرجة الرضاء العام، والرضا بحرية الاختيار وغيرها. يشير ذلك إلى أن مستوى الثقة بين الحكومات والمجتمعات في دول الخليج سوف يظل "مرتفعا"، خلال المرحلة المقبلة، رغم الهزات التي تحدث بين الحين والآخر، لحساب أساسي، هو الحفاظ على جوهر العقد الاجتماعي بين الطرفين، إذ تلتزم تلك الحكومات بتلبية رغبات المواطن ورعايته فيما يخص التعليم، والصحة، والتوظيف، والإسكان، والأمن، على نحو ما خلق مواطنا "ملكيا" في أغلب هذه الدول(27).
 
* سياسات الدولة الريعية: مكنت سياسات دول الخليج، بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة، من تجاوزها الأزمات الداخلية، أو السيناريوهات السيئة المصاحبة للثورات الشعبية، بحيث إن الأداء الاقتصادي للملكيات الخليجية أفضل من الأداء الاقتصادي للجمهوريات العربية، بحيث نجحت، من خلال توظيف العائدات النفطية، في تحقيق معدلات عالية للنمو الاقتصادي، وارتفاع نصيب الفرد من الدخل القومي، وتطور الخدمات المجانية المرتبطة بالتعليم، والإسكان، والصحة، وهو ما تشير إليه تقارير التنمية البشرية، أو التنافسية الاقتصادية، والشفافية الدولية، بل والتقارير الدولية الحديثة النشأة(28).
 
ووفقا لتقرير السعادة العالمي 2013 -الذي يجريه معهد الأرض في جامعة كولومبيا، بالتعاون مع الأمم المتحدة للعام الثاني على التوالي، ويغطي ما يقرب من 141 دولة- حظيت خمس دول خليجية بمراكز متقدمة في قائمة الشعوب الأكثر سعادة في العالم، فيما غابت بقية الدول العربية. فقد جاءت الإمارات في المرتبة الـ 13 عالميا، تلتها سلطنة عمان في المركز الـ 23، ثم قطر في المرتبة الـ 27، والكويت في المرتبة 32، والسعودية 33 عالميا. ولم يختلف هذا التطور عن التقرير الأول الصادر في العام الماضي، حينما جاءت الإمارات في المرتبة الـ 17، ثم السعودية في المركز الـ 26، ثم الكويت في المرتبة الـ 29، ثم قطر في المركز الـ 31، وإن كان المتغير الأبرز هو صعود سلطنة عمان مرة أخرى(29).
 
إن أبرز ما أدركته الدول الخليجية هو أن مؤشرات قوة الدولة قد تغيرت، وأن السعادة الوطنية الشاملة هي أهم ناتج قومي للبلاد، على نحو يجعل السعادة ثقافة وطنية. فرفاهية الدولة، مثل قدرتها على المنافسة، مرهونة بخاصية ثقافية متغلغلة، هي مستوى الثقة المتأصلة في المجتمع. ومن هنا، تولد إدراك لدي حكومات الخليج بأن واحدا من المداخل الرئيسية لقياس وتحقيق التنمية المستدامة هو ما يسمي بقياس مشاعر الرضا والسعادة التي تتمتع بها الشعوب، وأن سعادة الفرد هي البداية لاستقرار المجتمع.
 
لذا، فإن هذه المستويات العالمية من السعادة في منطقة الخليج يتوقع أن تعمل ضد الثورات الشعبية، والانتفاضات الجماهيرية التي أدت إلى التغييرات السياسية الكبري في بلدان عربية أخرى. فمظاهر الحداثة لها مؤشرات اجتماعية ظاهرة في دول الخليج، بما أدي إلى تحقيق معايير السعادة في قلبها. وإذا كانت بعض المطالبات في الخليج تفاعلت مع مشاهد الثورات العربية، وللحظة وجيزة رفع بعضها سقف طموحاته برفع شعار الإطاحة بالنظام، فإنه تراجع للوراء بسرعة، لاسيما بعد تعثر التحولات الداخلية، خلال المراحل الانتقالية في دول الثورات، بما جعل الخيار الآمن لهذه الشعوب الخليجية هو إدخال إصلاحات، وليس إسقاط أنظمة(30).
 
غير أن التزايد في الاحتياطيات النفطية، والارتفاع المتوقع في العائدات المالية لبعض الدول الخليجية، خاصة المملكة العربية السعودية، خلال المرحلة المقبلة، من المحتمل أن يتم توظيفه للتراجع عن مسار الإصلاح السياسي السريع، وفقا لأسوأ سيناريو. إذ تتمسك أنظمة الحكم بالتركيبة السياسية القائمة، من خلال تمتين قواعد تحالفاتها الوطنية في الداخل، وعقد تحالفات أوسع مع الخارج، بما يؤدي إلى تفويت الموجة الثورية الراهنة، غير أنه خيار غير مأمون العواقب على المدى الأبعد، لأنه سوف يبقي عامل الرغبة في التمرد الثوري لدي القوى والقواعد الاجتماعية غير الراضية عن الأوضاع الحالية، وفي ظل واقع دولي وإقليمي مغاير.
 
* متانة التحالفات الشبكية: تستند غالبية الأنظمة (أو بالأحري الأسر) الحاكمة في دول الخليج إلى التحالف مع عائلات، وقبائل، وعشائر مختلفة، فضلا عن الدخول في شبكة من المصاهرات معها، على نحو يجعل منها كتلا مجتمعية داعمة للأوضاع القائمة، ومقاومة أية تغييرات بنيوية قد تهدد أو تقلص المصالح التي تكتسبها، على الرغم من حدوث تغير نسبي في توجهات شباب القبائل في عدد من دول الخليج، وبصفة خاصة في حالة الكويت، للمشاركة في السلطة، فضلا عن الاستحواذ على الثروة. إذ برز تحول في مسار علاقة القبيلة بالسلطة السياسية من التحالف إلى التصادم، ومن الموالاة إلى المعارضة، وهو ما برز في الانتخابات البرلمانية، خلال الأعوام الماضية(31).
 
فقد كانت القبائل تدعم النواب التقليديين الموالين للحكومة، بينما كانت المعارضة من الحضر. ولكن منذ تحالف الاتجاه السياسي القبلي مع التيار الإسلامي، بشقيه الإخواني والسلفي، تحول إلى المعارضة السياسية ضد الحكومة. بل يمكن القول إن القبائل تكاد تكون هي القائدة للمعارضة اليوم، وهو ما يعبر عنه تصريحات مختلفة لشيوخ القبائل، مفادها "حذار تهميش دورنا". فقد أسهم التغير الاجتماعي والسياسي في المجتمع الكويتي في نشوء قوى جديدة، هي "شباب أبناء القبائل" الذين يمثلون "الكتلة الصلبة" في المعارضة السياسية التي تنامت ضد الحكومة، أو بالأحري ضد "الوزراء الشيوخ" في الأسرة الحاكمة.
 
وعبر عن أهمية رأس المال الاجتماعي المضاد للتفكيك ترتيب الديوان الأميري لزيارات أمير الكويت صباح الأحمد، خلال شهري أبريل ومايو الماضيين، وحضوره ولائم (مآدب غداء وعشاء) عند شيوخ قبائل عديدة، منها "عنزة"، و"مطير"، و"العوازم"، و"العجمان"، و"شمر"، فضلا عن قبائل أخرى مثل "الرشايدة"، و"العتبان"، و"الضفير"، و"الهواج"، وغيرها سوف يلتقي بها الأمير، خلال الأسابيع المقبلة. وقد صاحب الأمير، في لقاءاته بشيوخ وأبناء القبائل، الشيخ نواف الأحمد، ولي العهد، والكثير من أقطاب الأسرة الحاكمة. وقد صرح الأمير صباح الأحمد، في 26 مايو الماضي، بعبارة بليغة، هي "أن الكويت من دون القبائل ليست هي الكويت". كما نظمت أيضا، خلال الشهور الماضية، عدة لقاءات في ديوانيات مختلفة، عبر تجمع "الكويت هي القبيلة"، للتذكير بأدوار القبائل في معركة الجهراء عام 1920، ومجابهة الغزو العراقي للكويت في أغسطس1990(32).
 
إن السؤال الذي ينبغي أن تطرحه الحالة الكويتية هو ضرورة البحث المستمر في ماهية الإجراءات العملية لإبداء تماسك العلاقة بين رموز وأولياء عهود الأسر الحاكمة، وأبناء وشيوخ القبائل في الدول الخليجية، على نحو يؤدي إلى الانتقال من انهيار الثقة، إلى ضعف الثقة، إلى استعادة الثقة، إلى بناء الثقة، إلى تمتين الثقة بين الطرفين، عبر الاهتمام بـ "روابط شباب القبائل"، و"الحرس القبائلي" الذي يضم كبار السن من القبائل، لاسيما أن القبيلة السياسية تعد شكلا حديثا من أشكال التنظيم الاجتماعي، الذي يتمايز عن المفهوم التقليدي للقبيلة الذي يعتمد وحدة النسب.
 
ومن هنا، فإن الأسرة الكويتية الحاكمة أدركت حاجتها إلى نوع من التغذية الاسترجاعية لعلاقة مستقرة ومتماسكة بشباب وشيوخ القبائل، ولكنها يفترض أن تكون على أسس جديدة، وفقا لتفاهمات يتم التوصل إليها قبل حدوث متغيرات وسيطة، هي التي تسهم في تدهور علاقات الطرفين، لتعود القبائل الكويتية باعثة للاستقرار السياسي، بعد أن أصبحت مصدر تهديد جديدا. ذلك أن محاولات التفكيك أو الانفصال التي تقودها بعض القوى الرسمية وغير الرسمية المعارضة، لإرساء مواقع وملكيات ودويلات أصغر حجما، تسعي لحكمها أو فرض سيطرتها، بما يجعل إقليم الخليج حلبة صراع بين الدويلات الناشئة عن تفتت الدولة الخليجية الواحدة تستمر لسنوات، وربما لعقود، وهو ما يحمل مخاطر كبيرة.
 
* اختلال التركيبة السكانية: يمثل أحد الكوابح الرئيسية لحدوث انفصال أو تفكيك أحد الإقاليم في الدولة الخليجية. فعلى الرغم من أن العامل الديموجرافي يمثل واحدا من أهم مصادر التهديد التي تواجه دول الخليج، لاسيما أن معظمها دول صغيرة، من حيث المساحة الجغرافية، وخفيفة من حيث البنية الديموجرافية، ومتنوعة من حيث التركيبة المذهبية والطائفية، وتقع في الوقت نفسه بالقرب من كتل سكانية ضخمة، فإن المعادلة السكانية الخليجية تشير إلى أن الأوضاع الشاذة صارت حالات طبيعية، إلا أنها تعمل ضد خيار التفكيك الداخلي(33).
 
وما يساعد على تجنب حدوث هذا التفكيك هو عدم التجانس الثقافي والاجتماعي. فالتركيبة السكانية لدول الخليج مكتظة بشتي أنواع من البشر (أشبه بمجتمع فيسفسائي)، من مواطنين ووافدين، الذين يختلفون من حيث القيم، والعادات، والتقاليد، والطقوس الشائعة، وكل جالية تنتمي إلى وطن، وتحمل جنسيته، وتتفاعل مع مجتمعها الأصلي أكثر من تعاملها مع التجمع الذي تقيم فيه من أجل العمل. ولذلك، يفتقد هذا التجمع البشري أو ذاك مقومات المجتمع، بل قد يزيد عدد الوافدين على عدد المواطنين، وتصل إلى زيادة جنسية وافدة مثل الباكستانيين والهنود، مقارنة بالسكان المواطنين الإماراتيين، وهو ما تشير إليه "ظاهرة الدول غير العربية في المنطقة العربية"(34).
 
إن مصير السكان الوافدين غير مرتبط بمصير السكان المواطنين، ومستقبلهم ليس واحدا، كما أن لكل عمالة ظروفا مختلفة، وحسابات ربما تكون متعارضة. وهنا، رغم أن العامل الديموجرافي تتمخض عنه تأثيرات مختلفة، سواء تمس التماسك الاجتماعي، أو الانتماء الثقافي، أو التوطين الوظيفي، أو حتى انتشار المرض الوبائي، فإنها لا تمس الاستقرار السياسي بدرجة كبيرة، بما يصل إلى حد التمهيد لتفكيك الدولة الخليجية القائمة.
 
* جماعية المواجهة الثورية: تمكنت دول الخليج، من خلال علاقات التساند الجماعية، من وقف الانهيار في الحالتين اللتين خرجتا عن السياق الخليجي، وعدم توسعها أو امتدادها على نحو قد يؤدي لتوسع بؤر الاحتجاج، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى المطالبة بالانفصال، وهو ما يعكس الإيمان الخليجي بفكرة المصير المشترك. فقد حولت دول الخليج قوات درع الجزيرة إلى قوة تدخل سريع في المنامة في منتصف مارس 2011، ليس للقيام بمهام قتالية، وإنما لمواجهة أية تهديدات قد تواجه الدولة من الداخل أو الخارج، على نحو يجعل الدولة الخليجية "عصية على الكسر"، وتوصيل رسالة محددة لإيران بأن أمن المنظومة الخليجية ككل خط أحمر(35).
 
* مخرجات التحولات الإقليمية: على الرغم من مرور ثلاث سنوات على اندلاع الثورات الشعبية في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، والتي نجحت القوى الثورية في إسقاط رءوس أنظمتها الحاكمة، والقضاء على خط توريث الجمهوريات فيها، فلا تزال المراحل الوسيطة بين انهيار الأنظمة السابقة، وبناء الأنظمة البديلة، والتي يطلق عليها العملية، أو المرحلة الانتقالية، التي تعيشها هذه الدول، تتسم بالتعقيد الشديد، بحيث تشبه "المتاهة" الناتجة عن الدخول في مسارات متنوعة، والاستنزاف في مراحل مختلفة، قد تؤدي في بعض الأحيان إلى العودة إلى نقطة الصفر، لدرجة يمكن القول معها إن دول الثورات العربية تعرف مراحل انتقالية متعددة، وليس مرحلة انتقالية واحدة(36).
 
لذا، فإننا إزاء ثورات تعرف من أين جاءت، ولكن لا تعرف إلى أين تسير. وتزداد الأوضاع سوءا في حالة الدول الخليجية، التي سوف تتفتت إلى دويلات متصارعة، وقبائل متناحرة، في حال قيام ثورات، حيث يتجه المواطنون إلى الارتداد للانتماءات الأولية، والعلاقات التضامنية ذات النطاق الضيق (القبيلة، والعشيرة، والطائفة، والمنطقة) مقابل تراجع الانتماء للدولة، وهو ما يجعل خيار التحولات الهيكلية، مثل الثورة الشعبية، أو الميول الانفصالية، يفرز عدة دول في صورة "قبائل بإعلام" تتصارع فيما بينها على "غنيمة الحكم"، على نحو يدخل دول الخليج دوامة من العنف الثوري الذي لا ينتهي، والتي قد تنتج حالة من الدولة المفككة أو المجتزأة.
 
غير أن حصيلة التفاعل بين العوامل الدافعة للتفكك، والعوامل المعيقة للتفكك تشير إلى غلبة الثانية على الأولي. ومع استمرار الهزات في المنطقة العربية، لن يكون هناك مفر من زيادة دول الخليج لوتيرة الإصلاحات التي تعود بالنفع على قطاعات المجتمع، واستمرار القيام بالثورات المدنية السلمية في كل جوانب الحياة، وهو ما يحتم دراسة جادة لخرائط التوتر، وبقع الاشتعال، وأحزمة الفقر في قري شيعة البحرين، ومناطق شرق السعودية، بل والاهتمام بالأوضاع الداخلية لبعض دول الجوار، خاصة اليمن، لاسيما بعد دخوله في تصنيف الدول الفاشلة، على نحو يحمل تخوفات من تأثيرات النيران القادمة من البيوت الخشبية الهشة المجاورة لدول الخليج.
 
الهوامش:
 
(1) Russel E.Lucas, "Monarchical Authoritarianism: survival and political liberalization in a Middle Eastern Regime type", International Journal of Middle East Studies, Vol36., No1., February 2004, p. 8.
 
وكذلك عماد عياصرة، "طريق واحد أمام الأنظمة الملكية العربية"، إيلاف، 10 ديسمبر .2012
 
(2) غريغوري غوس، "كيف اجتازت الأنظمة الملكية في الشرق الأوسط عاصفة الربيع العربي؟"، مركز بروكنجز الدوحة، رقم 8، سبتمبر 2013، ص.6
 
(3) Neil Partric, "Nationalism in the Gulf states", Kuwait Programme on development, governance and globalization in the Gulf States, center for the study of global governance, No5., October 2009, p. 2.
 
(4) انظر: د.محمد جواد رضا، "صراع الدولة والقبيلة في الخليج: أزمات التنمية وتنمية الأزمات"، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1992)، ص.21 عباس المرشد، "إدارة التنوع في البحرين: تعثر الانتقال من المشيخة إلى المواطنة الدستورية"، سلسلة أوراق مبادرة الإصلاح العربي، أبريل .2013
 
(5) د.مأمون فندي، "هل تكسر القبيلة موجة الثورة؟"، الشرق الأوسط، 7 مارس .2011
 
(6) د. حسنين توفيق إبراهيم، "العنف الداخلي في الدول العربية"، قضايا استراتيجية، العدد 21، مايو 1999، ص.19
 
(7) فرنسيس فوكاياما، "الثقة: الفضائل الاجتماعية وتحقيق الازدهار"، (أبوظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 1998)، ص22-.24
 
(8) "ولي عهد البحرين يدعو الشعب للتهدئة ويسحب الجيش"، سي إن إن عربي، 19 فبراير .2011
 
(9) د. ابتسام الكتبي، "قضية المواطنة في دول الخليج"، في "الخليج العربي بين المحافظة والتغيير"، (أبوظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2008)، ص ص 81-.82
 
(10) شحاتة محمد ناصر، "سياسات النظم الحاكمة في البحرين والكويت والعربية السعودية في التعامل مع المطالب الشيعية (2003-2008): دراسة مقارنة"، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2011).
 
(11) فتوح هيكل، "واقع التركيبة الطائفية في دول الخليج العربي"، شئون خليجية، العدد 47، خريف 2006، ص.79 جعفر الشايب، "إدارة التنوع المذهبي في السعودية"، مبادرة الإصلاح العربي، فبراير .2013
 
(12) د. عمرو الشوبكي، "الحركات الاحتجاجية في الوطن العربي: مصر، المغرب، لبنان، البحرين"، المستقبل العربي، العدد 384، أبريل 2011، ص.101 علاء سالم، "اضطرابات الشيعة بالبحرين: أبعاد أزمة الدولة الوطنية في الخبرة العربية"، السياسة الدولية، أكتوبر 1996، ص.148
 
(13) جميل مطر، "مفهوم النفاذية في النظام الإقليمي العربي"، المؤتمر السنوي الأول لمركز البحوث والدراسات السياسية، "النظام السياسي في مصر: التغير والاستمرار"، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 5-9 ديسمبر .1987 د. مصطفي عبدالعزيز المرسي، "الأهمية النسبية لخصوصية مجلس التعاون لدول الخليج العربية ومتطلبات التكامل"، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، سلسلة دراسات استراتيجية، العدد 96، 2004، ص.48
 
(14) د. شملان العيسي، "الخليج وحركات التغيير العربية"، الاتحاد، 1 أبريل .2011 د. شملان العيسي، "الخليج: التعامل مع المتغيرات"، الاتحاد، 14 أغسطس .2011 محمد الحمادي، "أحجار الشطرنج العربية"، الاتحاد، 27 مايو .2011
 
(15) د. حسنين توفيق إبراهيم، "الثورات والانتفاضات وتحولات الواقع السياسي العربي"، كراسات استراتيجية، العدد 225، 2011، ص.28
 
(16)  د.حسن أبوطالب، "ثورات شعبية .. ولكن في بلدان الخليج هذه المرة"، سويس أنفو، 13 مارس .2011 سعد محيو، "احتمال امتداد ثورات المواطنة العربية في منطقة الخليج لا يزال قائما"، سويس أنفو، 16 مارس .2011 نهال الشريف، "الممالك العربية .. إلى متي تظل بعيدة عن السقوط؟"، المصور، 23 مارس .2011
 
(17) د. خير الدين حسيب، "حول الربيع الديمقراطي العربي: الدروس المستفادة"، الجزيرة السعودية، 27 مارس .2011 فلاح ضوبجي، "حراك سياسي خليجي"، الحياة، 14 أغسطس .2011
 
(18) خالد الدخيل، "إيران وموقفها من الثورات العربية"، الحياة، 20 مارس .2011 إبراهيم الحصين، "إيران على خلفية ما يحصل في البحرين"، الحياة، 30 مارس .2011 فراس أبو هلال، "إيران والثورات العربية: الموقف والتداعيات"، الموقع الإلكتروني للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 20 يوليو .2011 د.شملان العيسي، "الخليج وإيران والمتغيرات"، الاتحاد، 4 سبتمبر .2011
 
(19) لمزيد من التفاصيل، انظر: فؤاد إبراهيم، الشيعة في السعودية، (بيروت: دار الساقي: 2007).
 
(20) د. معتز سلامة، "الثورة أم الإصلاح: الخيار الآمن لدول الخليج"، كراسات استراتيجية، العدد 221، 2011، ص.6
 
(21) فريديرك ويري، "الانتفاضة المنسية في شرق المملكة العربية السعودية"، سلسلة دراسات كارنيجي للشرق الأوسط، 14 يونيو .2013 محمد صالح المسفر، "في الخليج العربي براكين سياسية متفجرة"، الشروق، 19 مارس .2011
 
(22) Madawi Al-Rasheed, "Saudi Arabia: local and regional challenges", Contemporary Arab Affairs, No1., 2013, p. 29.
 
(23) "نيويورك تايمز: خريطة جديدة للشرق الأوسط تقسم سوريا والسعودية"، القدس العربي، 30 سبتمبر .2013
 
(24) محمد الرويحل، "عن مخطط إعادة تقسيم الشرق الأوسط"، عالم اليوم الكويتية، 2 أكتوبر .2013
 
(25) د. معتز سلامة، مرجع سبق ذكره، ص.44
 
(26) مارينا أوتاوي ومروان المعشر، "الأنظمة الملكية العربية: فرصة للإصلاح لما تتحقق بعد"، دراسات مركز كارنيجي للسلام الدولي، ديسمبر 2011، ص.4
 
(27) د. عبدالخالق عبدالله، "الربيع العربي: وجهة نظر من الخليج العربي"، المستقبل العربي، العدد 131، سبتمبر 2011، ص.128
 
(28) Laura El-katiri, Bassam Fattouh and Paul Segal, "Anatomy of the oil based welfare state: rent distribution in Kuwait", Kuwait Programme on development, governance and globalization in the Gulf States, center for the study of global governance, No. 13, January 2011, p. 19.
 
(29) للمزيد، انظر ترتيب الدول الخليجية في تقرير السعادة العالمي على الرابط التالي:
 
http://issuu.com/earthinstitute/docs/worldhappinessreport2013_online
 
(30) د. معتز سلامة، مرجع سبق ذكره، ص.47
 
(31) جوين أوكرهيلك، "سياسة الهوية في الانتخابات الكويتية"، الموقع الإلكتروني لمركز بروكنجز الدوحة، 8 فبراير .2012
 
(32) "الأمير: الكويت من دون القبائل ليست الكويت"، الرأي الكويتية، 26 مايو .2013
 
(33) د. محمد عبدالسلام، "مشكلات الدفاع عن الدول الصغيرة في الخليج العربي"، السياسة الدولية، العدد 168، أبريل 2007، ص.90
 
(34) عامر ذياب التميمي، "هموم الديموغرافيا"، المجلة، 16 سبتمبر .2006
 
(35) "البحرين تعلن استعانتها بقوات درع الجزيرة للحفاظ على الأمن والاستقرار"، الشرق الأوسط، 15 مارس .2011 عبدالله إسكندر، "درع الجزيرة في البحرين"، الحياة، 16 مارس .2011 غريغورس غوس: "الانتفاضات العربية وحدت الدول الخليجية"، المجلة، 25 مايو .2011
 
(36) أبوبكر الدسوقي، "المصيدة الانتقالية: لماذا تتعثر الدول في فترات ما بعد الثورات العربية؟"، (السياسة الدولية، ملف العدد، العدد 188، أبريل 2012).

رابط دائم: