«جنيف 2» والمحكمة الدولية وبينهما شطح
30-12-2013

جورج سمعان
*
الذين وضعوا اغتيال محمد شطح، مستشار سعد الحريري، في سياق سلسلة الاغتيالات التي استهدفت قيادات ورموزاً في فريق «14 آذار»، لم يخطئوا. كانوا يؤشرون إلى قرب بدء المحكمة الدولية جلساتها منتصف الشهر المقبل. والذين ذهبوا إلى ربطه بما يحدث في المنطقة، خصوصاً في سورية، لم يخطئوا هم أيضاً. لكن الأهم من تصنيف هذه الجريمة أنها تفاقم الانقسام الداخلي في لبنان. وهو انقسام عمودي لم يشهد البلد مثيلاً له في أسوأ أيامه وحروبه. لأنه يشكل جزءاً من صورة الانقسام المذهبي الذي يضرب المنطقة ويهدد كياناتها. ولأنه جزء من الفوضى العارمة الممتدة على طول خريطة الشرق الأوسط.
 
ليس أدل على حدة الانقسام الداخلي أن يتهم «تيار المستقبل» وشركاؤه السياسيون خصومَهم، من سورية إلى «حزب الله» بأنهم وراء الجريمة. وكان سبق لهؤلاء الخصوم أن ساقوا اتهامات مماثلة إلى التيار بأنه يوفر الحماية للتكفيريين، بعد تفجيري الضاحية الجنوبية والسفارة الإيرانية في بيروت. ولم يسلم من هذه الاتهامات المتبادلة أطراف إقليميون يقفون إلى جانب هذا الفريق اللبناني أو ذاك. أن يصل الصراع السياسي إلى هذا السقف من الخطاب، كيف يمكن أن يأمل اللبنانيون بقيام حكومة جامعة أو حكومة وحدة وطنية؟ أو كيف لهم أن يتوقعوا التوافق على رئيس جديد للجمهورية بعد أشهر؟ كيف لهم أن يتحاشوا فراغاً ينخر مؤسسات الحكم ويهدد بانهيار الدولة التي يستحيل على مكون من مكوناتها أن يستأثر بها دون الآخرين، وهو ما أثبتته التجارب القديمة والحديثة؟
 
الأهم من تصنيف الجريمة أن يتساءل قادة سنة في لبنان عن السبب في استهدافهم. بل عن استهداف وجوه المعتدلين في صفوفهم الذين لا يزالون يعتقدون بجدوى الحوار مع الآخر مهما بلغت حدة الصراع. كأنما المطلوب دفع جمهور هذه الطائفة برمته إلى أحضان التيارات المتشددة والمتطرفة، أو على الأقل مدها بمزيد من المناصرين لتصبح لها الغلبة والكلمة الفصل. وهذا ما يدفع لبنان إلى التماهي مع ما يحدث في بلاد الشام. ويجعله جزءاً من الصورة العامة التي تتجاوز حدود العراق، إلى إيران وجوارها الشرقي والجنوبي والغربي. ليقيم في خط النار والمواجهة المذهبية المباشرة. وينخرط عميقاً في صلب الحرب الدائرة في سورية وامتداداتها العراقية.
 
لعل الأهم من التصنيف يكمن في التوقيت أيضاً. تأتي الجريمة كما يرى بعضهم فيما الأنظار تتجه نحو لاهاي وما ستؤول إليه جلسات المحكمة التي تنظر في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وتأتي أيضاً في حمأة الاستعدادت القائمة لعقد مؤتمر «جنيف 2» الخاص بالأزمة السورية. ولبنان مدعو إلى هذا المؤتمر. وسيذهب إليه ليس بصفته بلداً مجاوراً أو مضيفاً لمليون لاجىء سوري وأكثر. بل سيذهب بعدما بات طرفاً في الحرب الدائرة. تماماً كما ستحضر قوى أخرى باتت هي أيضاً طرفاً وشريكاً ميدانياً في القتال. فما يجري في العراق هذه الأيام، خصوصاً في الأنبار فضلاً عن التفجيرات والسيارات المتنقلة والعمليات الانتحارية في بغداد والمدن الأخرى، جبهةً في الحرب السورية، وكذلك محوراً في المواجهة الإقليمية الأوسع بين إيران وخصومها القريبين والبعيدين.
 
هكذا تكتمل الصورة في بلاد الشام. لم تعد جريمة اغتيال محمد شطح حدثاً معزولاً. «تيار المستقبل» نفسه وضعها في سياق المسلسل الدموي الذي يفتك بسورية ولبنان. وما لم يقله هذا التيار أن هذا المسلسل يفتك بالعراق أيضاً. فالحرب التي تقودها حكومة نوري المالكي في الأنبار تخوضها تحت عنوان محاربة «الدولة الاسلامية في العراق والشام». وهو شعار النظام في دمشق ومن يناصره من قوى لبنانية وعراقية وإيرانية تقول إنها تواجه جميعها «التكفيريين»، أي جماعات «القاعدة» ومشتقاتها، ومن يقف خلفها في مشروع كبير لكسر «حلف الممانعة والمقاومة»! لكن هذا الشعار سيظل قاصراً عن تغطية حقيقة أن ما يجري هو انخراط الجميع في حرب أهلية مذهبية. والأخطر من ذلك أن مكونات هذه البلدان المشرقية باتت عاجزة عن التفاهم على تسويات تجدد صيغ التعايش أو توفر مستلزمات التغيير المطلوب. ولأن هذه المكونات توكأت وتتوكأ على الخارج في استدرار الدعم، فإنها رهنت قرارها لهذا الخارج المنخرط أصلاً في مواجهة أوسع إقليمياً ودولياً.
 
لأشهر خلت كان كثيرون يروجون لفكرة الحرب الواسعة التي لا مفر منها لإعادة ترتيب أوضاع الشرق الأوسط، بما يتيح للدول الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة وروسيا، رسم نظام إقليمي جديد يعيد رسم خريطة مصالحها وعلاقاتها. كانت إسرائيل تهدد إيران. ولم تكن هذه تفوت فرصة لعرض عضلاتها وصواريخها وبوارجها لتهديد الدولة العبرية وجيرانها في المقلب الثاني من الخليج. ولكن بدا واضحاً بعد القرار 1701 الذي أوقف حرب تموز 2006 ، ثم بعد العدوان على غزة نهاية العام 2008 أن صفحة طويت. لم تعد الحرب طريقاً للحلول والتسويات، فضلاً عن أكلافها الباهظة، سواء لإسرائيل أو لإيران أو للولايات المتحدة وغيرها.
 
وترسخ هذا الخيار بعد هبوب العاصفة التي انطلقت من تونس ولا تزال تداعياتها تتفاعل من شمال أفريقيا إلى المشرق العربي. أسقطت العاصفة كل الاستراتيجيات والسياسات والحسابات وشبكة العلاقات السائدة. وهكذا مثلاً شكلت الحرب في سورية حيث نجح المتشددون في تحويلها صراعاً أهلياً مذهبياً، بديلاً ممتازاً للتوصل إلى النتائج التي كان يمكن توافرها بفضل حرب واسعة في المنطقة. بات الجو مريحاً والظروف مواتية للاعبين الكبار، خصوصاً واشنطن وموسكو، من أجل توجيه المتصارعين نحو خيوط التسوية المطلوبة. لئلا نقول فرض هذه التسوية. ألا يساعد العاصمتين عجزُ كل من النظام والمعارضة عن الحسم بقواه الذاتية؟ بات مصير الحكم في دمشق رهناً بالموقف الروسي، مثلما بات مصير «الائتلاف الوطني» رهناً بقرار «أصدقائه» العاجزين أمام سياسة إدارة الرئيس أوباما وتوجهاتها وتفاهماتها مع الكرملين.
 
وما يساعد واشنطن وموسكو أيضاً أن القوى الكبرى في الإقليم، الراعية للمتصارعين في سورية ولبنان والعراق وغيرها، لم تعد تملك ما يمكنها من فرض «مشروعها» أو سياساتها. يكفي النظر إلى ما يحدث في مصر، الدولة العربية الكبرى التي تتخبط في أزمة داخلية تزداد تعقيداً. ويكفي النظر إلى مجلس التعاون الذي تتوزع دولَه سياسات وحسابات ومواقفُ مختلفة. ناهيك عن إيران التي نقلها «اتفاقها النووي» الأخير في جنيف مع الدول الكبرى، إلى مرحلة جديدة من الصراع الداخلي المحموم بين الحمائم والصقور. فيما ينوء اقتصادها تحت وطأة حصار يهدد بانهيار واسع لا طاقة لنظام الجمهورية في تحمل تداعياته. ولا حاجة إلى الحديث عما يواجه تركيا حيث تشارف حكومة رجب طيب أردوغان على السقوط بعدما سقط مشروعها «صفر مشاكل». وهي تغرق هذه الأيام في سيل من المشاكل الداخلية مع خصومها المحليين. وتسعى جاهدة لإعادة تطبيع علاقاتها بالجيران.
 
اغتيال مستشار الحريري والمواجهة في الرمادي العراقية وما يجري في مدن سورية ودساكرها صورٌ مختلفة لصراع واحد هو جزء من صورة إقليمية أكثر شمولاً. المنطقة كلها تقيم على جبهات نار مفتوحة. والبعيدون عن أتونها المباشر يتقلب بعضهم فوق صفيح حار، من تونس إلى ليبيا ومصر. وتسكن بعضهم الآخر مخاوف وهواجس من الأيام الآتية. إنها الفوضى من شمال أفريقيا إلى أفغانستان! أليس الوضع بديلاً مثالياً من الحرب الشاملة؟ أليس كافياً ليطلق أيدي اللاعبين الكبار في رسم الخطوط التي يريدون لنظام الشرق الأوسط؟ خريطة جديدة بالتأكيد ستخرج من هذه الفوضى. تماماً كما لو أن الحرب وقعت وانتهت إلى تغييرات جذرية في موازين القوى والعلاقات والمصالح. لكن الأمر الخطر هنا التغيير قد يشمل الخرائط والحدود. فهل بقي مكان للعقل والحوار وقبول الآخر وسط بحر الدماء والاغتيالات وفنون القتل والأحقاد وصيحات الثار؟ هل بقي مكان لتجديد العقود الاجتماعية بين مكونات الشرق المتعددة العرق والطائفة والمذهب، أم تصح نبؤة المنذرين بولادة «سايكس - بيكو» جديد يعيد تقسيم المنطقة و... تقاسمها، على غرار ما حصل مطلع القرن العشرين على أنقاض السلطنة العثمانية؟
 
لا شك في أن المنخرطين في هذا الصراع المفتوح من بيروت إلى دمشق وبغداد سيزدادون شراسة كلما اقترب موعد الجلسات في لاهاي. وكلما بدأ العد العكسي لمؤتمر «جنيف 2». ومثلهم حلفاؤهم الإقليميون. بهذا المعنى لم يعد هذا المؤتمر مخصصاً لسورية وحدها. بات يعني بلدانهم هم أيضاً بقدر ما يعنيها. ألن يدعى إلى حضوره حشد من دول الجوار «المعنية»؟ بعد هذا لا يهم كيف يصنف اغتيال محمد شطح. فالذين سبقوه ذهبوا ضحية الصراع المحتدم في المنطقة من سنوات بين «مشروعين»، مشروع إيران ومشروع أميركا وإسرائيل. ألم تغرق دوائر الإعلام طوال سنوات بالحديث عن الصدام بين هذين المشروعين؟ ولا شك في أن المحكمة الدولية ستشكل سلاحاً ضاغطاً على الأطراف المتهمين الذين لا يزالون يحاولون تعديل موازين القوى وتعزيز مواقعهم، كما هو حاصل في ساحات القتال السورية والعراقية. لذلك لا يهم أيضاً كيف يصنف العراقيون الحرب الدائرة في الأنبار، أكانت لقتال «القاعدة» أو السنة. الجميع يستعدون لجنيف لينطلق بهم القطار على وقع الحديد والنار... ومحطات دموية كثيرة تنتظرهم قبل الوصول إلى وجهاتهم المرجوة. المهم أن ينتظموا في سياق التفاهم الدولي بين الكبار ليتسنى لهؤلاء حسن إدارة خلافاتهم وضبط قواعد اللعبة، وتوجيه الصراع حتى تنضج الصفقة الكبرى التي تضمن حماية مشاريعهم ومصالحهم.
 
----------------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الإثنين، 30/12/2013.

رابط دائم: