سر الخلاف الأمريكي – "الإسرائيلي"
4-12-2013

علي جرادات
*
لا يحتاج المرء إلى أن يكون وطنياً فلسطينياً أصيلاً أو قومياً عربياً منسجماً، بل يكفيه أن يكون إنساناً تحررياً متسقاً، كي يستخلص بموضوعية متناهية أنه طالما ظل النظام الصهيوني التوسعي العدواني هو حاكم إدارة "إسرائيل" ومحرك سياسة حكوماتها، فإن "إسرائيل" هذه لن تجنح طوعاً للسلم الحقيقي يوماً، ولن تكف عن شن الحروب بمفردها حيث تستطيع بتشجيع وتحريض رعاتها الغربيين شنها حيث لا تقوى أو تخشى الهزيمة والثمن الباهظ . هنا استخلاص ليس ثمرة تفكير "لا سامي"، بل يجيزه- واقعياً ومنطقياً- أن "إسرائيل" قامت وتوسعت وامتلكت عوامل قوتها كافة، بما فيها ترسانتها النووية الهائلة، ضد إرادة ومصالح واستقرار وأمن وتنمية شعوب ودول المنطقة، وضد السياق الفعلي لحقائق التاريخ والثقافة والجغرافيا والديمغرافيا فيها، وكانت ولا تزال تؤدي لتقديم وظيفة استعمارية غربية دائمة ومفتوحة، ولعبت ولا تزال دور الشريك الاستعماري الحارس والمحروس معاً . الحارس حيث يكون بوسعها بقدراتها الذاتية وبتغطية سياسية ومالية وعسكرية غربية، شن الحروب والاعتداءات . والمحروس حيث يكون التحدي المطلوب مواجهته أكبر وأكثر شمولاً وتعقيداً عسكرياً وسياسياً من طاقتها بالمعنى الشامل للكلمة . وفي الحالة الأخيرة هذه تنكشف "إسرائيل" عارية، مجرد تابع لرعاتها، بل وتنتابها من الرأس حتى أخمص القدم حالة من الهلع الجنوني والخوف الهستيري عندما لا تتطابق حسابات مصلحتها الخاصة في شأن حرب تشجع عليها مع حسابات المصالح العليا والشاملة لرعاتها، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .
 
التقديم أعلاه ضروري لسبر غور وتبيان حدود الاختلاف المؤقت، إنما النوعي العلني والصاخب أيضاً، بين "إسرائيل" بقيادة نتنياهو والولايات المتحدة بقيادة أوباما، تجاه الاتفاق التمهيدي الاختباري بين الدول الست الكبرى وإيران حول برنامج الأخيرة النووي . لم تستوعب "إسرائيل" صهيونية النظام والمرجعية توقيع إدارة أوباما لهذا الاتفاق الذي لم يكن ليكون من دون موافقة حليفها الإستراتيجي الثابت، الولايات المتحدة، خاصة أن الأخيرة و"إسرائيل" قادتا ضد إيران سوياً، وعلى مدار السنوات العشر الماضية، وبدعوى أن للنووي الإيراني شقاً عسكرياً، حملة دولية ممنهجة من الضغط السياسي والتخريب الأمني والعقوبات الاقتصادية والتهديدات العسكرية . لم يشفع لإدارة أوباما عند قادة "إسرائيل" أن الاتفاق تمهيدي واختباري، إذ ما انفكوا يحرضون عليه، ويعملون ما استطاعوا على عرقلة سبيل تحويله إلى اتفاق نهائي من شأنه أن يزيح عن المنطقة شبح حرب مدمرة لا تبقي ولا تذر . بل وقادهم خوفهم الهستيري إلى درجة تشبيه هذا الاتفاق باتفاق ميونيخ بين الدول الغربية وهتلر قبل عام من نشوب الحرب العالمية الثانية . كل ذلك رغم ما حازه "اتفاق إيران النووي" من تأييد دولي وإقليمي واسع، واهتمام سياسي كبير متعدد الجهات والمشارب والأغراض . أما لماذا؟
 
ببساطة لأن قادة "إسرائيل" يدركون- قبل وأكثر من غيرهم- المغزى السياسي لهذا الاتفاق بوصفه أول اتفاق مع إيران تقوده وتوقعه الولايات المتحدة بعد 34 عاماً من العداء الثابت للنظام الإيراني الذي حل محل نظام الشاه الذي ظل حتى إطاحته حليف الولايات المتحدة و"إسرائيل" الإستراتيجي الأهم في المنطقة . فقادة "إسرائيل" يدركون أن المهم في هذا الاتفاق إنما يكمن في مبدأ توقيعه وليس في بعض حمال الأوجه من بنوده ومصاعب تحويله إلى اتفاق نهائي . إذ ثمة دلالات سياسية كبيرة لاستدارة الولايات المتحدة نحو قبول التعامل السياسي مع النظام الإيراني الذي طالما عملت سوياً مع "إسرائيل" في السر والعلن على تغييره وزعزعة أركانه ومنعه من امتلاك مقومات المنعة كافة وليس القدرة على انتاج الطاقة النووية فقط . هنا يثور السؤال المفتاحي: ما هي أسباب استدارة الولايات المتحدة نحو التعامل السياسي مع النظام الإيراني بعد عقود من الحصار الاقتصادي والتهديد العسكري والنبذ السياسي؟
 
يعزو البعض هذه الاستدارة إلى أن الولايات المتحدة قررت تبني إستراتيجية جديدة تهتم بالشرق الأقصى أكثر من اهتمامها بالشرق الأوسط، بحسبان أن العملاق الاقتصادي الصيني هو المنافس الأقوى للولايات المتحدة ونفوذها في العالم، وأن الاكتشافات الجديدة للنفط والغاز في الولايات المتحدة تتيح فرصة تخفيض الاعتماد الأمريكي على مخزون النفط والغاز في الشرق الأوسط . لكن هذا التفسير على ما فيه من وجاهة نسبية يتجاهل أن ثمة ترابطاً بين النفوذ الأمريكي في الشرقين الأقصى والأوسط، وأن الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط لا يقتصر على مصادر الطاقة فيه، فقط، بل يشمل تفوق حليفتها الإستراتيجية الثابتة، "إسرائيل"، أيضاً، وأن تقوية النفوذ الأمريكي في الشرق الأقصى دونه تحديات كبيرة تفاقمها صراعات لا تقل حدة عن نظيراتها في الشرق الأوسط . فهناك صراع الكوريتين، وهناك الصراع الحدودي الصيني - الياباني، وهناك الصراع الهندي - الباكستاني، وهناك الصراع متعدد الأطراف على آسيا الوسطى، درب الإمبراطوريات القديم الجديد، وهناك الكثير من عناوين الصراع القومي والديني والطائفي . . إلخ .
 
لذلك يصبح من المنطقي القول: إن اختزال استدارات الولايات المتحدة السياسية تجاه الشرق الأوسط في سبب انتقال مركز اهتمامها من إقليم إلى إقليم آخر، إنما يقود سيان، بوعي أو بجهالة، إلى إضاعة طاسة الأسباب الفعلية والدوافع الحقيقية لهذه الاستدارات التي تعكس- بلا ريب أو شك- تحولاً سياسياً اضطرارياً لتفادي الدخول في حرب شرق أوسطية جديدة تشجعها وتطلبها "إسرائيل"، بينما صار يقيناً أن الشعب الأمريكي وإدارة أوباما لا يريدانها، ليس فقط لأنه لا يمكن ضمان نتائجها والتحكم بتداعياتها ونطاقها وكلفتها، إنما أيضاً، وأساساً، لأن الولايات المتحدة تواجه تحولات دولية وإقليمية واقعية كبرى قادت إلى تراجع عالم القطب الواحد لمصلحة عالم متعدد الأقطاب، عدا ما تواجهه من ازمة اقتصادية بنيوية ساهم في تسريع انفجارها وتفاقمها الفشل المتتابع لحروبها وسياستها الخارجية، والشرق أوسطية، خصوصاً . وقد كشف أوباما -في معرض دفاعه عن الاتفاق- السر كله حيث قال: "لا يجوز إغلاق الباب على خيار الحل الدبلوماسي . فاللجوء إلى استخدام القوة العسكرية سهل، لكنه لا يضمن أمن الولايات المتحدة" . علماً أن توضيح أوباما إن هو إلا اعتراف ملطف بأن الولايات المتحدة ليست في واقع دولة عظمى مسيطرة تختار نقل تركيزها من إقليم إلى إقليم آخر، إنما في واقع دولة عظمى متراجعة تنتقل من حالة قطب انفرد لعقدين بالسيطرة على العالم إلى حالة قطب بين أقطاب أعادت التوازن إلى النظام الدولي ومؤسساته وقراراته . هنا بالضبط يكمن سر أزمة دعاة الحرب الدائمين، قادة "إسرائيل" الصهيونية، ومنبع خوفهم الهستيري من استدارات إدارة أوباما السياسية الاضطرارية لتبريد ملفات دولية وإقليمية ساخنة، منها الملف النووي الإيراني .
 
--------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأربعاء، 4/12/2013
 

رابط دائم: