«الإخواليجي» والرئيس المنتخب ديمقراطيا
13-8-2013

مأمون فندي
*

الأميركان يكتبون بلغتهم كثيرا من الكلام الفارغ، الذي لو ترجم إلى اللغة العربية في الحديث عن مصر بدا مثل كلام الأطفال؛ من حيث السذاجة وقلة المعرفة، ولا أعيب عليهم كثيرا في هذا. أما العرب، فهم قصة أخرى تحتاج إلى حديث جاد. لفت نظري عدد من الكتاب العرب الذين يكتبون عن مصر بطريقة «سداح مداح». تخصصت، من حيث التدريب، بمنطقة الخليج العربي، والمملكة العربية السعودية بشكل خاص, ومع ذلك أتردد كثيرا، في وجود سعوديين أكاديميين، في أن أسجل رأيا، وأفضل السماع والاستمتاع؛ فأهل مكة أدرى بشعابها - كما يقولون، أو بتعبير أكثر دقة هم أكثر دراية مني في كثير من الأحوال. لكن بعض الإخوة في منطقة الخليج لا يترددون للحظة في الخوض في الشأن المصري من دون وجل من نقص في المعرفة. أفكار غير ناضجة تتزاحم حول تاريخ مصر الطويل لتفسير ما حدث يوم عزل الرئيس المصري محمد مرسي، وتبنى بعض الإخوة في الخليج، وخصوصا «الإخوان» منهم، أو من سميتهم في مقام آخر «الإخواليجي»؛ أي: الإخواني الخليجي، من الذين يعلقون على الشأن المصري، وآخرهم الصحافية اليمنية توكل كرمان أو «إخوان الدولاب» (closet ikhwan)، تبنى هؤلاء وجهة النظر الأميركية القائلة بأن ما حدث في مصر انقلاب على «شرعية الرئيس المنتخب ديمقراطيا»، ولنتوقف قليلا قبل الإسهاب عند الكلمات الأربع «شرعية رئيس منتخب ديمقراطيا».

أولا: الشرعية في الحالة المصرية هي قصة كاملة لا يمكن تجزئتها لكسب نقاط؛ فهي تبدأ من 25 يناير وليس من يوم الصندوق. وقد كتبت في هذه الصحيفة في نقد الحالة المصرية الكثير، ولكنه نقد العارف بشعاب مكة يوم كتبت عن القفص والصندوق كرمزيات.. فلا قفص مبارك كان يرمز إلى العدالة، ولا صندوق مرسي كان رمزا للديمقراطية، المهم هنا هو أننا عندما نتحدث عن الشرعية، فثمة خلط عند البعض بين الشرعية كترجمة لما هو قانوني في كلمة (legitimacy)، وقد ناقش الزميل مايكل هادسون، الأستاذ السابق بجامعة جورج تاون، في كتاب قديم نقاشا مستفيضا موضوع الشرعية في الفضاء السياسي العربي، وخلط سؤال الشرعية بالشريعة؛ وهما مفهومان بعيدان عن بعضهما كل البعد، ولكل منهما دلالات معرفية قادمة من عوالم الإيمان والعرفان وفي سياقات ثقافية مختلفة. الحديث يطول لو فتحنا كوة النقاش الأكاديمي هنا، لكن النقطة ببساطة هي أن القانونية (legitimacy) ليست الشرعية بدلالاتها المحلية. قصة الثورة في مصر وشرعية «الإخوان» من عدمها، لا تبدأ بالصندوق والطوابير والزيت والسكر والرشى الانتخابية، ولكنها تبدأ في الخامس والعشرين من يناير، حيث لم يكن هناك إخوان في الثورة باعتراف «الإخوان» أنفسهم (راجع تصريحات العريان لماذا لم ينضم «الإخوان» إلى الثورة)،

القانونية الانتخابية بمعناها الديمقراطي الحديث، هو أن ينتخب الإنسان ما يريد ومن يريد في جو يكون فيه الفرد حرا، بمعنى متطرف أن تقف علياء المهدي التي وضعت صورها عارية على الإنترنت في طابور الانتخاب في دائرتها الانتخابية لتدلي بصوتها من دون أن يكفرها أو يقصيها أو يقتلها أحد بدعوى الخلط بين الشريعة والشرعية. فأساس الديمقراطية هو الفرد الحر لا العشيرة ولا القبيلة. فرد حر هو أول المصفوفة الحسابية للديمقراطية، فهل الناخب الذي صوت لمحمد مرسي كان فردا حرا؟ هذه واحدة.

يقول أنصار مرسي من إخوان الخليج، إن مرسي تم انتخابه ولا يجب عزله من قبل الجيش كما عزل الجيش حسني مبارك الذي كان منتخبا أيضا. وقد كتبت أيضا هنا ومن ميدان التحرير عن عزل حسني مبارك مقال بالعنوان ذاته. لكن «الإخوان» وأنصارهم يقولون بأن انتخاب مرسي لم يكن مزورا كانتخابات مبارك، وكأن العام الذي مر بين عزل مبارك وانتخاب مرسي كان كفيلا بأن يغير المجتمع المصري إلى مجتمع سويسري. لقد تم انتخاب مرسي يا سادة بنفس صناديق مبارك، ونفس وزارة داخلية مبارك التي أشرفت على الانتخاب، ونفس المحافظين القادمين من عالم أمن الدولة، ونفس القضاة الذين أشرفوا على الانتخابات من المستشار حاتم بجاتو المشرف على الانتخابات، إلى المحافظين أنفسهم من أمثال ضابط أمن الدولة وهو محافظ لأحدى المحافظات التي أدليت بصوتي فيها، فهو الضابط ذاته الذي زور الانتخابات لمبارك في قنا عام 2005. وهو ذاته محافظ للمحافظة نفسها أيام مرسي، وزور بذات الطريقة، بل زاد التزوير في عهد مرسي ليصبح تزويرا من المنبع في قضية «المطابع الأميرية»؛ أي مطبعة الدولة التي تطبع ورقة التصويت، وتحمل اسم «الأميرية» نسبة إلى أمراء العصر الملكي، لأنهم هم من أنشأوها ولم يغير جمال عبد الناصر الاسم. المهم أن كثيرا من الأوراق الانتخابية خرجت من المطابع مسودة لصالح مرسي، وكانت هناك أدلة على ذلك، حيث استبعدت لجنة الانتخابات بعض هذه الأوراق رغم أنها لم تستبعدها كلها. وفي هذه الحالة، ليس مهما كم من الأوراق قد تم استبعادها، لأن ثبوت الظاهرة والدليل كاف لبطلان الانتخابات كلها.

النقطة الأساسية هنا؛ هي أن المصريين يتعلمون الديمقراطية ويتخلون تدريجيا عن أدوات التزوير ورجال التزوير وجو التزوير، ولكن ذلك لم يتغير جذريا في عام واحد ما بين انتخابات زورت بفجاجة في انتخابات مجلس الشعب التي أجريت عام 2010 وقادت إلى الثورة وانتخاب مرسي. مصر لم تصبح سويسرا في عام واحد.. والخلط بين الشريعة والشرعية والتزوير باسم الوطنية في عهد مبارك والتزوير باسم الدين في عهد مرسي. ببساطة، الشرعية والديمقراطية ليست صندوقا. مرسي منتخب، ولكن ليس ديمقراطيا كما يدعي البعض.

الديمقراطية تحدث في سياق سياسي، تكون الحرية الفردية هي الأساس فيه. ولم يكن الجو في مصر أيام انتخاب مرسي حرا، ولم يكن الفرد هو الأساس فيه.. فعالم مرسي ليس عالم الفرد، بل هو عالم الجماعة، جماعة الإخوان و«الجماعة الإسلامية» والجماعة السلفية إلخ..لا أفراد هناك. سواد من البشر يمحو الحرية الفردية باسم الدين في عهد مرسي وباسم وطنية زائفة في عهد مبارك. إذن، لم يكن مرسي رئيسا منتخبا ديمقراطيا.

لا مجال هنا أن أتحدث عن جماعة الإخوان كجماعة عابرة للحدود، لا تؤمن بالدولة الوطنية حسب نظام ما بعد معاهدة وستفاليا. وبالطبع، لا يمكن الحديث عن انتخابات ديمقراطية خارج صندوق مغلق آخر، وهنا لا أعني صندوق الانتخابات، بل أعني صندوق الدولة الوطنية المغلقة وذات السيادة الملتزمة بقوانين محددة. فإذا انتفى الإيمان بالدولة الوطنية بمعناها الحديث انتفت معه فكرة الديمقراطية. وبصراحة مطلقة، لا ديمقراطية في أي سياق يختلط فيه الديني بالدنيوي. الديمقراطية تحدث فقط في سياق مفصول فيه بين الدين والدولة، ومتى تم الخلط فأي حديث عن ديمقراطية فهو عبث. إذن، نحن هنا أمام مرسي منتخب، ولكن ليست الانتخابات ديمقراطية ولا الرئيس ديمقراطي، وأتحدى من يجد أي علاقة بين جماعة الإخوان والديمقراطية قولا أو فعلا. فلا داعي للعبث اللفظي هنا.

لدينا في مصر مشاكل كثيرة للتحول إلى دولة مبنية على شرعية القوانين وعلى اتفاق وطني، ولكن ليس من بين مشاكلنا ما يتطرق إليه إخوان الخليج وكتابه، فهي رؤية من الخارج تنقصها التفاصيل المحلية ورائحة المكان ورائحة البشر. مرسي كان رئيسا انتخب بما يشبه السلوك الغربي من حيث وجود صندوق وطابور من البشر يضعون أوراقا في الصندوق، ولكن لم يكن رئيسا منتخبا ديمقراطيا كما انتخب أوباما في أميركا أو كاميرون في بريطانيا. وكما أن في مصر لدينا رصيفا يشبه الرصيف ولا يؤدي وظائفه، ولدينا تاكسي به عداد، ولكنه لا يعمل ولا يحاسبك السائق طبقا للعداد كما يحاسبك في لندن وبرلين وجنيف وواشنطن، فكيف لك أن تتصور أن انتخاب مرسي كانتخابات أوباما وأنت تعرف أن العداد لا يعمل؟ إنه وهم الصندوق والسذاجة في الحكم على الظواهر، ولدينا في مصر ما يكفينا ممن يغالطون بمنطق ساذج ولا نحتاج إلى مغالطات أكثر سذاجة من الخارج فقط، لأن أصحابها يجيدون كتابة موضوع تعبير. نقول لهؤلاء المتطوعين بمغالطاتهم: سعيكم مشكور، ولا أراكم الله مكروها في عزيز لديكم.

------------------
* نقلا عن الشرق الوسط  اللندنية، الإثنين 12/8/2013.


رابط دائم: