تفجير الداخل:|تغيرات "المعادلة اللبنانية" بعد تورط حزب الله في سوريا
21-7-2013


*

27 - 6- 2013

كثيرا ما كان لبنان بمثابة الفناء الخلفي للنفوذ السوري على مدى عقود طويلة، فثمة علاقة وطيدة تربط النفوذ السوري والاستقرار اللبناني، سواء كان ذلك في ظل تنامي النفوذ السوري، الذي ظهر مداه في وجود القوات السورية على الأرض اللبنانية لما يزيد على 25 عاماً، أو في ظل تراجع النفوذ السوري وتقهقره، كما هو الحال الآن.

ولعل سلاح حزب الله هو الذراع المباشرة والآلية التي يتمكن من خلالها حلف "طهران- دمشق" من التأثير في الداخل اللبناني. وعليه، فلم يكن إعلان حزب الله اشتراكه للدفاع عن بشار الأسد ونظامه العلوي في معركة القصير تحركا تقتصر تداعياته خارجياً على المحيط الإقليمي، أو تقتصر على الساحة السورية فقط، بل إن أول ما يتأثر بمثل هذا التحرك هو لبنان كدولة بما له من طبيعة ديموجرافية مركبة.

إنها ليست المرة الأولى التي يتحرك فيها حزب الله اللبناني بمعزل عن الدولة اللبنانية، أو حتى ضد الدولة اللبنانية نفسها مثلما حدث في 2008 ، عندما احتل بيروت عند ملاحقة تابعين له قضائياً، وكأنه دولة داخل الدولة لها قراراتها وشبكة مصالحها المرتبطة بحلف "طهران – دمشق"، والتي تتحرك لتحميها بناء على الانتماء الطائفي والحزبي وليس الوطني، ومتجاوزاً كونه أحد الفواعل السياسية في لبنان، ويتحرك بحسبانه فاعلا إقليميا مستقلا عن الدولة اللبنانية، معتمداً في ذلك على قدرته العسكرية.

اختراق اتفاق بعبدا

إن تدخل حزب الله في الشأن السوري يبدو اختراقاً لإعلان بعبدا 2012 القاضي بحفظ الوحدة اللبنانية، الأمر الذي من شأنه تعزيز الاستقطاب الطائفي في لبنان، وفي المنطقة بأسرها، وتأجيج الصراع السياسي الداخلي في لبنان، وشحن التعصب المذهبي، في ظل انتشار السلاح، ونمو البؤر الأمنية الخارجة على سيطرة الدولة، والعدد الكبير من النازحين السوريّين الموزعين على مختلف الأراضي اللبنانية والمتضررين المباشرين من وحشية نظام الأسد، والذين قد يشكلون قضية إغاثية أمنية أيضاً.

فقد تحدى حزب الله في معركة القصير السياسة الخارجية اللبنانية الرسمية والمعلنة، والتي حاولت منذ بداية الحرب في سوريا أن تنأى بنفسها عن تأييد طرف ضد طرف في هذه الحرب. ويحاول حزب الله بهذا الدور إقحام لبنان في الحرب الدائرة على أرض سوريا، إما لتوسيع جبهات المواجهة المسلحة من خلال جذبها إلى الداخل اللبناني، بحيث يصبح انهيار الأسد تهديدا لأمن واستقرار منطقة إقليمية كاملة، يربطها الخط الشيعي، الممتد من إيران، والعراق، وسوريا، ولبنان، وقد تمتد تداعياتها إلى بعض الدول الخليجية التي تواجه تحديات مع الطائفة الشيعية لديها، بما يسهم في منح مزيد من الوقت للنظام السوري في مواجهة معارضيه دولياً وعربياً، وإما بهدف اقتناص حزب الله لمكاسب سياسية داخلية في لبنان، والضغط على أطراف العملية السياسية من خلال التلويح بقوة ذراعه العسكرية.

وفي الحالتين، فإننا أمام حقيقة هي أن دور حزب الله قد تجاوز حدود دور الدولة اللبنانية ذاتها بما يهددها، وهو الدور نفسه الذي لعبه حزب الله في فترة سابقة، وأدى به لمواجهة قرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي أطاح بنشاط الحزب إلى شمال نهر الليطاني. إلا أن مع كل تحرك لحزب الله منفرداً خارج الحدود اللبنانية، يلوح شبح الطائفية والحرب الأهلية على البلاد، وتزداد المخاوف من احتمالات تصاعد وتيرة الطائفية، بما قد يؤجج التوترات المذهبية في لبنان في مناطق يعيش فيها السنة والشيعة جنباً إلى جنب، الأمر الذي يدفع الأطراف السياسية في لبنان إلى مواجهة هذا التحرك.

وقد حاول السيد نصر الله – أمين عام حزب الله- تقديم تدخل حزب الله، بحسبانه دفاعاً عن النظام السوري، آخر جبهات المقاومة ضد إسرائيل والقوة الغربية الداعمة لها. ورغم تأكيده- في خطابه في يوم الجريح المقاوم- الهوية اللبنانية لحزب الله، وأنه مكون اقتصادي، وسياسي، وإعلامي رئيسي في لبنان، وأنه لا نية للانجراف نحو إشعال فتنة في لبنان، وذلك لتفادي تدهور الوضع اللبناني القابل للاشتعال، فإن رد فعل القيادات اللبنانية في الداخل جاء مناهضاً لهذا الطرح، ومؤكدا على الجانب المصلحي الضيق فيه، والطابع المذهبي له.

وقد اتخذ  تدخل حزب الله منذ البداية الشكل الطائفي الشيعي، بإعلانه في البداية التدخل في سوريا وفي دمشق، بغرض حماية أحد أهم المزارات الشيعية في سوريا، وهو قبر السيدة زينب. ولم يكن التدخل المباشر في معركة القصير هو الشكل الوحيد لمشاركة حزب الله، بل إنه قام بالاشتراك في تطوير وتدريب قوات نظامية في سوريا وغير نظامية، فضلا عن التدخل العسكري الأخير في القصير، والذي كان له دور كبير في انتزاع المدينة من تحت سيطرة الجيش الحر، وإسقاط المدينة في يد نظام الأسد.

مؤشرات التورط اللبناني

ولم يكن هذا التدخل والتصريح المعلن لضلوع حزب الله في صراع سوريا هو أول مؤشرات الدفع بلبنان في الصراع الدائر في سوريا، فقد سبق أن شنت المعارضة السورية هجمات بالصواريخ على لبنان، رداً على ضربات وجهها حزب الله عبر الحدود اللبنانية، كما سبق أن تطوع عدد من السنة اللبنانيين لمناصرة المعارضة السورية ضد بشار، الأمر الذي أثار توترات بين سنة وشيعة في لبنان.

فلقد لقد بات جليا، في ضوء معركة القصير، أن تحرك حزب الله ليس قراره المنفرد، بل هو قرار إيراني يخدم المصلحة العلوية في سوريا. وعليه، فإن الضغط على حزب الله لوقف نشاطه الملعن والخفي على الساحة السورية هو أمر غير مجد، لأنه ليس المتصرف الحقيقي، الأمر الذي يفسر إصرار نصر الله في خطاباته على تأكيد استمرار اشتراكه بالقتال في سوريا، والتبرير له.

وقد تحمل حزب الله تكلفة ليست بسيطة على الساحة اللبنانية، جراء اشتراكه في الاقتتال السوري، فلعل أبرز تداعيات تدخل حزب الله هو الطعن في مصداقية خطابه المرتكز على مقاومة إسرائيل والكيان الصهيوني، بعد أن اتضح جليا البعد المذهبي الطائفي المسيطر على خطاب حزب الله، وإعلاء المصالح الإيرانية على حساب المصلحة الوطنية اللبنانية. يثير ذلك تساؤلات حول كينونة الدولة اللبنانية، وقدرتها على التماسك في مواجهة تحركات حزب الله المنفردة والمتحدية لفكرة الدولة المركزية، وشرعيتها، والمرسخة لفكر الطائفي التقسيمي، فضلاً عن استعداء المحيط العربي السني ضده، والذي ظهر واضحاً في قرار مجلس التعاون لدول الخليج العربية بشأن اتخاذ إجراءات ضد أية مصالح لحزب الله في منطقة الخليج العربي، بسبب تدخله في سوريا، ووقوفه إلى جانب الحكومة السورية"، فضلاً عن مطالبة الحكومة اللبنانية، والضغط عليها للقيام بدورها وتحمل مسئولياتها في مواجهة النفوذ الإيراني، المتمثل في تحركات حزب الله اللبناني.

بل إن ثمة رأيا يرى تحرك حزب الله على الساحة السورية عملية انتحارية غير مأمونة العواقب، حيث إنه يرهن نفسه بقدرة النظام السوري على البقاء، وقدرة إيران على مواجهة معارضيه في الخارج، وأنه بهذا التحرك قد خسر كثيراً على الساحة اللبنانية، وشكك في كونه أحد مكونات الدولة اللبنانية، وأثبت استقلالية أجندته التي قد تتعارض والأجندة اللبنانية الوطنية.

من هذا المنطلق، جاء رد فعل قوى 14 آذار التي دعت في مذكرة رفعتها إلى الرئيس اللبناني، العماد ميشيل سليمان، والتي تتضمن نقاطا أساسية، هي  سحب مقاتلي حزب الله من القتال الجاري على الساحة السورية، والدعوة لنشر الجيش اللبناني على الحدود اللبنانية- السورية بمساندة من القوات الأممية، والشروع في فتح ملف تسليح حزب الله، على أساس أن تدخل الحزب في سوريا انتهاك واضح للدستور، والقانون، والمواثيق الدولية يمهد الطريق أمام استباحة لبنان، وخلخلة قدرته كدولة على ممارسة سلطاته، بالإضافة إلى التهديد العسكري الذي يذهب ضحيته المدنيون اللبنانيون، وتدفع تكلفته الحقيقية البنية الأساسية اللبنانية، الموقف الذي يأتي متناغماً مع الموقف القوى الغربية تجاه حزب الله وسلاحه.

الأزمات الداخلية اللبنانية

ولا يمكن قراءة تحرك حزب الله بمعزل عن اشتعال أزمتين مؤسستين في لبنان، هما:

- تشكيل الحكومة التي يرى قطاع كبير من قوى 14 آذار أن حزب الله سيستغل تدخله في سوريا لفرض شروطه في تشكيلها بدلاً من تقديم تنازلات، في وقت تفرض فيه المصلحة اللبنانية تشكيل حكومة مصالحة وطنية كخطوة للوصول لحكومة وحدة وطنية، في خطوة أولى تعيد الثقة في الوحدة اللبنانية، قادرة على أن تنأي بلبنان، وتحافظ على حياده، وتؤكد ماجاء في إعلان بعبدا.

  - أزمة بت المجلس الدستوري في الطعنين المقدمين من كل من رئيس الجمهورية، وتكتل التغيير والإصلاح برئاسة العماد ميشيل عون، فى القانون الذي مدد بموجبه البرلمان لنفسه سنة وخمسة أشهر، بما يؤجل موعد عقد الانتخابات النيابية في لبنان، وما يعكسه هذا الطعن من تناقض واضح بين كل من رئيس الجمهورية، ورئيس المجلس النيابي نبيه بري، ومن خلاله حزب الله، بما يعكس تجاوز الطعن في التمديد للبرلمان إلى أمور سياسية أخرى، على خلفية الدخول في تصفية الحسابات بين رئيس الجمهورية وقوى في 8 آذار، بعد مواقف الأول من القتال الدائر في سوريا، ومحاولات حزب الله إجهاض الطعن، من خلال ولاء بعض القضاة بتغيبهم، بما يعرقل عقد جلسة المجلس الدستوري، فضلاً عن الشكوى التي كان من المتوقع أن يرفعها الرئيس اللبناني لمجلس الأمن وللجامعة العربية ضد سوريا بشأن اختراق السيادة اللبنانية، الأمر الذي من شأنه التضييق على حزب الله، ويتهمه بشكل غير مباشر كأحد أطراف هذا الاختراق.ومن ناحية أخرى، يضغط على الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني ، بحسبانه المؤسسة الضامنة للسلم الأهلي، والمجسدة للوحدة الوطنية، للقيام بمسئولياتهما لمواجهة الفتنة الأهلية قبل اندلاعها، ولحماية المواطنين والسيادة اللبنانية من أي اعتداءات خارجية.

وتأتي هذه الشكوى في ظل قيام مروحية سورية باختراق الحدود السورية، وإطلاق صواريخ أودت بحياة 4 مواطنين لبنانيين من عائلات شيعية في بلدة عرسال البقاعية، الأمر الذي أثار شبح الاقتتال الداخلي، في ضوء مشاركة حزب الله في سوريا، رغم محاولات جميع الأطراف اللبنانية، بما فيها حزب الله، وحركة أمل، رأب الصدع، والالتزام بمواجهة أي شبهات للفتنة في المنطقة.

إن تحرك حزب الله اللبناني على الساحة السورية قد أثار علامات استفهام كبيرة على مستقبل العملية السياسية، كما أثار عدة قضايا مصيرية بالنسبة للبنان، وهي: مساحات السيادة الفعلية للدولة اللبنانية على أراضيها، وعدم قدرة المؤسسات اللبنانية على تجاوز الاستقطاب الشيعي- السني، وهشاشتها في مواجهة المصالح الضيقة، كما ظهر في أزمة مجلس النواب، والمجلس الدستوري، وقدرة لبنان على مواجهة الأزمات التي تواجهه عبر الحدود، والحفاظ على موقفه تجاهها دون اختراقات خارجية تطيح بقدرته على الحياد، ودور القوى الخارجية في الضغط على الأطراف اللبنانية في الداخل للحفاظ على مصالحها ومصالح القوى الكبرى بالمنطقة، بغض النظر عن استقرار لبنان كدولة، وأمنه كشعب.


رابط دائم: