دور تركيا ومكانتها.. أمام امتحان حاسم
25-6-2012

إياد أبو شقرا
*

«الغيارى يتكلمون دائما عن موتهم في سبيل أوطانهم، لكنهم لا يتكلمون مطلقا عن قتلهم الآخرين من أجل أوطانهم».

(برتراند راسل)

مفخرة حقا لكل عربي أن تستبد العزة بنظام حكم عربي للدفاع عن حدوده بالطريقة التي مارسها النظام السوري بالأمس مع طائرة حربية تركية «سرحت» داخل المجال الجوي السوري.

ملابسات «انتهاك» الطائرة التركية أجواء سوريا ما زالت لتاريخ كتابة هذه السطور قليلة الوضوح. ولا أعتقد أن التهديدات الجوفاء التي وجهتها أنقرة إلى القيادة السورية منذ اختارت الأخيرة النهج التقتيلي لقمع الثورة الشعبية السورية التي فجرها أطفال درعا قبل 15 شهرا، ستوضح الصورة كثيرا.

أتذكر جيدا ما حدث في أواخر عقد التسعينات من القرن الماضي عندما وجهت أنقرة إنذارا حازما إلى الرئيس السوري السابق الراحل حافظ الأسد بشأن دعمه لحزب العمال الكردستاني وتأمينه مرافق تدريبية وتسهيلات تسليحية له داخل سوريا وفي شرق لبنان المحتل سوريا في ذلك الحين. وكما هو معروف، رضخت القيادة السورية يومذاك بسرعة.. وأبعدت الزعيم الكردي عبد الله أوجلان من سوريا ومناطق سيطرتها في لبنان.

كذلك أتذكر تماما ردود الفعل السورية «السلمية» على الغارات الجوية الإسرائيلية على معسكر عين الصاحب قرب دمشق، ومجمع الكبر قرب دير الزور، ناهيك من الاستعراضات الجوية الإسرائيلية فوق المقر الرئاسي في محافظة اللاذقية.. أي المكان نفسه الذي قررت القيادة السورية أنه «محظور» على طائرة تركية جرى إسقاطها، بدلا من إنذارها، بعدما صارت فوق المياه الدولية. وهذا مع العلم أن مسافة الـ13 كلم التي قيل إن الطائرة ربما دخلتها تظل أقصر بكثير من المسافة الفاصلة بين خط الهدنة في الجولان وموقع مجمع الكبر في محافظة دير الزور المتاخمة للعراق.

على أي حال، المسألة أكثر من سوء فهم عابر، وهذا ما تدركه كل من أنقرة ودمشق. فما نحن فيه الآن، واقعيا، حرب ذات أبعاد دولية وإقليمية ومذهبية غاية في الخطورة. وربما كان بإمكان الرئيس الأسد الابن لو لجأ، قبل 15 شهرا، إلى حنكة أبيه ومناوراته في التعامل مع بواكير الثورة الشعبية.. بدلا من أن يختار تطبيق خبرته المهنية في مجال الجراحة. لكنه، كما نشهد، ارتأى أن الجراحة أجدى نفعا حتى لو «نجحت العملية.. ومات المريض!»، كما يقول المثل السائر.

الأسد الابن لم يكتفِ بمحاولة الاستئصال عبر شلالات من الدماء وتدمير المدن والقرى على ما تبقى من ساكنيها، بينما شردت ماكينة القتل، العسكرية و«التشبيحية» المسلطة على الناس، مئات الألوف عبر الحدود، كي لا نشير إلى التهجير الداخلي.

لا، لم يكتفِ بذلك، بل تبنى - إذا كان ما زال حقا صاحب القرار - الإنكار والهروب إلى الأمام، مستعينا بعاملين داخلي وخارجي أطالا مؤقتا عمر نظامه المتهاوي.

العامل الداخلي هو تأثير أكثر من 40 سنة من سلطة الدولة الأمنية، بكل من فيها من زرع للشك والخوف والحقد وتسطيح المعرفة واعتماد الوصولية والانتهازية فلسفة وممارسة وقناعات في الحياة اليومية للمواطن السوري الصابر. واليوم قد ينتقد المنتقدون - ولعلهم على صواب - التناقضات المؤسفة داخل صفوف المعارضة السورية، غير أن المنتقدين يغفلون عن حقيقة جوهرية هي أن معظم هؤلاء المعارضين ولدوا وتربوا في جحيم هذه الثقافة التفتيتية التحريضية، التي تتحكم بها آفات التعصب الطائفي والعرقي والفساد والمحسوبية والاستزلام. وإذا كان الإنسان السوري المغلوب على أمره قد فقد الثقة حتى بأهل بيته الذين من الممكن أن يخرج منهم في أي لحظة «مخبر» أو «شبيح».. فهل يتوقع منه أن يثق بأشخاص لم يسبق له أن عرفهم، بل كل ما في الأمر أن المصيبة جمعتهم.. وتضافرت جهودهم ضد عدوّ مشترك؟

أما العامل الخارجي فيتمثل في الحسابات الدولية إزاء منطقة ذات حساسية استثنائية في العالم، في ظل أمرين: الأول هو نظرة القوى العالمية المتحالفة والمتنافسة إلى صعود «الإسلام السياسي». والثاني محاولة بعض القوى الدولية استغلال ما يظهر من تراجع في وزن «الأحادية الأميركية» التي انفردت واقعيا بزعامة العالم بعد نهاية الحرب الباردة. والواضح اليوم أن هناك عدة نماذج من «الإسلام السياسي»، منها النموذج التركي الأردوغاني - الإربكاني، والنموذج الإيراني الخامنئي - الخميني، ونموذج السلفية الجهادية، والآن النموذج الواقعي التونسي - المغربي الذي قد يشمل اعتبارا من يوم أمس الحالة المصرية بعد انتخاب الدكتور محمد مرسي رئيسا للجمهورية داخل إطار سياسي فضفاض، بصلاحيات مبهمة، وتعايش تحت الاختبار في ظل «توليفة» الدولة الأمنية مع مبدأ فصل السلطات.

حتى الآن قام رهان الرئيس السوري على أن الغرب، ومن ضمنه إسرائيل، لا يمكن أن يتخلى عن نظام مهادن للغرب وإسرائيل – بل متعاون معهما عند المفاصل الاستراتيجية، ولو ادعى الراديكالية والثورية لفظيا – لصالح بديل له يتمتع «الإسلام السياسي» بنفوذ ثقيل فيه. وحقا، سعى النظام في دمشق منذ البداية إلى لصق تهم الأصولية والتكفيرية والإرهاب على الرغم من وجود قيادات لامعة في صفوف المعارضة الشعبية من مختلف طوائف الشعب السوري، كجورج صبرا وعارف دليلة وجبر الشوفي. ثم حاول الابتزاز علنا بنقل نهجه الصدامي خارج حدود سوريا بكل ما لهذا الخيار من تداعيات إقليمية خطيرة، ناهيك من إحراج الأقليات داخل سوريا وتوريطها بمواجهات هي في غنى عنها... ما لم نقُل إنها تهدد مصالحها وربما وجودها.

وفي ما يخص تركيا، بالذات، أضاف النظام إلى اتهامه تركيا بدعم المعارضة السورية بالسلاح، تشديده القمع الدموي في مناطق بعينها يشكل فيها التركمان الأتراك حضورا سكانيا مهمّا، مثل ناحية الحولة (تحديدا بلدات مثل تلدو وسمعليل)، حيث ارتكبت إحدى أفظع مجازر الأشهر الأخيرة، وبلدة زارة قرب تلكلخ بمحافظة حمص، وضاحية الحجر الأسود قرب دمشق، ومدينة أعزاز ومحيطها في محافظة حلب. ثم إن بعض التقارير قد أشارت مؤخرا إلى استهداف القوات السورية طائرات إطفاء تركية عبر الحدود، وتعمدها و«شبيحتها» إطلاق النار على المواطنين الفارين واللاجئين هناك. وهذا كله قبل إسقاط طائرة الفانتوم «إف 4» فوق البحر.

كيف تمارس دمشق «لعبة القط والفأر» مع تركيا اليوم.. وهي التي كانت تحسب ألف حساب لغضب أنقرة؟ ماذا تغير الآن في ميزان القوى بين دمشق وأنقرة عن ميزان 1998 إبان أزمة عبد الله أوجلان؟ هل وراء عرض العضلات السوري المستجد استقواء دمشق بـ«الفيتو» الروسي – الصيني المزدوج... وما يمكن أن يشكله من ردع لأنقرة؟ أم أن دمشق ما زالت مطمئنة إلى الموقف الإسرائيلي ولا سيما في ظل قلق تل أبيب من الصعود المطرد لـ«الإسلام السياسي» في المنطقة؟

هنا لا بد من العودة إلى تهديدات أنقرة المتكررة بأنها «لن تقف مكتوفة الأيدي» إزاء المجازر التي يرتكبها النظام السوري، من دون أي ترجمة على أرض الواقع. إن جعجعة بلا طحن، مثل التهديدات التركية، والاستنكارات والمطالبات الأميركية، أقنعت النظام السوري – على ما يبدو – بأن تركيا عاجزة عن فعل أي شيء، تخوفا من روسيا والصين أولا، ومن إيران ثانيا، ولذا استمر التصعيد الدموي والسياسي... ثم تجرأت دمشق على إسقاط الطائرة التركية.

الكرة الآن في ملعب أنقرة، وخياراتها التي تتناقص بمرور كل يوم.

----------------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الإثنين 25/6/2012.


رابط دائم: