الثورة والديمقراطية
5-6-2012

د. أحمد يوسف أحمد
*

تقوم الثورات لعدة أهداف سياسية من أهمها الديمقراطية، وهو الأمر الذي يعكس حالة من "الانسداد" السياسي لقنوات التغيير على نحو يؤدي في النهاية إلى الانفجار تعبيراً عن اليأس من الإصلاح وجدواه، وفي هذه الحالة يطول أمد بقاء السلطة في مواقعها، وتتحول بالتدريج إلى سلطة مطلقة، ناهيك عن امتزاجها بالثروة ولذلك بدأت موجات الحراك والتغيير في الوطن العربي في آخر 2010 بتلك الدول الأكثر معاناة من الحكم الديكتاتوري. نجح الحراك الشعبي في الإطاحة برؤوس النظم الحاكمة في أربع من الدول، وما زال نظام الحكم السوري يمثل الاستثناء الوحيد، غير أن القوى التي بادرت بالحراك وحافظت عليه حتى حقق أول أهدافه أصبحت مواجهة بتحدي بناء الديمقراطية. وفي الخبرة الماضية كان نهج بناء الديمقراطية يستند إلى القوى الثورية. وإذا أخذنا الحالة المصرية على سبيل المثال فإن الممارسة تشير إلى أن قيادة ثورة يوليو 1952 قد فعلت ذلك، فبدأت بإجراءات كسب تأييد الفلاحين عن طريق إصدار قوانين الإصلاح الزراعي في سبتمبر 1952، قبل مرور شهرين على الثورة، ثم قامت بإلغاء أحزاب ما قبل الثورة في يناير 1953، حتى لا يكون لها دور في بناء مصر الجديدة، ولم ترض عن مشروع الدستور الذي أعدته مجموعة من الأساتذة المتخصصين والخبراء لأن الطابع البرلماني كان غالباً عليه، وشكلت لجنة بديلة أعدت دستوراً يغلب عليه الطابع الرئاسي، وتمت الموافقة عليه في استفتاء في 1956، وعلى تولي جمال عبدالناصر رئاسة الجمهورية وفقاً لهذا الدستور، ولم تجر الانتخابات البرلمانية إلا في عام 1957، أي بعد خمس سنوات كاملة على قيام الثورة، حتى يمكن الاطمئنان إلى "ثورية" المرشحين في هذه الانتخابات، وهكذا اكتملت أركان "ديمقراطية" الثورة بما أسس لنظام شديد المركزية، وهو ما كان واحداً من أسباب هزيمة 1967.

أما ثورة يناير 2011 فقد كانت عكس ثورة يوليو، ثورة شعبية بمعنى الكلمة، وكما أسقط الثوار الرئيس السابق عن طريق "ميدان التحرير" فإن الميدان بدا وكأنه مصدر للشرعية الديمقراطية، فكلما شعروا بأن ثمة تباطؤاً في إجراء من الإجراءات التي يتعين اتخاذها في أعقاب الثورة نزلوا إلى الميدان للضغط من أجل اتخاذه، ذلك لأن افتقادهم إلى تنظيم يوحد بينهم، ويبلور هدفاً مشتركاً لهم جعل نزولهم إلى الميدان يبدو وكأنه الآلية الديمقراطية الوحيدة بيدهم، وهكذا أسرع المجلس العسكري -الذي تولى إدارة المرحلة الانتقالية- باتخاذ بعض القرارات التي طالب بها الثوار، وأصبحت مناسبة التشكيل الوزاري أو التعديل فيه أشبه "بسوق عكاظ سياسية" يتبادل فيها الثوار الرأي حول أشخاص الوزراء، بل ويرشحون رئيساً للوزراء ينجحون في فرضه على المجلس العسكري، ناهيك عن بلورة بعض الرؤى بخصوص المرحلة الانتقالية كانتخاب مجلس رئاسي مدني يتسلم السلطة من المجلس العسكري، ومن الواضح أن "التحرير" كان هو الذي يقوم بانتخابه، ليس بالضرورة بالمعنى الحرفي لمصطلح الانتخاب، ولكن بمعنى اتفاق الثوار على قائمة بأعضاء هذا المجلس.

غير أن ممارسات كهذه لم يكن لها أن تستمر، فمن ناحية سرعان ما انقسم الثوار على أنفسهم فشكلوا عشرات الائتلافات التي عكست أحياناً اختلافاً في التوجهات، وغلفت في أحيان أخرى الرغبة في لعب أدوار فردية تشارك في جني ثمار الثورة، ناهيك عن أن أعدادهم بدأت تتناقص فيما يسمى "مليونيات التحرير" التي وصل بها الحال إلى ألا يشارك فيها سوى مئات قليلة. ومن ناحية ثانية حدث انفصام آخذ في التزايد بين "الطلائع الثورية" وبين جماهير الشعب التي يفترض أن الثورة قامت من أجلها، وكان هذا الانفصام نتيجة طبيعية للتأثيرات الضارة التي ترتبت على "الممارسات الثورية" بالنسبة لإحساس هذه الجماهير بعدم الأمان نتيجة المواجهات شبه المستمرة مع السلطة، بالإضافة إلى أن قطاعات من البسطاء من أبناء الشعب التي يعتمد رزقها اليومي على الاستقرار قد أصيبت بأضرار جسيمة.

ولقد أثر كل ما سبق على عملية بناء المؤسسات التي يفترض أن تنتقل بنظام الحكم من الحالة الديكتاتورية التي كان عليها إلى الحالة الديمقراطية، ولكن عدم "فرز" الأنصار على غرار ما قامت به ثورة يوليو 1952، والتعجل في بناء المؤسسات من قبل الثوار والخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه المجلس العسكري بعدم بداية المرحلة الانتقالية بوضع دستور يتوافق عليه الشعب ترتب عليه أن جاءت تلك العملية -أي بناء المؤسسات الجديدة- غير معبرة عن واقع الثورة، وإنما عما سبقها من أحداث وتطورات، فقد حصلت جماعة "الإخوان المسلمين" على أكبر عدد من المقاعد في مجلسي الشعب والشورى، وبإضافة مقاعدها إلى ما حصل عليه "حزب النور" السلفي تصبح لهما معاً أغلبية الثلثين، ولم يكن كلاهما من المخططين للثورة أو أصحاب دور قيادي فيها، وإنما التحقا بها عندما بدا أن نجاحها ممكن، كما أن جماعة "الإخوان المسلمين" كانت هي الفصيل الذي تفاوض -عكس باقي فصائل الثورة- مع نائب الرئيس السابق سعياً إلى التسوية، أما الشباب الذين فجروا الثورة أو الجماهير التي كفلت لها عوامل الاستمرار والنجاح فقد خرجوا جميعاً من الانتخابات بالنزر اليسير.

وتكرر السيناريو نفسه في انتخابات الرئاسة التي حصل فيها ممثل "الإخوان المسلمين" من ناحية وآخر رؤساء وزارات مبارك على أصوات جعلتهما يتنافسان في مرحلة الإعادة، وأياً كانت النتيجة فإن كرسي الرئاسة سيكون بعيداً عن الثوار. ومن ناحية ثانية فإن ذهاب منصب الرئاسة إلى "الإخوان المسلمين" ومن قبله أغلب المقاعد في مجلس الشعب، ومن بعده رئاسة الوزراء وفقاً للدستور الجديد الذي لابد أن ينص على حق الأغلبية البرلمانية في تشكيل الوزارة -كل هذا يعني أن جميع سلطات الدولة ستؤول إلى جماعة "الإخوان المسلمين" مما يغيب واحداً من أهم الأسس لعملية البناء الديمقراطي وهو "التوازن"، فحينما تتجمع سلطات الدولة كلها في يد واحدة يكون هناك خطر أكيد على الديمقراطية. ويعني كل ما سبق أن "الثورة" قد أخفقت في بناء الديمقراطية، بل إنها قد تكون لا تزال بعيدة بعداً شاسعاً عن الاستقرار، فقد تعود الشعب على أن ينزل إلى الشارع أو بالأحرى ميدان التحرير كلما صدر قرار أو حكم أو وقع حدث لا يعجبه، وستكون ردود أفعال الأحكام التي صدرت السبت الماضي بحق مبارك ومعاونيه، وكذلك ردود أفعال نتائج انتخابات الرئاسة اختبارات مهمة للاقتراب بالثورة من "التطور المؤسسي"، لأن استمرار الإخفاق في هذا الصدد سيدفع البعض إلى الحديث عن الحاجة إلى ثورة جديدة بينما يشير واقع الحال إلى أن اللحظة التاريخية التي مر بها الشعب المصري في مطلع 2011 قد لا تتوافر شروطها مجدداً بعد أن مر الشعب بخبرة الثورة وتداعياتها. وثمة مشابهات واضحة بين الحالة المصرية والحالات العربية المماثلة، فهل أخطأ الثوار باختيارهم النهج المؤسسي المحايد في عملية بناء الثورة؟ بمعنى عدم القيام بعملية تصنيف صارمة للثورة وخصومها منذ البداية بحيث لا يشارك في البناء الجديد إلا أنصارها المؤكدون؟ واللجوء إلى مؤسسات "ثورية" تحاكم النظام القديم؟ للأسف فإن التاريخ لا يكرر نفسه بالسهولة التي يتصورها البعض، وبالتالي فليس أمام الثوار سوى أن يناضلوا من أجل أن ينطوي البناء الجديد على أقل ضرر ممكن للثورة وأهدافها.

-------------------
* نقلا عن الاتحاد الإمارتية، الثلاثاء 5/6/2012.


رابط دائم: