الانتخابات الفرنسية: حرب طبقية
30-4-2012

ويليام فاف
* كاتب ومحلل سياسي أميركي

الانتخابات الفرنسية الأخيرة حسمت أمراً، وهو اسما المرشحين اللذين سيخوضان المرحلة النهائية لسباق الرئاسة. كان هناك من اعتقدوا في البداية أن المرشحة اليمينية المتطرفة "مارين لوبان" قد تتفوق في أدائها على ساركوزي، الذي وضعته استطلاعات الرأي خلف متحديه المرشح الاشتراكي "فرانسوا هولاند". ولكن عندما اقترع الفرنسيون الأحد الماضي، اقترب الاثنان من تحقيق التعادل في الأصوات لولا أن "هولاند" حسم التصويت لصالحه في النهاية بنسبة لم تزد عن 1.5 في المئة عند إعلان النتائج النهائية(28.63 في المئة مقابل 27.18 لساركوزي).

ويرجع هذا لأن وريثة حزب الجبهة الوطنية اليميني"مارين لوبان" ابنة "جان ماري لوبان"، الذي يعتبر من أبرز وجوه الحركة الوطنية اليمينية الفرنسية المناوئة للمهاجرين منذ محاولته الأولى خوض انتخابات الرئاسة عام 1974(الذي حصل فيها على نسبة بالغة الصغر لم تزد عن 0.74 في المئة من إجمالي أصوات الناخبين). ففي يوم الأحد الماضي حصلت ابنته على 17.9 في المئة من إجمالي أصوات الناخبين، وهي نسبة تفوق ما حصل عليه "لوبان" نفسه في تاريخ مشاركاته في الانتخابات الرئاسية، بل وأكثر من النسبة التي حصل عليها من خلال مشاركته في انتخابات 2002، عندما كان هو المرشح الوحيد الذي نجح في الوصول إلى الجولة الثانية من تلك الانتخابات أمام شيراك، الذي حسم الانتخابات لصالحه في النهاية.

click here
هذا العام، توقع الكثير من المراقبين أن مرشح الحزب الأصغر الذي يرجح أن يكون له التأثير الأكبر على النتيجة النهائية من خلال سرقة أصوات من هولاند، وهو "جان لوك ميلينشون"مرشح اليسار المتطرف، الذي نجح من خلال خطبه المثيرة والديماغوجية من اجتذاب جماهير غفيرة وغير متوقعة لاجتماعاته ومؤتمراته الحاشدة خلال الشهور السابقة.

ولكن تبين أثناء الانتخابات، أنه يروق بشكل رئيسي للناخبين الأكبر عمراً ممن يحنون لزمن الحملات القوية الصاخبة للحزب الشيوعي الفرنسي القديم، وبالذات خلال تلك الأيام التي كان يقود فيها جبهة "اليسار" الفرنسي، قبل أن يأتي الرئيس الاشتراكي "فرانسوا ميتران" للحكم عام 1981، ويجعل من تصويت الفرنسيين لليسار المتحد الجديد، ومن اختيار رئيس اشتراكي، أمراً ليس آمناً فحسب، وإنما أنيقاً أيضاً.

ومع ذلك فإن "ميلينشون"، الذي خاض السباق الانتخابي كممثل لـ"جبهة اليسار" لم يحصل يوم الأحد قبل الماضي سوى على 11 في المئة من أصوات الناخبين، أي أقل كثيراً من النسبة التي حصلت عليها "لوبان".

السؤال المطروح الآن هو: من الذي سيفوز في السادس من مايو، وهو اليوم الذي سيفاضل فيه الناخبون الفرنسيون بين ساركوزي وهولاند؟ ستكون هناك مناظرة وطنية واحدة متلفزة. وساركوزي كان يريد ثلاث حلقات، في حين أن "هولاند" لم يكن يريد على الأرجح ولا مناظرة واحدة، فهو ليس بارعاً بالفطرة في المناظرات، وليس أيضاً متحدثاً لبقاً -فمعظم خطابات حملته لم تكن سوى صياغة ركيكة ديماغوجية لمواقف الحزب الاشتراكي، سعى عن طريقها، ومن خلال جهد مرتبك لتقليد الأسلوب الخطابي للرئيس الأسبق فرانسوا ميتران، بل وحتى إيماءاته الحركية المميزة.

من المعروف أن الماضي يمثل مشكلة بالنسبة لليسار الأوروبي بوجه عام، وليس الفرنسي فحسب. فأول سؤال يمكن أن يخطر على بال أي شخص الآن هو: ما هو الجديد لدى "اليسار" الذي يمكن أن يقدمه في الظروف الراهنة، التي تمر بها القارة؟ فأقصى شيء وعد به "هولاند" من أجل تعبئة كتلته الانتخابية هو وعده بتعيين 600 ألف معلم مدرسة – وهو أمر كان متوقعاً أن يكون مبعثاً لسعادة اتحادات المعلمين (التي تعتبر المكون الأقوى والأكثر صلابة في الكتلة الانتخابية للاشتراكيين).

ولكن هذا الوعد بات أقل وضوحاً مع مرور أيام الحملة الانتخابية، حيث لم يعد مفهوماً لدى كثيرين ما إذا كان المعلمون الذين سيعينون هم معلمون جدد، سيضافون للمؤسسات التعليمية في البلاد، أم أنهم سيحلون محل عدد مماثل من المعلمين المتقاعدين. كما لم يكن واضحاً كذلك ماهية الكيفية، التي سيتم بها دفع مرتباتهم في أزمنة التقشف الحالية، خصوصاً أن الموظفين الحكوميين مثل المعلمين، يتمتعون في فرنسا بحق العمل حتى سن التقاعد، ويتقاضون بعده معاشاً طيلة حياتهم.

كما قدم "هولاند"وعوداً أخرى مثيرة للجدل مثل وعده بمنح المهاجرين الذين يقضون في البلاد خمس سنوات كاملة من الإقامة القانونية، حق التصويت في الانتخابات، وهو وعد كان حزبه قد قدمه في الماضي دون أن يُقدم على وضعه موضع التنفيذ.

أما ساركوزي فقد واجه المشكلة التي يواجهها الرؤساء المنتهية ولايتهم عادة، والتي يمكن تلخيصها في السؤال: ما هي الأشياء الأخرى التي يتوقع للرئيس أن يقدمها، والتي لم يقم بها بالفعل خلال فترة ولايته الأولى. الإجابة عن هذا السؤال بالنسبة لساركوزي تحديداً هي: يمكنه تقديم المزيد من الإصلاح الضريبي، وفرض ضريبة على المغتربين الفرنسيين، ورفع ضريبة القيمة المضافة، ووضع قواعد "لشراء البضائع الأوروبية"، وتخفيض عدد المهاجرين الذين تسمح فرنسا بدخولهم بمقدار النصف.

المشكلة الخاصة بساركوزي خصوصاً هي أن نمط شخصيته قد ساهم في إقصاء عدد كبير للغاية من الناخبين الفرنسيين. فحركيته السريعة كثيرة الأخطاء أرهقت أعصابهم، علاوة على أنه كان يتصرف على الدوام كـ"محدث نعمة" مُغرم بالمظاهر البراقة، علاوة على أنه أجنبي وليس فرنسياً قحاً (كان والده مهاجراً مجرياً)، ولغته الفرنسية ليست بليغة، كما أنه من خريجي كلية الحقوق، وليس من مدرسة الإدارة الفرنسية الحكومية العليا، التي يتخرج منها عادة أعضاء النخبة الأدبية والفلسفية والعلمية الفرنسية علاوة على أن سلوكه العام ومظهره ليسا رئاسياً، حيث يتصرف في معظم الحالات كما يتصرف عادة الشخص الأميركي التقليدي الودود.

ولكن ساركوزي كان من ناحية أخرى، رئيساً ينجح في إنجاز الأشياء وإتمام الأشياء لنهايتها.. فهو الذي أنقذ جورجيا من تداعيات غزو روسي عبثي، وهو الذي تدخل في ليبيا في الوقت الذي تردد فيه الأميركيون، وهو الذي ينجز في الوقت الراهن انسحاب فرنسي مبكر من أفغانستان لأنه أصبح يدرك على ما يفترض أن الحرب هناك قد انتهت بفشل ذريع. وهو رجل لديه إلى جانب ذلك نصيب كبير من الحس السليم والقدرة على التمييز بين الأشياء، كما أن "أصدقاءه" يشنون حملة الآن يتهمون فيها هولاند بأنه قد تلقى تعليماً في مدارس خاصة (بدلاً من مدارس الحكومة) وبأنه وارث لثروة آلت إليه من والده، ومتهرب من الضرائب، وليس لديه خبرة في حُكم أي شيء من قبل!

ما يقال الآن في فرنسا في سياق الحملة الانتخابية، لا يمكن وصفه بشيء سوى أنه نوع من الحرب الطبقية المحتدمة – ما في ذلك من شك.

-------------------------------
* نقلا عن ا لاتحاد الإماراتية، الإثنين 30/4/2012.


رابط دائم: