مصر نموذجاً:|لماذا أخفق التيار الليبرالي في المنطقة العربية ؟
30-4-2012

د.هالة مصطفى
* رئيس تحرير مجلة الديمقراطية- الأهرام

السبت 28 إبريل 2012

عرض: ريهام مقبل - باحثة في مجلة الديمقراطية

لم يحظ التيار الليبرالي بدعم الأنظمة السياسية العربية، في وقت تمتعت فيه التيارات السياسية الأخري - الاشتراكية، والقومية، والأصولية الإسلامية والأيديولوجيات غير العربية - بدعم الأنظمة السياسية العربية. فالأيديولوجية الليبرالية العربية تواجه تحديات جمة في كافة الأنظمة السياسية العربية، بداية من الموروث الثقافي العربي السائد الذي يربط بين الأفكار الليبرالية والتحرر الديني والانحلال الأخلاقي؛ وهو الأمر الذي يقوض من تحركات التيار الليبرالي في الشارع العربي، على عكس باقي التيارات السياسية عامة والإسلامية منها على وجه الخصوص، مرورا بالنظر لأفكار التيار الليبرالي على أنها أفكار نخبوية، وصولا لتواضع النتائج السياسية التي يحققها التيار الليبرالي.

وقد تجلى مأزق التيار الليبرالي بصورة لا تدع مجالا للشك في نتائج الانتخابات البرلمانية المصرية، وتضاؤل نسبة تمثيل التيار الليبرالي في مجلسي الشعب والشورى؛ إذ حصل على 25% في الأول و15% في الثاني؛ رغم تنامي عدد الأحزاب التي تتبني أفكار التيار الليبرالي ومعبرة عنه بصورة قوية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير.

وفي محاولة لمعرفة مدي نجاح التجربة الليبرالية في العالم العربي اعتمادا على التجربة الليبرالية المصرية كنموذج لاعتبارها التجربة الأبرز والأكثر تأثيرا في محيطها الإقليمي، نشرت الدكتورة هالة مصطفي كتابها المعنون بـ " أزمة الليبرالية العربية: نموذج مصر"، مركزة في مؤلفها هذا على التحديات التي تواجه القوي الليبرالية، مثيرة تساؤلين رئيسيين، مفادهما هل سيلعب الليبراليون العرب دورا في صنع المستقبل؟، وهل التحول الديمقراطي الحالي سيحمل معه أبعادا ليبرالية أم العكس؟.

وفي إطار الإجابة على هذين التساؤلين المركزيين، تتعرض الكاتبة للمفاهيم النظرية الليبرالية ومبادئها الأساسية كمذهب سياسي وفلسفي، وكذا مفهوم الحرية في المدارس الفكرية الإسلامية المختلفة، وكذلك عند رواد الفكر العربي الحديث.

الحرية في الفكر الإسلامي..نموذجا المعتزلة وابن رشد

بعد تطرق الكاتبة للأصول النظرية لمفهوم الليبرالية والقيم والمبادئ الجوهرية لليبرالية، عرضت للاجتهادات العربية لتطوير الفكر الإسلامي لقضية الحرية، وبالأخص قضية "الجبر والاختيار"، مستندة على أفكار تيار "المعتزلة" والتي وصفتهم "بفرسان العقلانية في الفكر الإسلامي"؛ لإيمانهم الشديد بالحرية والقدرة على الجمع بين الحجج الدينية والمبررات العقلية؛ لتأكيد حرية الفرد والمجتمع في اختيار الحاكم.

فتشير إلى أن "المعتزلة" سعت لتحرير العقل وإرادته من أية قيود خارجية، ورأت أن الإنسان حر ومسئول عن أفعاله؛ لذا دعت أفكار المعتزلة لحرية اختيار المحكومين لحاكمهم بواسطة نواب عن الأمة.وتطرقت الكاتبة لنموذج آخر، هو "ابن رشد" الذي أعطى أولوية للتفسير العقلاني للدين على حساب التأويل والنقل، ونادي بفصل الدين عن الدولة، وتعزيز حرية الفكر والإبداع، وأعلى من قيمة الحرية، خاصة بعد دفاعه عن حقوق المرأة.

وترى أن هذه الاجتهادات كانت استثنائية في تاريخ الفكر الإسلامي لما قدمته من أفكار جديدة؛ حيث كانت نظرية الفكر لابن رشد الأساس للنظرية الليبرالية العربية، لينتهي الأمر بأنصارها نهاية مأساوية ليتم تكفيرهم والقضاء على إنجازاتهم الفكرية. مشيرة إلى أن الحرية في الفكر الغربي اختلفت عن نظيرتها الفكر العربي؛ لأن مشكلة الحرية عند الأولى كانت من منظور عقلاني بمنأى عن الدين بخلاف الثانية.

التجربة الليبرالية في مصر.. البدايات والإشكاليات

ترى الكاتبة أن الحقبة الليبرالية الأولى في مصر بدأت مع وضع دستور1923، الذي كان بمثابة أول دستور ليبرالي مدني في مصر والمنطقة العربية ككل؛ لما أسهمته ثورة 1919 من ترسيخ لمبادئ ديمقراطية. مشيرة إلى أن هذه الحقبة لا نزال نعيش أثرها حتى الآن لما أرسته من مبادئ رئيسية مثل الحرية والمساواة واحترام الفرد، وعدم التمييز، وإقامة حياة حزبية تعددية وبرلمانية، والتي كانت بمثابة مصدر ملهم لأغلب الدساتير اللاحقة على دستور 1923 ونقلها إلى تجارب عربية أخرى.

وهذه الحقبة امتدت منذ العشرينيات حتى الأربعينيات من القرن المنصرم، لتنتهي بقيام ثورة 1952. وتتحدث عن أن التجربة الليبرالية في مصر ليست مؤسسية، إنما هي نابعة من اجتهادات فردية. وأشارت الكاتبة لإسهامات عدد من المفكرين المصريين لفهم الليبرالية، وركزت على خمسة منهم: رفاعة الطهطاوي، وأحمد لطفي السيد، وعلى عبد الرازق، وطه حسين، ونجيب محفوظ. وهؤلاء أسهموا في تعزيز مبادئ الليبرالية ودعم الديمقراطية.
وشهدت الحقبة الليبرالية الثانية التي بدأت مع قيام ثورة 1952 انقطاعا كبيرا لليبرالية. وقد اتسمت بـ "المد القومي العربي"، وتعرض الليبراليون لاضطهادات شتى، نتيجة الاختلاف في الرؤى والأفكار، حيث رأت القوى الليبرالية – آنذاك - أن الأولوية لإرساء نظام ديمقراطي مع تبنى منهج ليبرالي، وهذا يختلف مع رؤية النظام السياسي الذي يرى أن الشعب المصري غير مستعد للديمقراطية، لذلك تبنى النهج الاشتراكي ونظام الحزب السياسي الواحد.

واعتمد النظام على عدد من الآليات لاستبعاد القوى الليبرالية، أهمها:

أولا- الإقصاء والتهميش من خلال تصنيف كل سياسي أو مثقف ليبرالي بالخائن أو المعادى للثورة، ومن ثم استبعادهم من المشاركة في كافة أجهزة ومؤسسات الحكم، ومنعهم من تأسيس أحزاب سياسية، وتجميد منظمات المجتمع المدني والعمل الصحفي؛ وهو ما أدى إلى ظهور أزمة المثقفين.

ثانيا- التضييق والملاحقة عن طريق التنصت على الاتصالات التليفونية والمراقبة البوليسية، ومنع السفر والاجتماعات، والاغتيال المعنوي عن طريق وسائل الإعلام.

ويشير الكتاب إلى أنه تكريسا لهذه الممارسات، اعتمد النظام الناصري على عدد من السياسات السلطوية منها:

أولا- إلغاء دستور 1923 الليبرالي ووضع دستور جديد عام 1956 الذي خلا من أي مواد تنص على مبادئ للحرية أو الديمقراطية، ومن ثم حل الأحزاب السياسية. وأسهم هذا الدستور في هيمنة السلطة التنفيذية على التشريعية، ومنح الرئيس سلطات واسعة النطاق .

ثانيا- سياسات التأميم، التي كان من شأنها تقويض الليبرالية الاقتصادية التي سادت في الحقبة الأولى، وتأميم جميع المشاريع الخاصة، وامتدت هذه السياسات لتشمل الآداب والفنون. وهذه السياسات أدت إلى التخلص من رموز الطبقة الرأسمالية والليبرالية، وكذا تآكل الطبقة الوسطى بسبب سياسات التوظيف، ومجانية التعليم، وتوزيع الأراضي التي كانت كفيلة لإسرافهم عن المطالبة بالديمقراطية.

ثالثا- تبنى نموذج الدولة البوليسية، وإحلال الأجهزة الأمنية محل المؤسسات السياسية والحزبية، والتوسع في إنشاء المحاكم الخاصة والمحاكم العسكرية للمدنيين وقوانين الطوارئ، وتزايد عدد سجناء الرأي، كل ذلك أسهم في غياب الدولة المدنية. كما أن النظام قام بتوظف الدين للتعبئة الجماهيرية، وإضفاء الشرعية الدينية على السياسات التي يتبناها النظام لمحاربة الخصوم.

من السلطوية المطلقة إلى التعددية الحزبية

ترى الكاتبة أن فترة السادات تمثل "الحقبة الثالثة" لليبرالية المصرية. وقد شهدت تغييرا بعد ثورة التصحيح في 15 مايو 1971 ،خاصة في ظل رفع شعار دولة المؤسسات، وسيادة القانون. ولكنها أكدت أن هذا التغيير كان محدودا، ولم يحقق شيئا نحو الديمقراطية؛ لأنه كان مجرد صراع على السلطة بين الرئيس الجديد وبقايا النظام الناصري، حيث سعى نظام السادات للسيطرة على كافة مؤسسات الدولة.

وتميزت هذه الفترة بالصعود المتدرج للإسلام السياسي؛ نتيجة الاعتماد على مصادر تقليدية، منها الدين والمصالحة مع التيار الديني والقوى السياسية الإسلامية. وانعكس ذلك صراحة على نص المادة الثانية من دستور عام 1971 الذي ينص على أن "الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وذلك لمواجهة القوى السياسية المناهضة له، خاصة التيار اليساري والقومي.

وتستكمل الكاتبة بالقول إن النظامين (الناصري والساداتي) تعاونا بداية مع الإخوان المسلمين، ولكن الاختلاف يكمن في أن العهد الناصري اعتمد عليهم لمواجهة حزب الوفد "حزب الأغلبية في الحقبة الليبرالية الأولى"، بخلاف السادات الذي تحالف معهم لمواجهة النخبة الناصرية. وهذا لا يعنى أن السادات مختلف عن نخبة ثورة يوليو، فقد كان جزءا منها، ولكن الفارق أنه كان محافظا، لذلك اختلفت التحالفات.

وبالتالي، كانت تجربة السادات محدودة للغاية، ولم تتحول إلى تجربة ليبرالية، وهو ما انعكس على قانون تنظيم الأحزاب السياسية والشروط القاسية التي وضعها هذا القانون، وحظر إعادة تكوين الأحزاب التي كانت موجودة قبل ثورة يوليو 1952 ،عدا الحزب الوطني، وحزب الفتاة. ومع ذلك، شهد الإعلام انفتاحا هائلا بعد عام 1973 ،حيث رفع النظام الرقابة على الصحف، وألغيت الرقابة على برقيات الصحفيين والمراسلين الأجانب والصحف الأجنبية، والسماح لأول مرة بإنشاء الصحف الحزبية.

الاغتيال المعنوي لليبراليين

انتهج نظام مبارك سياسة تختلف عن سابقيه في التعامل مع الليبراليين، والتي اعتمدت بالأساس على الاعتقال والنفي، إلا أنه تبنى أسلوبين مختلفين لاستهداف وملاحقة الليبراليين، تمثلا في الآتي:

أولا- إعادة تشكيل النخبة السياسية في مؤسسات الدولة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني،واستبعاد الليبراليين، وضم شخصيات إسلامية ويسارية، مع الاحتفاظ بعلاقة مع الإسلاميين، من خلال الاحتفاظ بالمادة الثانية من الدستور، وسمح للإخوان المسلمين بخوض الانتخابات البرلمانية، خاصة في انتخابات 2005 ، حيث حصلوا على 88 مقعدا. وفى المقابل، تم تجاهل الليبراليين باستثناء عدد صغير من رجال الأعمال الذين استفادوا كثيرا من النظام السابق.

ثانيا- الاغتيال المعنوي لليبراليين عن طريق تشويه صورتهم أمام الرأي العام، سواء بطرق مشروعة أو غير مشروعة. ولم يقتصر الأمر على الشخصيات الليبرالية، وإنما أيضا امتد للأحزاب الليبرالية، حيث تدخلت الأجهزة الأمنية والسياسية في شئون الأحزاب، خاصة حزب الوفد الجديد، والغد، والجبهة الديمقراطية.

مستقبل الليبرالية في مصر

تحت هذا العنوان، تتحدث الكاتبة عن ثورة الخامس والعشرين من يناير التي تطلق عليها "ثورة الطبقي الوسطى" وأهدافها الرئيسية في إقامة دولة مدنية حديثة، أساسها الشرعية الدستورية، ونظام ديمقراطي ليبرالي يعلي من حكم القانون، ويضمن الحريات العامة والسياسية. وبالتالي، فهي تدعو إلى تبنى دستور جديد؛ لأن القديم لا يلبى طموحات الثورة.

وترى الكاتبة أن الجدل الدائر بين الدستور أولا أم الانتخابات أولا تكتنفه صعوبات عدة، لعدد من الأسباب، لخصتها في الآتي:

أولا- افتقاد الثورة لقيادة سياسية موحدة تقود المرحلة الانتقالية، ويكون لها أهداف محددة، كما هو الحال فى جميع ثورات العالم، بخلاف المجلس العسكري الذي تحرك وفقا لجدول زمني، بدءا بتعديل بعض مواد دستور 1971 ، ثم الاستفتاء عليها، وقانون تشكيل الأحزاب، وإجراء انتخابات رئاسية.

ثانيا- الانقسام الحاد بين القوى السياسية، بعد أن توحدت في الثورة حول هدف واحد وهو إسقاط النظام. واحتدم الصراع بين القوى السياسية حول شكل وطبيعة النظام بين مؤيد للدولة المدنية، وآخر للدولة الدينية.

ثالثا- عدم نضوج البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية التي لا تزال غير صالحة لإجراء انتخابات قادرة على توليد دستور جديد، نتيجة لكثرة الحديث عن تزييف إرادة الناخبين، واستخدام شعارات دينية، أو العنف والمال.

وتختتم المؤلفة بالقول إنه لا يوجد فارق بين إجراء الانتخابات أولا أو كتابة الدستور قبلها، لأن النتيجة واحدة، خاصة في ظل توازن القوى، والرغبة في تجنب أي استقطاب بين القوى السياسية.

خلاصة القول إن الكتاب ركز على أن ضعف الليبراليين قائم بالأساس على سياسات النظم السياسية منذ الخمسينيات التي عملت على استبعاد وتشويه وإقصاء الليبراليين.إذ أن ضعف وتفكك الليبراليين أنفسهم، وعدم قدرتهم على التنظيم ساهم في تهميشهم. فلم يستغل التيار الليبرالي المصري الفرصة السانحة التي وفرتها ثورة الخامس والعشرين من يناير، تاركا الساحة للتيار الإسلامي، لتفشل الأحزاب الليبرالية بالفوز بنسبة المقاعد البرلمانية المتوقعة مع بداية الثورة لعدم امتلاكها رؤية محددة، وعدم قدرتها على التواصل مع نسبة كبيرة من المصريين.


رابط دائم: