الأسئلة الإشكالية‮:‬|محاولة أولية للاقتراب من أبعاد الصعود الإسلامي ومآلاته
14-4-2012

مالك عوني
* مدير تحرير مجلة السياسة الدولية، كاتب وباحث مصري في العلاقات الدولية، مؤسسة الأهرام

في عدد يوليو‮ ‬2011‮ ‬من مجلة السياسة الدولية، تضمن ملحق تحولات استراتيجية، الذي كان مخصصا للبحث في السيناريوهات المستبعدة في مرحلة الثورات العربية وما بعدها، مقالا، أعدته الدكتورة شادية فتحي، حول سيناريو الدولة الدينية في مصر، حيث رأت أنه أحد السيناريوهات‮ ‬غير المستبعدة، وإن كان الأكثر إثارة للجدل‮. ‬وكان أحد المسارات التي افترضها المقال لتحقق مثل هذا السيناريو هو حصول التيارات الإسلامية على الأغلبية الكافية في المؤسسة التشريعية، في ظل الانتخابات التي أعقبت الثورة المصرية، بما يمكنها‮ -‬أي تلك التيارات‮- ‬من النص على تطبيق الشريعة الإسلامية في أي دستور جديد يتم وضعه‮.‬

تكشف التطورات التي شهدتها المنطقة العربية، منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، عن تحقق الشق الأول من المعادلة التي افترضها ذلك المقال في أكثر من بلد عربي، سواء من بلدان الربيع العربي‮ (‬مصر، وتونس خاصة‮)‬، أو في‮ ‬غيرها من البلدان التي تسعى لتجنب تكرار هذا النمط من التغيير الثوري فيها‮ (‬المغرب‮)‬، وذلك فضلا عن بروز دور القوى الدينية في بلدان أخري لا تزال في مرحلة مخاض ما بعد الثورة، وما قبل إعادة البناء المؤسسي‮ (‬ليبيا، واليمن‮)‬، أو التي لا تزال تشهد احتجاجات شعبية متواصلة‮ (‬سوريا، والبحرين‮).

في واقع الأمر، فقد صنعت الثورات العربية عصرا جديدا للإسلاميين، حيث حولت القوى الإسلامية من قوى اجتماعية وسياسية محظورة إلى قوى اجتماعية وسياسية معترف بها، وذات ثقل ووزن كبيرين، نما أدى إلى بزوغ‮ ‬ظاهرة جديدة في العالم العربي، هي انتقال الإسلاميين من صفوف المعارضة والمطاردات إلى مراكز صنع القرار‮.‬

أكدت تلك التطورات أن الشق الآخر من المعادلة أصبح موضوعا ليس فقط لجهد ذهني افتراضي بشكل بحت ومجرد، ولكنه أصبح كذلك موضوعا لفعل سياسي واقعي منظم، يخضع لنتاج تصادم إرادات متعددة، وليس فقط لإرادة فاعل واحد مفترض‮. ‬ولا يقتصر الأمر، في هذا السياق، على مآل الأنظمة السياسية الداخلية، حسبما اقترب منه المقال المشار إليه آنفا، وإنما كذلك بفضاء أكثر اتساعا من القضايا والتفاعلات على الصعيدين الداخلي والخارجي للدول العربية التي شهدت هذا الصعود الإسلامي‮.‬

"الحقبة الإسلامية"

وفي إطار المنهج الذي اختطه ملحق‮ "‬تحولات استراتيجية‮" ‬لنفسه منذ صدوره، وهو محاولة تقديم رؤى استشرافية لمستقبل ظواهر لا تزال في طور التكوين والتشكل، فقد ارتأت هيئة تحرير مجلة السياسة الدولية أن يعني في عدده هذا بسؤال‮ "‬الحقبة الإسلامية؟‮". ‬وفي الواقع، فإن طرح القضية في صيغة سؤال تتضمن أكثر من معني ضمني، أولها أن ما نشهده حاليا ليس بالفعل‮ "‬حقبة إسلامية‮" ‬شكلا أو مضمونا‮. ‬فمن حيث الشكل، فإن ما نشهده فعليا هو ما يمكن تسميته‮ "‬حالة صعود إسلامي‮". ‬ويثور في هذا السياق عدد من الأسئلة‮: ‬هل يمكن لهذا الصعود أن يستقر في بنية السياسة العربية، سواء على مستوي الدول أو الإقليم، ليصبح ذا حضور ممتد يتيح الحديث عن‮ "‬حقبة إسلامية‮" ‬فعلية على الأقل من ناحية الامتداد الزمني لوجود الحركات المنتمية لهذا التيار في دوائر الحكم؟ وبالتالي، ما هي العوامل التي قد تعزز من هذا الحضور أو تحول دونه، سواء داخل بنية الحركات المعبرة عنه، أو في البيئة المحيطة بها؟ وهل يمكن أن يطور هذا الصعود آليات للتوافق مع بيئتيه الداخلية والخارجية؟ أم ستكون العلاقة بينه وبين هاتين البيئتين أو إحداهما على الأقل صراعية؟.

أما من حيث المضمون، فإن الصعود الإسلامي في تلك المرحلة يختلف، في أبعاده وآلياته وسياقاته، عما اصطلح على تسميته بـ‮ "‬الصعود الإسلامي‮" ‬منذ بداية سبعينيات القرن العشرين‮. ‬تميزت مرحلة الصعود الأولي تلك، حسبما عرفتها أدبيات العلوم الاجتماعية عامة، والسياسية خاصة، باندراجها ضمن حركة المعارضة السياسية والاجتماعية لأنظمة حكم داخلية ونماذجها الأيديولوجية، قبل أن تتطور لاحقا إلى حركات مقاومة ذات طبيعة جهادية‮.

وفي مراحلها المتأخرة، امتدت تلك المقاومة لتشمل هيكل النظام الدولي الذي نشأ عن انتهاء الحرب الباردة، والسياسات المهيمنة في إطار هذا النظام‮. ‬أما في المرحلة الراهنة، فإن هذا الصعود يتميز بأنه يدمج هذا التيار الواسع من الحركات والرؤى والمرجعيات في إطار عملية صنع القرار والحكم‮. ‬وبالتالي، فإن هذا الصعود سيواجه أسئلة، مثل‮: ‬تعريف ماهية‮ "‬الإسلامي"؟ وما هي قراءته للمرجعيات الفكرية التي يستند إليها؟ وما علاقته بكل ما عداه على مستوي الدولة القومية وخارجها؟.ومع الإقرار بأن هذا الفصل بين مستويي الشكل والمضمون هو فصل تعسفي يخدم أغراض التحليل فقط، فإنه لا ينفي بأي حال أنهما مترابطان، ويؤثر كل منهما في الآخر تأثيرا حتميا وجوهريا‮.

‬يبقى أخيرا التساؤل‮: ‬في ظل كل تلك العوامل السابقة المرتبطة بهذا الصعود، هل نحن بصدد نمط إسلامي واحد متجانس في الإجابات التي يمكن أن تقدمها تلك الحركات الإسلامية الصاعدة على تلك الأسئلة جميعا؟ أم سنكون أمام أنماط عدة، سواء أكانت متقاربة أم قادرة على التوافق أم متنافسة؟ وبالتالي، هل يمكن توقع تشكل وحدة جامعة لروافد هذا الصعود المختلفة، تصب في مسار واحد محدد، ويحظي بتوافق عام بين الحركات الإسلامية المعنية؟ أم سنشهد مسارات عدة‮ ‬غير متجانسة بالضرورة، إن لم تكن متنافسة؟.

تلك الأسئلة، وغيرها كثير، تمثل ملامح، وفي الوقت ذاته إشكاليات، مما قد ينتج عن الصعود الإسلامي الراهن، عقب الثورات العربية‮. ‬وفي الواقع، فإنه حتى الآن، وفي أغلب الحالات، لم تعكس عمليات تغيير أنظمة الحكم التي حدثت في دول الربيع العربي ثورات بالمعني الفعلي للكلمة، بقدر ما تعكس محاولات إصلاح للأنظمة السياسية، التي ارتأت الشعوب أن النخب التي تمت إزاحتها كانت تمثل عنصر إعاقة لعملها بشكل سليم‮. ‬وربما كان أحد احتمالات إحداث تحول ثوري حقيقي في تلك الدول، بمعني تغيير جذري في هياكل الحكم والسلطة ومنطلقاتهما التي سادت في تلك الدول، منذ مرحلة الاستقلال، خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين، هو ما قد ينتج عن الصعود الإسلامي الحالي‮.

من هذا المنطلق، تأتي محاولة الاقتراب من ظاهرة الصعود الإسلامي الراهنة، وهي محاولة أولية، تهدف إلى استثارة البحث حول أطر وآليات تأثير هذا الصعود، وتأثره‮. ‬وقد كان الطموح الأولي لإعداد هذا الملحق يستهدف إعداد رؤى مقارنة تشمل حالات الصعود الإسلامي الحالية جميعا، من جهة، ومقارنتها بحالات صعود سابقة، كما حدث سابقا في العراق بعد الغزو الأمريكي، أو السودان، عقب انقلاب عام‮ ‬1989،‮ ‬من جهة أخري‮. ‬إلا أن قيود الوقت وحجم المطبوعة حالا دون السير في هذا المخطط الأولي، حيث تم اعتماد إجراء المقارنات بين النماذج التي تبدو فيها تجليات الصعود الإسلامي الراهنة أكثر وضوحا، بهدف تقديم تصورات أولية‮. ‬

إلا أن ذلك يعني أن تحديد أنماط هذا الصعود واتجاهاته، بشكل علمي سليم وشامل، إنما يحتاج إلى مزيد من الموارد، ومن الجهد البحثي في الرصد، والتحليل، وبناء النماذج التفسيرية للمآلات المحتملة لهذا الصعود وللدول العربية والمنطقة والعالم‮. ‬وهذه الدوائر نظن أنها جميعا ستكون معنية، وموضوع تأثر بهذا الصعود، وتأثير فيه‮.‬
    وبالتالي،‮ ‬فإن المحاور التي‮ ‬يحاول هذا الملحق من خلالها الاقتراب من ظاهرة الصعود الإسلامي،‮ ‬تتمثل في هذه الدوائر المشار إليها، إضافة إلى التساؤل حول الواقع الذي يتبلور هذا الصعود الإسلامي في إطاره، وحول خريطة القوى الإسلامية، عقب التحولات التي سيفرزها هذا الصعود في أوضاعها ومواقفها، وأخيرا حول المعضلات التي قد تواجه هذا الصعود‮. ‬ويلزم، في هذا الصدد، تأكيد أن تلك الرؤى، مع حاجتها إلى مزيد من التطوير البحثي، مثلما سبقت الإشارة، تعبر عن رؤية كتابها وكاتباتها، وليس بالضرورة عن رؤية مجلة‮ "‬السياسة الدولية‮".‬

"المفاهيم المتنازعة"

وأخيرا، تلزم الإشارة إلى أنه يقع في القلب من هذا الجهد المطلوب، لحسن فهم ظاهرة الصعود الإسلامي الراهنة ومآلاتها، محاولة ضبط المفاهيم والتوافق عليها، ليس فقط لأغراض بحثية، ولكن ربما الأهم والأسبق لأغراض التفاعل السياسي السليم والصحي‮. ‬ففيما يتعلق بالعديد من مفاهيم الدين في علاقته بالسياسة، خاصة في الحالة الإسلامية، من الجلي أننا نواجه واقعا من المفاهيم المتنازعة، حيث إن المفهوم الواحد يحمل مضامين مختلفة لدي أصحاب الرؤى والمواقف المختلفة فكريا وسياسيا وعقائديا‮.

وهذا مع تأثيره الجلي في إعاقة إمكانيات التواصل والتوافق، فإنه يفتح الباب واسعا أمام صراع‮ ‬غير محدود، يستهدف نفي الآخر، من منطلق تصورات هي في الأغلب تعكس رؤى ذاتية ومتحيزة لهذا الآخر من قبل الأطراف المختلفة معه، سياسيا وفكريا وعقائديا، رؤى قد لا تعبر حتى عن رؤية هذا الآخر عن ذاته، فضلا عن أن تكون معبرة عن حقيقته‮.‬

ورغم أن تلك القضية تحتاج إلى جهد خاص وكبير، فإن الظن أنها لازمة، إذا ما أردنا التعاطي مع تداعيات هذا الصعود الإسلامي‮. ‬وفضلا عن أنها يمكن أن تعين ليس فقط في إعادة بناء رؤية صحيحة عن الآخر، والعالم الذي نتحرك فيه، فإنها تمثل آلية ضرورية لإعادة اكتشاف الذات وتطويرها لتصبح أكثر قدرة على بناء مواقف صحيحة من بيئتها، بكل ما تضمنه من فاعلين، ومؤثرات، وقضايا‮.‬

(*) تقديم ملحق " تحولات استراتيجية" ( الحقبة الإسلامية؟ إشكاليات تأسيس نموذج إسلامي في السياسة العربية ) ، مجلة السياسة الدولية العدد 188 ، إبريل 2012


رابط دائم: