تقارير العدد 188:|تفاعلات إقليمية ودولية جديدة بأدوات قديمة
28-4-2012

سامح راشد
* باحث بمؤسسة الأهرام، مدير تحرير مجلة السياسة الدولية

مياه كثيرة جرت في قنوات السياسة الإقليمية والعالمية خلال الأشهر القليلة الماضية، امتزجت فيها الأوضاع والتطورات الداخلية بالقضايا والتوازنات الخارجية. ورغم ضبابية الصورة العامة لكثير من المواقف الراهنة، فإن وتيرة التفاعل بين مكوناتها ودينامياته لا تشير إلى تحولات جذرية في أنماط التفاعل وإدارة العلاقات بين الأطراف الفاعلة، سواء في القضايا الداخلية أو الإقليمية، بل أيضا على المستوى العالمي.

والأمثلة كثيرة على تشابه الأحداث والأنماط التي تجسدها لجهة إدارة العلاقات وتوظيف السياسات والتحركات لخدمة المصالح والأهداف. في الملف الفلسطيني، لا تزال فكرة المصالحة تدور في الفلك ذاته من الاقتراحات والاتفاقات السياسية والأمنية، ولا تزال تلك الاتفاقات والخطط تعاني بطء التنفيذ، وغياب إرادة التفعيل، رغم أن العقبات والأوضاع الميدانية التي ستواجهها المصالحة على الأرض تطورت بمرور الوقت، وأضحت مختلفة وبعيدة عما يجري الاتفاق أو حتي الاختلاف حوله في كل مرة.وفي الملف النووي الإيراني، عادت الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، إلى العقوبات منهجا للتعامل مع ذلك الملف، وأداة لتغيير "السلوك النووي" الإيراني.

وفي سياق الجهود الأمريكية لملاحقة ومواجهة التمدد الصيني، جاء اتجاه إلى زيادة الوجود العسكري الأمريكي في جنوب شرق آسيا، وفقا للتوجيه الاستراتيجي الجديد، الذي أصدره الرئيس الأمريكي لوزارة الدفاع الأمريكية في يناير 2012 بعنوان "الحفاظ على القيادة العالمية: أولويات الدفاع للقرن الحادي والعشرين".وهي خطوة تقدم مثالا جديدا لكيفية التعاطي الأمريكي مع ميزان القوي العالمي السائد، وذلك بالعودة إلى التطويق الاستراتيجي والوجود العسكري المباشر في المجال الحيوي المباشر للقوة المنافسة لواشنطن عالميا. ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لروسيا وتوجهاتها الخارجية في الأشهر الماضية، حيث تشير مواقف موسكو وتحركاتها إلى رغبة حثيثة في العودة إلى الساحة الدولية بروح القطب العالمي والقوة الدولية ذات الثقل، على الأقل في بعض الأقاليم، وإزاء بعض القضايا.

التفوق الألماني في أوروبا

وربما يكون مستغربا أن أوروبا أيضا تعود إلى نمط قديم من التفاعلات والعلاقات، ليس تجاه دول أو أقاليم أخري، لكن فيما بينها. فقد أحدث الصعود الألماني فجوة بينها وبين بقية أقطاب أوروبا، خصوصا بريطانيا وفرنسا، مما يعيد إلى الأذهان حالة التنافس بين الأقطاب الأوروبية خلال القرنين الماضيين، تلك الحالة التي انجرفت تدريجيا أمام موجة التكامل الإقليمي الأوروبي التي وصلت إلى ذروتها بالاتحاد الأوروبي.

إلا أن تباين المواقف والسلوكيات والسياسات الأوروبية تجاه قضايا داخلية (أوروبية) وأخري خارجية جعل عملية الاندماج الأوروبي الكامل في كيان واحد مسألة غير مؤكدة، وربما محل مراجعة. وساعد في ذلك أن بعض خطوات ذلك الاندماج لا تزال تواجه عقبات أخري غير مرتبطة بتوازن القوي أو التنافس بين دول القارة العجوز. فبعض الدول ترفض الانضمام إلى مسيرة الاتحاد الأوروبي، سواء من حيث المبدأ، أو لأسباب تتعلق بحماية قدراتها الذاتية.

من هنا، جاء التفوق الألماني على أكثر من صعيد، ليفتح الباب أمام التساؤل عن احتمالات استمرار وتطور الاتحاد الأوروبي ذاته، خصوصا في ظل ظهور أزمات ومشكلات لم تكن متوقعة، مثل الأزمة المالية التي ضربت بقوة -ولا تزال- بعض دول أوروبا، مما يجعل المشهد الأوروبي في المجمل يبتعد كثيرا عن التناغم والانسجام والتشابه الذي كان يفترض أن تفضي إليه المسيرة الطويلة للتكامل في القارة الأوروبية.

المغزى الذي ينبغي التوقف عنده، فيما سبق، أن العالم يبدو كما لو كان يعود إلى عصور خلت، عندما كانت تسود التفاعلات بين أطرافه حالة من التنافس والتصارع على النفوذ والموارد والمصالح بصورتها المباشرة، أي المواد الخام، وممرات الملاحة والتجارة، وأسواق الاستهلاك.بل هناك تشابه بين المرحلة الراهنة وبعض فترات المد الاستعماري، عندما كانت التحركات العسكرية هي الغالبة في التنافس بين الأقطاب العالمية. وكانت الأساطيل والقطع البحرية هي الأداة الأكثر استخداما.

العودة لفرض العقوبات

وينطبق الأمر ذاته على مسارات أخري من التفاعلات والعلاقات العالمية والإقليمية، ومن أبرزها العودة مجددا إلى العقوبات الاقتصادية كأداة للتعامل مع إيران. فقد أثبتت كل التجارب الماضية في فرض العقوبات -سواء على إيران أو غيرها من الدول- فشلا ذريعا في تحقيق أغراضها.

وربما كان إدراك ذلك الوضع هو ما دفع واشنطن والعواصم الأوروبية إلى تشديد العقوبات، وتوسيع نطاقها، بهدف زيادة تأثيرها، وبالتالي تحقيق الغرض المرجو منها. لكن المفارقة هنا تكمن في أن التطور أو التغيير اقتصر على المكونات والمفردات، ولم يمتد إلى المنهج أو النمط. فبدلا من تغيير منطق العقاب أو سياسة العقوبات، إذ أثبتت إخفاقها دائما، كان الحل ليس بالخروج من بوتقة ذلك المنطق وكسره، وإنما بالإمعان فيه، مع تعديل نوع أو شكل أو نطاق العقاب، وهو المنطق ذاته الذي اتبع في الحالات الأخرى.

فبدلا من البحث عن أسلوب مغاير لمواجهة التمدد الصيني، وتغلغل بكين في مناطق مفصلية وحيوية من العالم، كان الاختيار هو التخلي عن المنافسة الاقتصادية، أو الضغوط السياسية، لصالح ما يمكن وصفه بالخيار العسكري، والحضور المادي المباشر في نطاق المصالح الحيوية الصينية، أي بإعمال نفس منطق التطويق والحصار والمواجهة.

لذا، لن يكون من المستغرب أن تبادر الصين بدورها إلى تفعيل نشاطاتها العسكرية وأشكال وجودها الاستراتيجي، سواء داخل مجالها الحيوي، أو خارجه، ربما في نقاط تمركز أو نقاط استهداف تدخل ضمن نطاق مصالح الولايات المتحدة الأمريكية أو الدول الغربية الأخري، وهو ما فعلته وتفعله روسيا بالفعل حاليا. فبعد أن كانت موسكو تتعامل في السنوات القليلة الماضية بدرجة عالية من المهادنة والانكفاء أمام التحركات الأمريكية القريبة منها، بالمعنيين الجغرافي والسياسي (مثل نشر منظومة الدفاع الصاروخي، والتعاون الوثيق مع بعض الجمهوريات السوفيتية سابقا)، جاء سلوك موسكو مغايرا تماما في ملفات أخري، كما هو الحال مع معالجتها للأزمة السورية. ولم يكن مغايرا فقط عن فترات ماضية، بل اختلف تماما عن ملفات أخرى حديثة، مثل الثورة الليبية التي سمحت موسكو -بعد تردد قصير- للغرب بالتدخل العسكري المباشر فيها. وأعلنت روسيا بشكل واضح أنها لن تسمح للغرب بتكرار الحالة الليبية.

مفاد تلك الملامح المترامية للصورة الكلية أن العالم يرتد عائدا إلى أنماط قديمة من التفاعل بين أطرافه الأساسية، حتي وإن اتخذت تلك الأنماط أشكالا أو أدوات تبدو جديدة، أو مختلفة في ظاهرها. إلا أن التدقيق فيها يكشف عن محدودية الاختلاف، واقتصاره على مفردات وأدوات، دون امتداد إلى جوهر أو مضمون. وسواء كانت بداية ذلك المشهد من هذا الطرف أو ذاك، فإن النتيجة المباشرة والحاصلة بالفعل أن الأطراف الأخري تقوم برد الفعل الطبيعي باتباع النمط  ذاته والأدوات ذاتها في أحيان كثيرة.

ما يثير التساؤل ويدعو إلى التأمل أن تلك العودة إلى الماضي لا تعني افتقادا للأدوات، ولا نقصا في الموارد والبدائل. فعندما يجري التعامل مع إخفاق بعض الأساليب، وتعثر حل بعض المشكلات، أو إدارة بعض التفاعلات، بإعادة إنتاج الأنماط والأساليب نفسها، بل أحيانا بالأدوات ذاتها، فلا معني لذلك سوي افتقاد شديد للحلول الخلاقة والأفكار الجديدة، الأمر الذي يدعو بالضرورة إلى القلق بشأن المستقبل، مستقبل عالم ينعم بأعلى درجات التقدم التكنولوجي والصناعي، لكن مفلس فكريا، محدود الخيال والابتكار، لذلك يدير شئونه، ويسير أموره من داخل الصندوق، لا من خارجه.


رابط دائم: