يدخل النظام الدولي عام 2026، وهو يحمل أعباء تراكمية لنصف عقد من الاضطرابات المتواصلة، ليشكل نقطة انعطاف تاريخية تتجاوز فيها الديناميات الجيوسياسية مرحلة "المنافسة التكتيكية" لتدخل مرحلة "إعادة الهيكلة الاستراتيجية الجذرية".
ويُظهر التحليل المقارن لعدد من الوثائق الاستراتيجية الصادرة عن مراكز الفكر الغربية الرئيسية (CSISوRANDوIEAوSIPRI) ونظيراتها الشرقية (CASSوValdaiوRIAC) تباينا جوهريا، ليس فقط في تفسير الأحداث، بل في المنطلقات الفلسفية التي تؤطر فهم النظام العالمي عام 2026.
ففي حين تنظر المؤسسات الغربية لعام 2026، باعتباره عام الاختبار الأقصى لتماسك "الردع الموسع" و"إدارة المخاطر" في ظل تآكل المؤسسات التقليدية، يراه المحللون في الشرق عاما لتسريع وتيرة بناء "العالم متعدد المراكز" (Polycentric World) وتفعيل بدائل ملموسة للهيمنة الدولارية والتكنولوجية الغربية.
تشير البيانات المتقاطعة إلى أن 2026، لن يكون بالضرورة عام المواجهات العسكرية المباشرة الكبرى بين القوى العظمى، بل سيكون عام "تثبيت المواقع" (Positioning War) في الفراغات الجيوسياسية الناشئة. كما يتميز هذا العام بانهيار آخر ركائز الحد من التسلح النووي (New START)، وبدء تطبيق الصين لخطتها الخمسية الخامسة عشرة التي تهدف لتحقيق "الاستقلال التكنولوجي"، وتغير جذري في أسواق الطاقة مع توقعات بـ "فائض نفطي" قد يعيد تشكيل اقتصاديات الدول الريعية.
يهدف هذا التحليل إلى محاولة تقديم نظرة أدق للمشهد الجيوسياسي المتوقع في 2026، من خلال مقارنة منهجية بين الرؤى الغربية والشرقية عبر ستة محاور رئيسية: الهاوية النووية، والتحولات الجيواقتصادية، والجبهات التكنولوجية الجديدة (الفضاء، والرقائق، والقطب الشمالي)، وصعود الجنوب العالمي والنظام "المتعدد المراكز"، والديناميات الإقليمية في إفريقيا، والتحليل الأيديولوجي لطبيعةومستقبل النظام العالمي.
أولا- الهاوية النووية والاستقرار الاستراتيجي.. نهاية عصر الرقابة وديناميات الردع الثلاثي:
تمثل القضية النووية المحور الأكثر خطورة وإلحاحا في استشرافات عام 2026. فمع حلول الخامس من فبراير 2026، ينتهي العمل بمعاهدة "نيو ستارت" (New START)، وهي آخر الاتفاقيات الثنائية الملزمة التي تحد من الترسانات النووية الاستراتيجية للولايات المتحدة وروسيا. هذا الحدث لا يمثل مجرد تاريخ إداري في أجندة الدبلوماسية الدولية، بل يمثل تهديدا فعليا للهندسة الأمنية التي حكمت العلاقات بين القوى العظمى منذ نهاية الحرب الباردة، مما يفتح الباب أمام سباق تسلح غير مقيد وغياب كامل لآليات الشفافية والتحقق.
1- المنظور الغربي: تآكل الردع وضرورة التكامل التقليدي-النووي (CSIS, SIPRI):
ترى المؤسسات الغربية، وعلى رأسها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية(CSIS) عبر مشروعه المتخصص"Project Atom"، أن عام 2026، يمثل بداية حقبة "الخطر التصعيدي الحاد" في النظام الدولي. التحليلات الغربية تنطلق من فرضية أن بيئة الردع قد تعقدت بشكل غير مسبوق، حيث لم تعد الثنائية القطبية (الولايات المتحدة مقابل روسيا) هي الحاكمة، بل نشأ نظام "ردع ثلاثي الأقطاب" يشمل الصين كقوة نووية نظيرة صاعدة بسرعة.
· أزمة الردع المتعدد وانكشاف الحلفاء:
يشير تقرير "Project Atom 2025: Escalation Management" الصادر عن CSISإلى أن الولايات المتحدة تواجه لأول مرة في تاريخها تحدي ردع قوتين نوويتين كبريين في آن واحد، وهما روسيا والصين، اللتان تظهران تقاربا استراتيجيا متزايدا. ويحاجج الخبراء الغربيون، مثل هيذر ويليامز وماثيو كوستلو، بأن الترسانة النووية الأمريكية الحالية، التي صممت وخفضت أعدادها في بيئة ما بعد الحرب الباردة، قد لا تكون كافية لردع هذا التحالف الفعلي أو الضمني، خاصة إذا قررت الصين وروسيا تنسيق ضغوطهما في مسارح مختلفة (أوروبا والمحيط الهادئ) بشكل متزامن.
ويركز التقرير بشكل مكثف على مفهوم "ثقوب التصعيد" (Escalation Wormholes)، حيث تخلق أدوات المنطقة الرمادية (Gray Zone Tools)، مثل الهجمات السيبرانية وحملات التضليل مسارات غير تقليدية قد تؤدي إلى صراع نووي غير مقصود.
في هذا السياق يُنظر إلى عام 2026، كعام حرج لـ "الخطوات التالية للتحالف الأمريكي-الياباني"، حيث من المقرر عقد مناقشات استراتيجية في يناير 2026 لتعزيز الردع، مما قد يشمل نشر قدرات استراتيجية أمريكية إضافية في المنطقة أو تعميق الحوار حول "الردع الموسع" لطمأنة طوكيو وسيول، اللتين تواجهان تهديدات متزايدة من الترسانة الصينية والكورية الشمالية.
· سباق التحديث والانتشار (بيانات SIPRI):
من الناحية الكمية يقدم معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)صورة قاتمة لعام 2026. حيث يتوقع المعهد أن يشهد هذا العام زيادة صافية في عدد الرءوس الحربية النووية المنشورة (Deployed Warheads) لأول مرة منذ عقود. فبينما قد يظل العدد الإجمالي للمخزونات مستقرا نسبيا، فإن عدد الرءوس الجاهزة للإطلاق الفوري يرتفع، مدفوعا ببرامج التحديث الشاملة لدى جميع القوى النووية.
وبالنسبة لكوريا الشمالية، تشير التقديرات إلى أن بيونج يانج ستمتلك بحلول ،2026 مخزونا يتراوح بين 50 إلى 90 رأسا حربيا نوويا، مع قدرات صاروخية باليستية متطورة ومناورة، مما يعقد الحسابات الدفاعية للحلفاء ويزيد من الضغط على منظومات الدفاع الصاروخي الأمريكية.
ما يعقد الديناميكية الأمريكية-الروسية هو التوسع السريع للترسانة النووية الصينية. ويخلق هذا التطور بيئة نووية "ثلاثية الأقطاب". حيث تواجه الولايات المتحدة الآن تحديا غير مسبوق يتمثل في ردع قوتين نوويتين رئيسيتين في وقت واحد، مما يجعل هذه المعضلة الاستراتيجية للحد من التسلح الثنائي مع روسيا صعبا بشكل متزايد، حيث تتردد واشنطن في الموافقة على قيود قد تتركها أقل عددا أمام ترسانة مشتركة لروسيا والصين.
هذا التطور يضع الولايات المتحدة أمام معضلة: هل تزيد من اعتمادها على الأسلحة النووية التكتيكية لتعويض النقص في القوات التقليدية في مسرحين متباعدين؟ التوصيات الصادرة في تقارير CSISتميل نحو الإيجاب، داعية لزيادة الاعتماد على الأسلحة النووية ونشر ترسانة أكثر تنوعا في المنطقة.
2- المنظور الشرقي: رفض الهيمنة والفراغ القانوني (RIAC, Valdai):
على الجانب الآخر يقدم المجلس الروسي للشئون الدولية (RIAC) ونادي فالداي (Valdai Club)سردا مختلفا جذريا للديناميات النووية في 2026. لا يرى المحللون الروس انهيار معاهدة "نيو ستارت" كنتيجة للعدوان الروسي أو التوسع الصيني، بل كنتيجة حتمية ومنطقية لمحاولات الغرب تقويض الأمن الاستراتيجي الروسي عبر وسائل غير نووية، مثل توسع الناتو، والدعم العسكري الهائل لأوكرانيا، ومحاولات عزل روسيا اقتصاديا وسياسيا.
· الفراغ القانوني ومناورة سياسية:
يحذر الخبراء في RIACمن أن غياب اتفاقية ملزمة للحد من التسلح بعد 5 فبراير 2026، سيخلق "فراغا قانونيا" خطيرا في العلاقات الدولية. ومع ذلك تشير التحليلات الروسية إلى أن موسكو ليست في عجلة من أمرها لتوقيع اتفاق بديل يعيد إنتاج الاختلالات السابقة. حيث تصر روسيا على أن أي مفاوضات مستقبلية يجب أن تأخذ في الاعتبار الترسانتين النوويتين لفرنسا وبريطانيا، باعتبارهما جزءا من التحالف الغربي الموجه ضدها، وهو شرط يرفضه الغرب تماما.
وفي مناورة دبلوماسية متوقعة لعام 2026، يشير وزير الخارجية الروسي والمحللون إلى احتمال تقديم موسكو لمقترح بتمديد الالتزام بحدود "نيو ستارت" الكمية بشكل "طوعي" لعام واحد بعد انقضاء المعاهدة.
وينظر المحللون الغربيون (مثل روز جوتيمولر في Arms Control Association) إلى هذا المقترح بعين الريبة، واصفين إياه بـ "العرض المسموم" أو المناورة السياسية التي تهدف لكسب الوقت وتجنب سباق تسلح مكلف في وقت تعاني فيه روسيا من ضغوط اقتصادية، دون تقديم أي التزامات حقيقية بالشفافية أو التفتيش المتبادل.
· استراتيجية التصعيد الهجين:
يشير تحليل صادر عن المعهد الملكي للخدمات المتحدة(RUSI) - وهو يحلل الاستراتيجية الروسية من منظور غربي دقيق - إلى أن الكرملين، ومع استنزاف قواته التقليدية في أوكرانيا، سيعتمد في 2026، بشكل متزايد على "التصعيد الهجين".
يجادل التقرير بأن روسيا، في مواجهة ما تعتبره تهديدا وجوديا، ستلجأ إلى تكتيكات غير متماثلة تشمل التخريب المادي للبنية التحتية الأوروبية (خاصة مصانع السلاح وسلاسل التوريد)، والحرب السياسية للتأثير على الانتخابات الأوروبية والأمريكية، والتلويح النووي المستمر كأدوات رئيسية للحفاظ على توازن الرعب.
يشير التحليل إلى أن اقتصاد الحرب الروسي، وإن كان مرنا حاليا، يواجه احتمالات الإنهاك الهيكلي والتضخم المفرط. لتحقيق أهدافها الاستراتيجية قبل تدهور قدرتها التقليدية بشكل أكبر، من المرجح أن يصعد الكرملين تكتيكات الحرب الهجينة ضد الناتو والدول الأوروبية.
بينما يربط المجلس الروسي للشئون الدولية(RIAC) بين هذا المشهد واحتمالية استئناف التجارب النووية. ويحذر التقرير من أن الإدارة الأمريكية الجديدة (خاصة إذا كانت جمهورية تحت قيادة ترامب) قد تتجه لاستئناف التجارب النووية لتحديث ترسانتها، مما سيدفع روسيا والصين لفعل الشيء نفسه فورا. هذا السيناريو الكابوسي قد يؤدي إلى انهيار نظام حظر الانتشار(NPT) كليا بحلول نهاية 2026، حيث ستشعر دول، مثل اليابان وكوريا الجنوبية بضرورة امتلاك قدرات ردع مستقلة.
جدول (1)
مقارنة لأبرز التقديرات الاستراتيجية النووية لمراكز الفكر الغربية والشرقية لعام 2026:
|
المجال
|
المنظور الغربي
(CSIS, SIPRI, RAND)
|
المنظور الشرقي
(RIAC, Valdai, CASS)
|
الأثر المتوقع في 2026
|
|
مصيرNew START
|
انتهاء المعاهدة يزيل آخر الضوابط؛ ضرورة إشراك الصين في أي اتفاق مستقبلي.
|
المعاهدة سقطت بسبب العدائية الغربية؛ لا تفاوض دون شمول الترسانات الأوروبية وتغيير السلوك الغربي.
|
فراغ قانوني كامل؛ احتمالية التزام طوعي هش وغير قابل للتحقق بالأسقف الكمية.
|
|
استراتيجية الردع
|
التحول نحو "الردع المتكامل"؛ دمج القدرات التقليدية والنووية والسيبرانية؛ تعزيز التحالفات (الناتو، AUKUS).
|
الاعتماد على الأسلحة غير المتماثلة (فرط صوتية، نووي تكتيكي) لتعويض الضعف التقليدي؛ "التصعيد الهجين".
|
زيادة نشر الصواريخ متوسطة المدى في آسيا وأوروبا؛ عسكرة الفضاء والسيبراني.
|
|
الصعود الصيني
|
توسع نووي "سريع ومثير للقلق"؛ غموض استراتيجي؛ سعي للهيمنة الإقليمية
|
تحديث ضروري ومشروع للدفاع عن النفس ضد "التطويق" الأمريكي؛ الوصول للحد الأدنى من الردع الموثوق.
|
الصين تصل لمستوى ردع يمنع التدخل الأمريكي المباشر في تايوان؛ ثلاثية قطبية نووية.
|
|
كوريا الشمالية
|
تهديد متصاعد بترسانة تصل لـ 90 رأسا؛ قدرات تكتيكية لضرب الحلفاء.
|
(تجاهل نسبي أو دعم ضمني) كجزء من جبهة مناهضة للغرب.
|
تعزيز الدفاعات الصاروخية في اليابان وكوريا الجنوبية؛ نقاشات حول التسلح النووي في سيول وطوكيو.
|
ثانيا- الاقتصاد العالمي.. بين "الدورة المزدوجة" الصينية و"فائض الطاقة" الغربي:
في عام 2026، تتوقع مراكز الفكر الغربية والشرقية تلاشى الخطوط الفاصلة التقليدية بين الاقتصاد والأمن القومي بشكل كامل، ليصبح الاقتصاد هو ساحة المعركة الرئيسية. وتظهر التحليلات الاقتصادية لعام 2026، تباينا حادا بين التفاؤل الحذر بشأن استقرار النمو العالمي من جهة، والتشاؤم الشديد بشأن مستقبل التجارة الحرة والعولمة من جهة أخرى.
1- الاستراتيجية الصينية: الخطة الخمسية الخامسة عشرة (2026-2030) والهروب إلى الأمام:
يُعد عام 2026 عاما مفصليا وتأسيسيا للاقتصاد الصيني، حيث يمثل بداية تطبيق "الخطة الخمسية الخامسة عشرة (15th Five-Year Plan)،وفقا لتحليلات الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية(CASS) وتقارير متابعة من مراكز غربية، مثل: GroupRhodiumوMERICS، ستكون هذه الخطة بمثابة "دستور للاكتفاء الذاتي" ومحاولة للهروب من فخ الدخل المتوسط والحصار التكنولوجي، تراهن بكين بمستقبلها على التحول إلى قوة تكنولوجية عظمى، وهي استراتيجية أطلق عليها المحللون الغربيون صعود "الدولة الكهربائية" (Electrostate).
· تفعيل استراتيجية "الدورة المزدوجة 2.0":
تؤطر القيادة الصينية الخطة الخمسية الخامسة عشرة باعتبارها "حلقة وصل حاسمة" في المسيرة نحو التحديث بحلول عام ٢٠٣٥. يشير تحليل المنتدى الاقتصادي العالمي والمصادر الحكومية الصينية إلى أن الخطة تعطي الأولوية لـ "قوى إنتاجية نوعية جديدة" على حساب النمو الإجمالي للناتج المحلي الإجمالي.
بحلول عام 2026، يتوقع أن تنتقل الصين من مرحلة التنظير لاستراتيجية "الدورة المزدوجة" (Dual Circulation) إلى مرحلة التطبيق الكامل والعدواني.
§ الدورة الداخلية (Internal Circulation):ستركز بكين بشكل مكثف على تعزيز الطلب المحلي لتقليل الاعتماد الهيكلي على أسواق التصدير الغربية التي تزداد انغلاقا. تتوقع مؤسسة Goldman Sachs، في تحليل متفائل نسبيا، أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني بنسبة 4.8% في عام 2026، مدفوعا باستثمارات الدولة الضخمة في قطاعات التصنيع المتقدم وليس في العقارات أو البنية التحتية التقليدية.
§ القوى الإنتاجية الجديدة (New Quality Productive Forces):ستخصص الخطة الـ 15 موارد مالية وبشرية هائلة لما تسميه القيادة الصينية "القوى الإنتاجية الجديدة". هذا المفهوم يشمل التركيز الحصري على قطاعات الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، والبيوتكنولوجيا، والطاقة الخضراء، بهدف تجاوز "نقاط الاختناق" التكنولوجية التي يفرضها الغرب.
· التحول التجاري نحو الجنوب:
يتوقع الخبراء فيCASS أن تشهد العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تدهورا "كبيرا" أو "طفيفا" في 2026، نتيجة للتعريفات الجمركية وسياسات "تقليل المخاطر"(Derisking)، ولذلك ستركز بكين استراتيجيتها الخارجية في 2026، على تعميق العلاقات التجارية والاستثمارية مع دول "الجنوب العالمي" ومجموعةBRICS+كبديل استراتيجي للأسواق الغربية، محاولة خلق نظام تجاري موازٍ لا يعتمد على الدولار أو الأنظمة المالية الغربية.
2- أسواق الطاقة: مفارقة الوفرة والندرة (IEA vs OPEC):
تقدم وكالة الطاقة الدولية(IEA) وإدارة معلومات الطاقة الأمريكية(EIA) توقعات لعام 2026، قد تعيد تشكيل الجغرافيا السياسية للطاقة، وتختلف جذريا عن رؤية منظمة أوبك.
· صدمة "فائض النفط" (The Oil Glut):
تتوقع وكالة الطاقة الدولية (IEA)حدوث "فائض كبير" في إمدادات النفط العالمية بحلول عام 2026. هذا الفائض لن ينتج عن زيادة إنتاج دول أوبك، بل عن طفرة في الإنتاج من الدول غير الأعضاء في أوبك+، وتحديدا الولايات المتحدة، والبرازيل، وغيانا، وكندا. بالتزامن مع ذلك تتوقع الوكالة تباطؤا في نمو الطلب العالمي على النفط نتيجة تسارع التحول نحو السيارات الكهربائية وكفاءة الطاقة.
انخفاض الأسعار:تتوقع إدارة معلومات الطاقة الأمريكية (EIA) أن ينعكس هذا الفائض على الأسعار، متوقعة انخفاض سعر خام برنت إلى متوسط 55 دولارا للبرميل في الربع الأول من 2026. هذا السيناريو، إذا تحقق، سيشكل ضغطا ماليا وجوديا على ميزانيات الدول الريعية الكبرى (روسيا، والسعودية، وإيران)، التي تحتاج لأسعار أعلى بكثير لتحقيق التوازن المالي وتمويل مشروعاتها الاستراتيجية أو حروبها.
وقد يدفع هذا الضغط المالي هذه الدول إما لتقليص الإنفاق العسكري والطموحات الخارجية، أو العكس: تبني سياسات خارجية أكثر عدوانية لتشتيت الانتباه عن الأزمات الداخلية أو لرفع الأسعار قسرا عبر خلق توترات جيوسياسية.
كما يمكن أن يعمل انخفاض الأسعار هذا كمسرع جيوسياسي. بالنسبة لروسيا، فإن انخفاض السعر إلى ٥٥ دولارا للبرميل من شأنه أن يقيد بشدة قدرة الكرملين على تمويل الحرب في أوكرانيا والحفاظ على الإنفاق الاجتماعي المحلي، مما قد يجبره على "التصعيد الهجين" كبديل منخفض التكلفة للحرب التقليدية.
· تحولات قطاع التكرير:
يتوقع أن تشهد خريطة التكرير العالمية في 2026، تحولا ملحوظا. حيث تتوقع الوكالة الدولية للطاقة IEAزيادة في نشاط المصافي في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، مدفوعة بهوامش ربح قوية، بينما قد تتباطأ المصافي الصينية قليلا أو تضطر للاعتماد بشكل أكبر على النفط الروسي والإيراني المخفض السعر للحفاظ على تنافسية صادراتها من المشتقات النفطية، مما يعمق انقسام سوق الطاقة إلى سوقين: سوق غربية وأخرى شرقية (مظللة).
3- المعادن الحرجة: ساحة المعركة الجديدة في إفريقيا:
بينما قد تنخفض أسعار النفط، ستشتعل المنافسة الشرسة على "نفط القرن الحادي والعشرين": المعادن الحرجة (Critical Minerals)، مثل الليثيوم، والكوبالت، والنحاس، والمعادن الأرضية النادرة.
ويسلط مجلس العلاقات الخارجية الضوء على أن سيطرة الصين على سلاسل التوريد هذه -حيث تعالج ٩٠٪ من مغناطيسات التربة النادرة في العالم- قد أصبحت سلاحا من أسلحة الدولة، ومن المتوقع أن تكثف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي السياسات الصناعية في عام ٢٠٢٦،لكسر هذا الاعتماد، باستخدام أدوات مثل خطة عمل مجموعة السبع للمعادن الحرجة. ومع ذلك يحذر المحللون من أن سلاسل التوريد "لزجة" وأن التنويع بعيدا عن الصين سيستغرق سنوات. في غضون ذلك، تظل قدرة الصين على خنق إمدادات المعادن الرئيسية سلاحا غير متماثل قويا في النزاعات التجارية.
· فجوة العرض الهيكلية:
تشير تقارير الوكالة الدولية للطاقة IEAوشركات التعدين الكبرى إلى عجز متوقع وحاد في إمدادات النحاس (يصل إلى 30%) والليثيوم بحلول منتصف العقد، مما يجعل عام 2026 عاما حاسما لتأمين الإمدادات المستقبلية وتطوير مناجم جديدة.
· التكالب على إفريقيا:
تشير التوقعات والتقديرات إلى أن القارة الإفريقية ستكون هي ساحة التنافس الرئيسية لهذه الموارد. حيث تسعى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لكسر الاحتكار الصيني لسلاسل التوريد والتكرير عبر مشروعات البنية التحتية الاستراتيجية، مثل "ممر لوبيتو" (Lobito Corridor) الذي يربط مناطق التعدين في الكونغو وزامبيا بالمحيط الأطلسي.
وفي المقابل، ستستخدم الصين مخرجات قمة منتدى التعاون الصيني الإفريقي (FOCAC 2024) لتنفيذ مشروعات بنية تحتية دقيقة ومركزة في 2026، تهدف لربط المناجم بالموانئ وتعزيز الهيمنة على قطاع المعالجة الأولية.
جدول (2)
مقارنة لأبرز التقديرات الاقتصادية المتوقعة لمراكز الفكر الغربية والشرقية لعام 2026
|
المجال
|
المنظور الغربي
(CSIS, SIPRI, RAND)
|
المنظور الشرقي
(RIAC, Valdai, CASS)
|
الأثر الجيوسياسي
|
|
أسعار النفط
|
هبوط إلى ~55 دولار/برميل بسبب وفرة المعروض من خارج أوبك+.
|
(تحفظ) التركيز على أمن الطاقة والتخزين الاستراتيجي؛ استغلال النفط الرخيص.
|
ضغط مالي هائل على روسيا، وإيران، والسعودية؛ ميزة للاقتصادات المستوردة (الصين والهند).
|
|
النمو الصيني
|
~4.8% وفقا (Goldman Sachs)؛ تباطؤ هيكلي بسبب العقارات والديمغرافيا.
|
تحقيق أهداف النمو عبر "القوى الإنتاجية الجديدة" والابتكار التكنولوجي.
|
الصين تبتعد عن الاعتماد على الغرب؛ استمرار التوتر التجاري.
|
|
التجارة العالمية
|
تراجع العولمة؛ صعود سياسات الحماية و"تقليل المخاطر"؛ نمو بطيء (2.9%)
|
تعزيز التجارة البينية في BRICSو"الحزام والطريق"؛ رفض "الفصل" الاقتصادي.
|
انقسام الاقتصاد العالمي إلى كتل تجارية متنافسة؛ تضخم هيكلي في الغرب.
|
|
المعادن الحرجة
|
عجز حاد في النحاس والليثيوم؛ سعي لتنويع سلاسل التوريد خارج الصين.
|
هيمنة مستمرة على المعالجة والتكرير؛ استخدام الصادرات كورقة ضغط.
|
سباق محموم على إفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ عسكرة سلاسل التوريد.
|
ثالثا- الجبهات التكنولوجية: السيادة الرقمية وحرب الرقائق وجيوبوليتيك الفضاء:
لم تعد التكنولوجيا مجرد قطاع اقتصادي أو خدمي، بل أصبحت في توقعات 2026، جوهر الأمن القومي وأداة الهيمنة الرئيسية. وتتنبأ تقارير مراكز الفكر العالمية الغربية والشرقية بتصاعد "الحرب الباردة التكنولوجية" لتشمل مجالات جديدة وأكثر خطورة.
1- أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي: "الجدار الرقمي العظيم":
تتنبأ مراكز الأبحاث، مثلRhodium Group وCSISبأن عام 2026، سيشهد ذروة "حرب الرقائق" (Chip War) واختبارا حاسما لفعالية الاستراتيجية الأمريكية.
· توسيع نطاق الحصار:
من المتوقع أن توسع الولايات المتحدة وحلفاؤها (اليابان وهولندا) قيود التصدير لتشمل ليس فقط الرقائق المتقدمة جدا، بل أيضا الرقائق القديمة (Legacy Chips) ومواد التصنيع والمعدات، في محاولة شاملة لخنق الطموح الصيني في الذكاء الاصطناعي والتطبيقات العسكرية.
· الاختراق الصيني المحتمل:
حلول عام 2026، ستتضح نتائج الاستثمارات الصينية الهائلة في "صندوق الدوائر المتكاملة الكبرى". السيناريو الذي يخشاه الغرب ويأمله الشرق هو نجاح شركات، مثل HuaweiوSMICفي إنتاج رقائق بدقة 5 أو 7 نانومتر بكميات تجارية ومستقرة باستخدام معدات محلية بالكامل أو معدات معدلة. إذا تحقق ذلك فإن نظام العقوبات الغربي سيفقد فعاليته الاستراتيجية، مما سيمثل انتصارا جيوسياسيا ومعنويا هائلا لبكين يثبت فشل سياسة الاحتواء.
· السيادة على الذكاء الاصطناعي:
تتوقع مؤسسة Deloitteفي تقريرها TMT Predictions 2026، أن يمثل "الاستدلال" (Inference) - أي عملية تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي وليس مجرد تدريبها - ثلثي قوة الحوسبة العالمية في 2026. هذا يعني أن مراكز البيانات الضخمة ستتحول إلى أصول استراتيجية وطنية حرجة، تتطلب حماية عسكرية وسيبرانية مشددة، وقد تصبح أهدافا مشروعة في أي صراع هجين.
2- السباق نحو القمر: 2026 عام الحسم والمواجهة:
يشهد عام 2026، مواجهة مباشرة ورمزية في الفضاء بين المعسكرين، تتمثل في السباق نحو القطب الجنوبي للقمر.
· تأخر "أرتميس" الغربي:
وفقا لتقارير كل من مؤسسة RANDومؤسسة spacedaily، فإن وكالة ناسا تهدف لإطلاق مهمة "أرتميس 3" (Artemis III) للهبوط البشري على القمر في موعد "لا يتجاوز منتصف 2027"، لكن المهمة التمهيدية "أرتميس 2" (الدوران حول القمر برواد فضاء) مجدولة لربيع 2026، وهو ما يعكس تأخير تقني أو لوجستي في جدول 2026، سيعطي الصين فرصة ذهبية لتقليص الفجوة الزمنية.
· التقدم الصيني-الروسي (ILRS):
في المقابل تسرع الصين وروسيا الخطى في مشروع "محطة الأبحاث القمرية الدولية" (ILRS). وبحلول 2026، ستكون الصين قد أكملت مراحل متقدمة من مهام "Chang'e" الروبوتية للتحضير للهبوط البشري المستهدف في 2030.
ويحذر تقرير لـ Chatham Houseمن أن هذا السباق ليس علميا فحسب، بل هو سباق جيوبوليتيكي لوضع "قواعد السلوك" في الفضاء واستغلال الموارد القمرية (خاصة الجليد المائي في القطب الجنوبي)، وأن نجاح الصين في تثبيت أقدامها يعني تحدي "اتفاقيات أرتميس" التي صاغها الغرب وفرض واقعا قانونيا جديدا في الفضاء الخارجي.
3- القطب الشمالي: "طريق الحرير القطبي" وتغيير الحرس:
في الجغرافيا الأرضية يمثل القطب الشمالي جبهة مواجهة ساخنة في عام 2026، حيث تتداخل المصالح الاقتصادية مع التوترات العسكرية.
· انتقال الرئاسة والتوتر المؤسسي:
في مايو 2025، ستنتقل رئاسة مجلس القطب الشمالي من النرويج إلى مملكة الدنمارك، لتستمر حتى 2027. ووفقا لتقارير مجلس القطب الشمالي Arctic Councilومعهد أبحاث The Arctic Instituteالنرويجي في أوسلو، فإن هذا الانتقال يحدث في ظل توتر غير مسبوق وعزلة روسية تامة، ويتوقع أن تواصل الدنمارك في 2026، سياسة "السبعة ناقص واحد" (عزل روسيا)، لكنها ستواجه تحديا كبيرا في إدارة القضايا البيئية الملحة دون تعاون موسكو التي تسيطر على نصف المنطقة القطبية.
· الصعود الصيني-الروسي:
تتوقع التقارير أن يشهد عام ،2026 تشغيلا أوسع وتجاريا لـ "طريق البحر الشمالي" (Northern Sea Route - NSR) بفضل دخول كاسحات الجليد الروسية النووية الجديدة (من فئة Arktika) الخدمة، مدعومة باستثمارات صينية في البنية التحتية والموانئ. وتستهدف روسيا نقل ما يقرب من 100 مليون طن من البضائع عبر هذا الممر بحلول 2030، كما يتوقع أن يكون 2026، عام اختبار حقيقي للبنية التحتية الجديدة ومحطات الغاز المسال (مثل مشروع Arctic LNG 2) التي تحاول الالتفاف على العقوبات الغربية عبر استخدام التكنولوجيا والتمويل الصيني.
· عسكرة البحر الشمالي:
في المقابل سيكثف الناتو تدريباته في الشمال، ومن أبرزها تدريب "Cold Response 2026" في النرويج مارس 2026، والذي سيكون الأضخم من نوعه وفقا لما كشف عنه تقرير صادر عن القوات المسلحة لمملكة الدنمارك Forsvaret، مما يزيد من خطر الاحتكاك العسكري المباشر مع الأسطول الشمالي الروسي الذي يعتبر المنطقة مجاله الحيوي.
جدول (3)
مقارنة لأبرز المشروعات محل التنافس الغربي والشرقي لعام 2026
|
المشروع
|
المعسكر الغربي
(US/NATO/ESA)
|
المعسكر الشرقي
(China/Russia)
|
الحالة المتوقعة في 2026
|
|
القمر
|
مهمة Artemis II(الدوران حول القمر) في ربيع 2026؛ تأخيرات محتملة لـ Artemis III.
|
التقدم في مشروع ILRS؛ مهام روبوتية (Chang'e)؛ تطوير صواريخ الرفع الثقيل.
|
سباق محتدم؛ الغرب يتقدم بخطوة واحدة لكن الفجوة تتقلص بسرعة.
|
|
القطب الشمالي
|
رئاسة دنماركية للمجلس؛ عزل روسيا؛ تدريبات الناتو (Cold Response).
|
تشغيل الممر الشمالي (NSR)؛ كاسحات جليد نووية جديدة؛ التفاف على العقوبات (Arctic LNG 2).
|
روسيا والصين تخلقان واقعا جديدا في الملاحة القطبية بعيدا عن المؤسسات الغربية.
|
|
الملاحة
|
التركيز على الممرات التقليدية وحمايتها
(Suez, Panama)
|
تطوير "طريق الحرير القطبي" كبديل استراتيجي.
|
تبلور ممر تجاري جديد يربط آسيا بأوروبا تحت النفوذ الشرقي.
|
رابعا- صعود الجنوب العالمي والنظام "المتعدد المراكز":
وسط صراع القوى العظمى التقليدية، يواصل "الجنوب العالمي" تأكيد استقلاليته، رافضا الاصطفاف الكامل مع أي من الكتلتين. سيكون عام ٢٠٢٦، استمرارا لهذا الاتجاه، حيث تحتل الهند مركز الصدارة.
1- لحظة الهند: رئاسة بريكس ٢٠٢٦:
ستتولى الهند رئاسة مجموعة بريكس في عام ٢٠٢٦، وتستضيف القمة الثامنة عشرة، كما ستسمح هذه المنصة لنيودلهي بدعم أجندة الجنوب العالمي، والدفع لإصلاحات في المؤسسات متعددة الأطراف، وتعزيز النمو الاقتصادي الشامل.
ويجسد السلوك الاستراتيجي للهند في ٢٠٢٥-٢٠٢٦ "التحالف المتعدد" (Multi-alignment). على الرغم من تعميق العلاقات الدفاعية مع الغرب (كموازن للصين)، حافظت الهند على علاقات قوية مع روسيا.
· مرونة العلاقات الروسية-الهندية:
فشلت العقوبات الغربية في قطع الرابط بين موسكو ونيودلهي. قفزت التجارة الثنائية إلى ٧٠ مليار دولار، مدفوعة بشهية الهند الهائلة للنفط الروسي المخفض. يستمر التعاون الاستراتيجي في الطاقة النووية (محطة كودانكولام) والدفاع، مع حفاظ الهند على "استقلاليتها الاستراتيجية".
· وضع القوة الكبرى:
يشير معهد لوي إلى أن الهند وصلت إلى "وضع القوة الكبرى" في عام ٢٠٢٥، متميزة عن القوى المتوسطة في آسيا، مدفوعة بالنمو الاقتصادي والقدرة العسكرية.
2- الشرق الأوسط: من الصراع إلى فن الحكم الاقتصادي:
في الشرق الأوسط تتوقع مراكز الفكر تحولا نحو البراجماتية الاقتصادية في عام ٢٠٢٦، وتحاول المنطقة "مأسسة" الأمن من خلال أطر عمل مثل ميثاق أمن البحر الأحمر لحماية طرق التجارة، إلى جانب الجهد المنسق لفصل التكامل الاقتصادي الإقليمي عن عدم الاستقرار السياسي، كما يتوقع وجود "توتر تحول الطاقة" بشكل ملموس؛ حيث تتسابق دول الخليج لاستغلال رءوس أموالها لتأمين مواقع في اقتصاد ما بعد النفط (مثل الهيدروجين الأخضر واستثمارات الذكاء الاصطناعي) قبل أن تغلق نافذة عائدات النفط المرتفعة، وهو ما يتماشى مع انخراط الصين المتزايد في المنطقة، متحولة من بناء البنية التحتية إلى الشراكة في التكنولوجيا الفائقة.
خامسا- الديناميات الإقليمية في إفريقيا.. ساحة "الجنوب العالمي" واستعادة الوكالة:
تتوقع التقارير والوثائق الصادرة عن RAND، وCSIS، وAfrican Development Bankأن عام 2026 سيكون عاما حاسما للدول الإفريقية في محاولتها استعادة "الوكالة الجيوسياسية" (Geopolitical Agency) والاستفادة من التنافس الدولي.
· تطبيق مخرجات FOCAC:
سيشهد عام 2026 ذروة تنفيذ "خطة عمل بكين (2025-2027)" الناتجة عن منتدى التعاون الصيني الإفريقي (FOCAC 2024). وتشير التحليلات إلى تحول نوعي في الاستراتيجية الصينية: الابتعاد عن مشروعات البنية التحتية العملاقة والمكلفة (التي تسبب أزمات ديون) نحو مشروعات "صغيرة". ستركز هذه المشروعات في 2026، على الطاقة المتجددة، شبكات الاتصالات، والتصنيع الرقمي، والزراعة الحديثة، في محاولة لتقديم نموذج "التحديث الصيني" كبديل عملي وجذاب للنموذج الليبرالي الغربي المشروط.
· العودة الروسية والقمة الثالثة:
تستعد روسيا لعقد القمة الروسية-الإفريقية الثالثة في 2026، وفقا لتقرير موقع Riddle Russiaتسعى موسكو جاهدة لتحويل نفوذها الأمني والعسكري (الذي تعزز عبر "الفيلق الإفريقي" وريث مجموعة فاجنر) إلى نفوذ اقتصادي مستدام. ومع ذلك تشير البيانات إلى فجوة هائلة بين الطموح والواقع، حيث لا يزال حجم التبادل التجاري الروسي-الإفريقي (أقل من 30 مليار دولار) ضئيلا جدا مقارنة بالصين أو الاتحاد الأوروبي، مما يجعل النفوذ الروسي هشا ومعتمدا على استمرار الاضطرابات الأمنية.
· أزمة الديون و"جدار الاستحقاق":
يتوقع بنك التنمية الإفريقي (AfDB)أن ينمو الاقتصاد الإفريقي بنسبة 4.3% في 2026، مدفوعا بتحسن الاستهلاك الخاص والاستثمارات. بينما قدمت وكالة فيتش نظرة مستقبلية محايدة للتصنيفات السيادية لدول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وتظل أزمة الديون السيادية هي التحدي الأكبر، مع مواجهة العديد من الدول لـ "جدار استحقاق" (Maturity Wall) لديون سندات اليوروبوند في 2026. هذا الضغط المالي قد يدفع دولا إفريقية لمزيد من الاعتماد على قروض الإنقاذ الصينية أو القبول بشروط صندوق النقد الدولي القاسية، مما قد يؤثر على استقرارها السياسي.
سادسا- التحليل الأيديولوجي: "النظام القائم على القواعد" مقابل "العالم متعدد المراكز":
لا يقتصر الانقسام في 2026، على الجوانب العسكرية أو الاقتصادية، بل يمتد ليكون انقساما فلسفيا عميقا حول طبيعة ومستقبل النظام العالمي.
1- السردية الشرقية (Valdai): "الفوضى البناءة" وتفكيك الهيمنة:
يروج نادي فالداي الروسي بقوة لمفهوم "العالم متعدد المراكز" (Polycentric World). في تقاريره لعام 2025/2026، يجادل المفكرون الروس بأن الفوضى الحالية في النظام الدولي ليست خللا عابرا، بل هي السمة الطبيعية والضرورية لمرحلة انتقالية تنهار فيها الهيمنة الغربية.
وبالنسبة لهم فإن 2026، هو عام لتعزيز "السيادة" الوطنية المطلقة على حساب المؤسسات الدولية الليبرالية التي يرونها أدوات للهيمنة الغربية. ويرى بوتين وفلاسفة الكرملين أن الغرب يحاول فرض "قواعد زائفة" (Rules-Based Order)، وأن روسيا والصين ودول الجنوب تبني نظاما بديلا يقوم على العدالة والمصالح الوطنية واحترام الخصوصيات الحضارية.
2- السردية الغربية (Chatham House, RAND): الدفاع عن النظام:
في المقابل ترى المؤسسات الغربية أن 2026 هو عام الدفاع الوجودي عن "النظام القائم على القواعد" والقيم الديمقراطية ضد قوى "الاستبداد والتخريب". يركز الخطاب الغربي على مفاهيم "الترابط بين الحلفاء" (Allied Connectivity)، و"الأمن الاقتصادي"، و"الردع المتكامل".
ومع ذلك فهناك اعتراف متزايد وواقعي (يظهر بوضوح في تقارير RAND وCSIS) بأن النظام القديم لا يمكن استعادته بالكامل كما كان، وأن الغرب بحاجة لتعلم لغة "المصالح" و"الشراكات المرنة" بدلا من الاكتفاء بخطاب "القيم" لكسب عقول وقلوب دول الجنوب العالمي التي تزداد نفوذا.
الخلاصة: سيناريوهات المستقبل وإدارة التناقضات:
في ختام هذه النظرة التحليلية في الملفات المتقاطعة في توقعات وتقارير مراكز الفكر الغربية والشرقية، يتضح أن عام 2026، سيكون عاما تتجلى فيه التناقضات الكبرى: عالم أكثر ترابطا رقميا لكنه أكثر انقساما تكنولوجيا (Splinternet)، عالم يسعى للطاقة النظيفة لكنه يغرق في فائض النفط ويتقاتل بشراسة على المعادن، عالم يتحدث عن السلام في المؤتمرات لكنه يطور أسلحة نووية جديدة في الخفاء.
بناءً على ما سبق يمكن استخلاص ثلاثة سيناريوهات رئيسية متوقعة لعام 2026:
1-سيناريو "اللاحرب واللاسلم" (المرجح): استمرار تآكل المعاهدات النووية دون استخدام للسلاح النووي، ونمو اقتصادي عالمي بطيء مع انقسام حاد في سلاسل التوريد، واستمرار الصراعات الإقليمية بوتيرة منخفضة الحدة (تجميد الصراع) أو عبر وكلاء.
2- سيناريو "التصعيد الهجين" (الخطر):روسيا تنفذ هجمات تخريبية واسعة ضد البنية التحتية الغربية وأزمة في مضيق تايوان تؤدي لحصار اقتصادي، وانخفاض حاد في أسعار النفط يؤدي لاضطرابات في الدول المنتجة.
3-سيناريو "الصفقة الكبرى" (الأقل احتمالا):تحولات سياسية تؤدي لصفقات ثنائية سريعة مع روسيا لإنهاء حرب أوكرانيا، لكنها قد تزيد التوتر مع الصين.
تتحدد النظرة الاستراتيجية لعام ٢٠٢٦، بتزامن صدمات نظامية متعددة. ليس الأمر مجرد أن العالم يواجه حربا في أوروبا، أو أزمة محتملة في تايوان، أو سباق تسلح نووي، أو تحولا في الطاقة -بل إن كل هذه الديناميات تصل إلى نقاط انعطاف في وقت واحد.
ويدخل التنافس الأمريكي الصيني مرحلة من المنافسة الهيكلية الراسخة، حيث تضيق فجوة القوة، ولا يتم إدارة خطر الصراع إلا من خلال ردع هش ومكلف، بينما روسيا، التي تواجه استنفاد جيشها التقليدي والتهديد الذي يلوح في الأفق بانخفاض حاد في أسعار النفط، يجعل لديها حافزا للرد بشكل غير متماثل، مما يجعل عام ٢٠٢٦، عاما عالي المخاطر للأمن الداخلي الأوروبي، بينما المجال النووي ربما هو الأكثر هشاشة، حيث جرد النظام الدولي من آليات التحقق والتواصل التي منعت الكارثة خلال الحرب الباردة، وتسرع الصين نحو التكافؤ وتنتهي المعاهدات.
ومع ذلك يقدم عام ٢٠٢٦، أيضا لمحات لنظام جديد، تشير التقديرات إلى عزم الهند والجنوب العالمي علي التحرك ليس نحو حرب باردة ثنائية القطب بسيطة، بل نحو عالم "متعدد المراكز"، حيث تعمل القوى المتوسطة كدول مُرجحة، ويكون الحكم الاقتصادي قويا كالقوة العسكرية، وستحدد القدرة على التحكم في تقنيات "الدولة الكهربائية" للمستقبل تراتبية الأمم.
ختاما، يتطلب عام ٢٠٢٦، تحولا من إدارة الأزمات التفاعلية إلى المرونة الاستباقية، يبدو أن عصر "عائد السلام" أوشك على الانتهاء؛ وبدأ عصر المنافسة الهجينة، والمتكاملة، والمستمرة، ويظل الدرس المستفاد من استشراف 2026، هو أن "الغموض" هو الثابت الوحيد، وأن الاستراتيجيات الصلبة قد تنكسر، بينما الاستراتيجيات المرنة والتحالفات المتعددة قد تكون الأكثر نجاحا في هذا العالم "متعدد المراكز".
المصادر:
Al-Ahram Center for Political and Strategic Studies (ACPSS).(2025, December 15). Geopolitical and Geo-economic Dynamics of 2025 and Strategic Priorities for 2026 (N. Fahmy, Author).(https://english.ahram.org.eg/NewsContent/4/0/558678/Opinion//Geopolitical-and-Geoeconomic-Dynamics-of--and-Stra.aspx)
Atlantic Council.(2025, February 12). Global Foresight 2025: The Top Risks and Opportunities for 2026. Scowcroft Center for Strategy and Security. https://www.atlanticcouncil.org/programs/scowcroft-center-for-strategy-and-security/geostrategy-initiative/foresight-geostrategy-initiative-scowcroft-center/global-foresight-atlantic-council/
Africa Energy Indaba.(2025). Critical minerals & the green transition: Africa’s strategic role in powering the global clean energy future. https://africaenergyindaba.com/critical-minerals-the-green-transition-africas-strategic-role-in-powering-the-global-clean-energy-future/
African Development Bank (AfDB).(2025, November 20). Macroeconomic performance and outlook (MEO) - October 2025 update. https://www.afdb.org/sites/default/files/documents/publications/meo_2025_update_english_20nov.pdf
Bordachev, T., Timofeev, I., & Sushentsov, A.(2025, September). Doctor Chaos, or How to Stop Being Afraid and Love the Disorder. Valdai Discussion Club. https://globalaffairs.ru/articles/doktor-haos-valdai/
Cancian, M. F., Cancian, M. F., & Heginbotham, E.(2025, July 31). Lights Out? Wargaming a Chinese Blockade of Taiwan. Center for Strategic and International Studies (CSIS). https://www.csis.org/analysis/lights-out-wargaming-chinese-blockade-taiwan
Cancian, M. F., Cancian, M. F., & Heginbotham, E.(2023, January 9). The First Battle of the Next War: Wargaming a Chinese Invasion of Taiwan. Center for Strategic and International Studies (CSIS). https://www.csis.org/analysis/first-battle-next-war-wargaming-chinese-invasion-taiwan
Central Bank of Russia.(2025, December 19). Key Rate and Inflation Forecast: Medium-Term Outlook to 2026. https://www.cbr.ru/eng/press/keypr/
Center for Preventive Action.(2025, December). Conflicts to Watch in 2026Preventive Priorities Survey Results 2026. Council on Foreign Relations (CFR). https://www.cfr.org/report/conflicts-watch-2026
Chatham House.(2025, December 19). The World in 2026: Global Trends and Flashpoints. The Royal Institute of International Affairs. https://www.chathamhouse.org/publications/the-world-today/2025-12/world-2026
Chinese Academy of Social Sciences (CASS).(2025, October). Projections for the 15th Five-Year Plan (2026-2030). (Cited via Xinhua & Global Times summaries). https://english.news.cn/20251108/5d107c5e7c7b44cc96c0b7108ceb3299/c.html
China Institutes of Contemporary International Relations (CICIR).(2025). Strategic and security review 2024/2025.http://www.cicir.ac.cn/NEW/en-us/index.html
Dixon, W., & Beznosiuk, M.(2025, December 19). Russia is Losing – Time for Putin’s 2026 Hybrid Escalation. Royal United Services Institute (RUSI). https://my.rusi.org/resource/russia-is-losing-time-for-putins-2026-hybrid-escalation.html
European Council on Foreign Relations (ECFR).(2025, June 20). Preventing the Next War: A European Plan for Ukraine. https://ecfr.eu/publication/preventing-the-next-war-a-european-plan-for-ukraine/
German Marshall Fund of the United States (GMF).(2025, December 19). Shaping the next chapter of the transatlantic relationship. https://www.gmfus.org/news/shaping-next-chapter-transatlantic-relationship
Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC).(2024, September 5). FOCAC Beijing Action Plan (2025-2027). http://www.focac.org/eng/zywx_1/zywj/202409/t20240926_11497783.htm
International Energy Agency (IEA).(2025, December 11). Oil Market Report: December 2025. https://www.iea.org/reports/oil-market-report-december-2025
International Institute for Strategic Studies (IISS).(2025, February 12). The Military Balance 2025: Defence spending and procurement trends. https://www.iiss.org/publications/the-military-balance/2025/defence-spending-and-procurement-trends/
Karaganov, S.(2024, November). From Restraining to Deterring: Russia's Strategic Shift. NUCLEAR WEAPONS, GEOPOLITICS, COALITION STRATEGY, Council on Foreign and Defense Policy (SVOP). https://karaganov.ru/wp-content/uploads/2024/11/from-restraining-to-deterring-1.pdf
Lowy Institute.(2025, November 26). Asia Power Index 2025: Key Findings Report. https://power.lowyinstitute.org/downloads/lowy-institute-2025-asia-power-index-key-findings-report.pdf
MERICS.(2025). MERICS China forecast 2026 High expectations for Chinese innovation, low expectations for relations with US and EU. https://merics.org/en/comment/merics-china-forecast-2026-high-expectations-chinese-innovation-low-expectations-relations
Peterson Institute for International Economics (PIIE).(2025, October 9). PIIE Sees Global Economic Growth Slowing in 2026 Amid Policy Headwinds. https://www.piie.com/newsroom/press-releases/2025/piie-sees-global-economic-growth-slowing-2026-amid-policy-headwinds
Putin, V.(2025, October 2). The Polycentric World: Instructions for Use (Speech at Valdai Discussion Club). http://en.kremlin.ru/events/president/news/78134
Russian International Affairs Council (RIAC).(2025, November). Nuclear Doctrine and Strategic Stability: Post-New START Scenarios. https://russiancouncil.ru/en/analytics-and-comments/analytics/nuclear-doctrine-and-strategic-stability/
Stockholm International Peace Research Institute (SIPRI).(2025, June). SIPRI Yearbook 2025: Armaments, Disarmament and International Security. https://www.sipri.org/yearbook/2025
Williams, H., et al.(2025, December 3). Project Atom 2025: Escalation Management in Acute and Protracted Conflicts in the Indo-Pacific. Center for Strategic and International Studies (CSIS). https://www.csis.org/analysis/project-atom-2025-escalation-management-acute-and-protracted-conflicts-indo-pacific