المشروع التنموي الموحّد بين المؤسستين التشريعيتين في ليبيا.. الحوكمة في مرحلة الانتقال
29-12-2025

عبدالله فارس القزاز
* باحث فى الشئون الإفريقية

تُعد ليبيا منذ سقوط نظام القذافي عام 2011 نموذجًا صارخًا للتحديات التي تواجه الدول في المراحل الانتقالية، حيث امتزجت الانقسامات السياسية بالبنية المؤسسية الهشة، لتنتج مأزقًا مستدامًا في الحوكمة. إن غياب أفق زمني واضح وغياب آليات فعّالة لإدارة السلطة والموارد، جعل المرحلة الانتقالية في كثير من الأحيان إطارًا لإدامة الانقسام بدل كونه وسيلة لإعادة بناء الدولة. تعكس تجربة الانتخابات المحلية الأخيرة والانقسامات التشريعية العميقة الفجوة القائمة بين السلطة الرسمية والفاعلين غير الرسميين، وبين المستويات المحلية والمركزية في صنع القرار.

 في هذا السياق يبرز المشروع التنموي الموحّد بين المؤسستين التشريعيتين كإطار عملي يسعى إلى ربط الحوكمة بالإنجاز التنموي، عبر توحيد الإدارة المالية وتنظيم قنوات الإنفاق على المشروعات التنموية بمشاركة مصرف ليبيا المركزي كمؤسسة رقابية عليا. يشكل هذا المشروع خطوة استثنائية لإعادة بناء الثقة بين الأطراف، وربط الشرعية السياسية بالقدرة على إدارة الموارد بشكل فعال، مما يعكس إدراكًا بأن الاستقرار السياسي والاقتصادي لا يتحقق إلا عبر آليات مؤسسية واضحة وموحدة.

ويهدف هذا التحليل إلى استكشاف أبعاد مأزق الحوكمة في المرحلة الانتقالية الليبية، وتحليل مدى فعالية المشروع التنموي الموحّد كإطار عملي لإدارة المرحلة الانتقالية، مع تقييم أثره على توحيد الموارد، وتعزيز الشفافية، وربط الشرعية السياسية بالإنجاز التنموي، في ظل هشاشة المؤسسات الرسمية وتعدد مراكز السلطة، والصراع المستمر بين الأطراف المحلية والإقليمية.

أولا- مأزق الحوكمة في المرحلة الانتقالية الليبية:

لم تُدر المرحلة الانتقالية في ليبيا بوصفها مسارًا زمنيًا محددًا يقود إلى نظام سياسي مستقر، بقدر ما تحوّلت تدريجيًا إلى نمط حكم قائم بذاته أعاد إنتاج الهشاشة بدل تجاوزها. فمنذ إسقاط نظام القذافي عام 2011، دخلت البلاد في انتقال مفتوح بلا أفق زمني واضح أو تصور مؤسسي متماسك، مما جعل “المرحلة الانتقالية إطارًا دائمًا لإدارة الأزمة، لا أداة لتفكيكها. هذا الامتداد غير المنضبط أفضى إلى تآكل البنى المؤسسية وإضعاف آليات الحوكمة، حيث جرى التعامل مع المؤسسات باعتبارها كيانات مؤقتة قابلة للاستبدال أو الالتفاف، لا ركائز ثابتة للدولة.

مع تعاقب الحكومات والمبادرات السياسية دون تحقيق اختراق حقيقي، ترسّخ منطق إدارة التوازنات والصراعات بدل بناء قواعد حكم مستقرة، مما حوّل الانتقال من لحظة تأسيسية إلى حالة بنيوية أعاقت تشكّل سلطة مركزية قادرة على فرض القواعد وتنفيذ السياسات. في هذا السياق، لم يعد مأزق الحوكمة ناتجًا فقط عن الانقسام السياسي، بل عن طبيعة المرحلة الانتقالية ذاتها، التي أُفرغت من مضمونها الزمني والتحويلي وأصبحت إطارًا مرنًا لإدامة الوضع القائم.

كشف المسار الانتخابي المحلي عن مفارقة بنيوية تعكس عمق مأزق الحوكمة؛ فبينما أظهرت انتخابات المجالس البلدية قدرة نسبية على كسر الجمود السياسي وتنظيم استحقاق انتخابي في بيئة منقسمة، ظل الإطار التشريعي والسيادي عاجزًا عن ترجمة هذا النجاح الجزئي إلى مسار وطني جامع. منذ عام 2014، أفضى الانقسام بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة إلى شلل تشريعي ممتد، عطّل إقرار القواعد الدستورية والقوانين المنظمة للانتخابات الوطنية، وحوّل التشريع من وظيفة حاكمة إلى أداة صراع سياسي. وقد تجلّى هذا الخلل في تعدد القرارات الأحادية، وتنازع الاختصاصات، وظهور هيئات موازية في ملفات سيادية، بما قوض مبدأ وحدة السلطة القانونية.

رغم أن الانتخابات البلدية عكست استعدادًا مجتمعيًا للمشاركة السياسية، فإنها أبرزت الفجوة بين المستويين المحلي والمركزي؛ حيث استمر الانقسام التشريعي في إنتاج حكومات متنازعة وشرعيات متآكلة، عاجزة عن ممارسة الرقابة أو توحيد السياسات العامة أو توفير مظلة قانونية ملزمة للعملية السياسية. لم يكن تعطّل الحوكمة ناتجًا عن غياب الآليات الانتخابية بقدر ما كان نتاجًا مباشرًا لانقسام المؤسسة التشريعية، الذي أفرغ فكرة الانتقال السياسي من مضمونها الوظيفي، وأبقى الدولة أسيرة توازنات مؤقتة لا تُنتج سلطة قابلة للاستدامة.

شهدت ليبيا في نوفمبر 2024، إجراء الانتخابات البلدية في 58 بلدية للمرة الأولى منذ عشر سنوات، بمشاركة ما يقارب نحو 200 ألف ناخب في مرحلتها الأولى، مما يمثل خطوة نوعية نحو استعادة بعض شرعية المؤسسات المحلية. إلا أن هذا الاستحقاق الانتخابي أظهر التشابك المستمر بين الشرعية الرسمية والسلطة الواقعية: ففي المناطق الغربية، التي تسيطر عليها حكومة الدبيبة، حظيت الانتخابات بدعم رسمي وإعلامي واسع، بينما شهدت المناطق الشرقية التابعة لمجلس النواب والقائد خليفة حفتر مقاومة أو تجاهلا للانتخابات، مما يعكس الانقسام السياسي ومحدودية قدرة الدولة على فرض قراراتها على كامل التراب الليبي. كما أظهرت الانتخابات التنافس بين المؤسسات الموازية، إذ حاولت حكومة الدبيبة استخدام النتائج لتعزيز شرعيتها أمام خصومها، بينما اعتبر مجلس النواب وأحزاب المعارضة بعض هذه النتائج غير قانونية، مؤكدين على أن الشرعية الفعلية تعتمد على قبول الأطراف كافة وليس مجرد تصويت شعبي.

بعد عام 2011، شهدت ليبيا انهيارا تدريجيًا في بنية الدولة المركزية، ما فتح المجال لتكوّن "سلطات موازية" تتنافس على الشرعية والموارد مع المؤسسات الرسمية. في العاصمة طرابلس، تحولت التشكيلات المسلحة المحلية إلى مراكز نفوذ قائمة بذاتها، تمتلك القدرة على إدارة مناطقها وفق مصالحها الخاصة باستخدام السلاح والموارد والشرعية الميدانية، بينما ظلّ دور الحكومة محدودًا بالوجود الرمزي والتنسيق الجزئي معها. هذا الوضع أنتج بنية هجينة، حيث تتداخل مظاهر الدولة مع ممارسات القوى غير الرسمية، ليصبح التوازن بين الشرعية الرسمية والسيطرة الفعلية هشا، قائمًا على تفاهمات مؤقتة وليست مؤسساتية.

تضاعف التحدي بسبب الانقسام السياسي بين الشرق والغرب، حيث صار وجود حكومتين وبرلمانين متوازيين –مجلس النواب في طبرق والمجلس الأعلى للدولة في طرابلس- أحد أبرز مظاهر أزمة الشرعية. هذا الانقسام انعكس على المؤسسات السيادية الأخرى، مثل المصرف المركزي الذي تشكّلت له إدارتان متنافستان، والمؤسسة الوطنية للنفط التي تعرضت لتسييس متكرر رغم حفاظها على حياد نسبي. أسفر هذا الواقع عن ضعف الثقة العامة، وتشتت الموارد، وتعطّل القدرة على الإصلاح الهيكلي، فضلا عن انتشار المحسوبية والفساد نتيجة غياب آليات فعالة للمساءلة.

أدى هذا التوازي بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية إلى إعادة إنتاج الفوضى بشكل مستمر، إذ أصبح الفاعلون المحليون يستخدمون ضعف الدولة كغطاء لتكريس مواقعهم، بينما تحولت كل محاولة للتسوية إلى أداة تفاوض في صراع القوى. ومع فشل مسارات التوحيد، سواء عبر لجنة 5+5 العسكرية أو جهود المبعوث الأممي عبدالله باتيليى، تبيّن أن جذور الأزمة ليست في القوانين أو الاتفاقات، بل في البنية المادية للسلطة نفسها، التي أنتجت شرعيات متعددة تتغذى على ضعف الدولة المركزية.

يمكن استنتاج أن أزمة الشرعية في ليبيا هي نتاج مزدوج: ضعف المؤسسات الرسمية وتوسع نفوذ الفاعلين غير الرسميين الذين أعادوا إنتاج الفوضى وتجزئة السلطة. وهذا يجعل أي محاولة لحوكمة البلاد رهينة بقدرة الدولة على إدارة التداخل بين الشرعيات المتعددة وإيجاد آليات لتقنين السلطة، وهو ما يضع سياقًا ضروريا لفهم التحولات اللاحقة في مسار التنمية والسيطرة على الموارد كمحرك سياسي.

في ظل الانقسام المؤسسي وتعدد مراكز القرار، تحوّلت الموارد والمشروعات التنموية في ليبيا من أدوات لبناء الدولة إلى أدوات للتنافس السياسي، مما عرّضها للتسييس واستغلالها لتحقيق مكاسب مناطقية أو حزبية. فقد أظهرت التجربة بعد 2011، أن أي مشروع تنموي يُدار من قبل جهة معينة دون إطار وطني شامل يصبح عرضة للانتهاز من قبل الفاعلين المحليين أو القوى المسلحة، التي تستخدمه كوسيلة لتعزيز نفوذها أو كغطاء لتكريس السيطرة على مناطق معينة.

إن تعقيدات المرحلة الانتقالية في ليبيا واستمرار الصراعات الرمادية بين المؤسسات السياسية، يبرز بوضوح أن الحلول الأمنية أو السياسية وحدها لن تكون كافية لتحقيق الاستقرار. فغياب آليات واضحة لإدارة الموارد وتنسيق السياسات بين الأطراف المختلفة يجعل كل مرحلة انتقالية عرضة للفشل وإعادة إنتاج الانقسام المؤسسي. ومن هنا تأتي أهمية الانتقال من منطق الصراع على السلطة إلى منطق إدارة الدولة بشكل عملي، حيث يصبح الربط بين الحوكمة السياسية والقدرة على تنفيذ برامج تنموية موحدة ضرورة حتمية.

 هذا الواقع يمهد الطريق لإطار عملي وحقيقي مثل المشروع التنموي الموحّد بين المؤسستين التشريعيتين، الذي تم توقيعه في نوفمبر 2025، ويسعى إلى توحيد الإدارة المالية وتنظيم قنوات الإنفاق على المشروعات التنموية، مع إشراك مصرف ليبيا المركزي كمؤسسة رقابية عليا لضمان الشفافية والمساءلة. يوفر هذا المشروع أداة ملموسة لتقليص الانقسام المالي والإقليمي، وربط الشرعية السياسية بالإنجاز الاقتصادي، وبناء الثقة بين الأطراف، ليكون خطوة أساسية نحو استعادة استقرار الدولة، وتحويل الموارد والمشروعات التنموية من أدوات للصراع إلى أدوات لتعزيز الحكم الرشيد والتنمية الشاملة خلال المرحلة الانتقالية.

ثانيا- المشروع التنموي الموحّد كإطار حاكم لإدارة المرحلة الانتقالية:

في 18 نوفمبر 2025، تم توقيع اتفاق البرنامج التنموي الموحّد بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة في طرابلس، بمشاركة مصرف ليبيا المركزي كمؤسسة رقابية عليا. جاء هذا الاتفاق في ظل تراكم أزمات طويلة على صعيد الحوكمة الاقتصادية والمالية، إذ عانت ليبيا لعقد كامل من عدم اعتماد ميزانية موحّدة نتيجة الانقسام بين حكومتي الشرق والغرب، مما أضعف قدرة الدولة على التخطيط الاقتصادي والتنمية الاجتماعية. وقد أكدت مصادر دولية أن الاتفاق يوفر "إطارًا واضحًا لتوحيد قنوات الإنفاق وتخصيص الأموال للمشروعات التنموية"، كخطوة لحماية الاقتصاد الكلي من أزمات أعظم.

يعكس توقيع الاتفاق إدراك الأطراف التشريعية أن الانقسام السياسي لا يمكن تجاوزه دون ربطه بمصالح اقتصادية عملية، وأن توحيد الإدارة المالية قد يهيئ أرضية سياسية أوسع للتقارب، بما يوفر إطارًا عمليًا للتعاون بين المؤسستين التشريعيتين. كما يشير دور مصرف ليبيا المركزي إلى أهمية إشراك المؤسسات المالية الوطنية كضامن للاتفاق، كخطوة وطنية نحو تعزيز الاستقرار المالي وتوحيد جهود التنمية في جميع المناطق الليبية.

يعتمد المشروع على بنية مؤسساتية تهدف إلى توحيد قنوات الإنفاق والصرف على المشروعات التنموية بعد سنوات من التشتت المالي، مع إشراك مصرف ليبيا المركزي كمؤسسة تنفيذية وضامنة للاتفاق، مما يعزز آليات الرقابة المالية ويضع قواعد ثابتة لإدارة الموارد عبر الجهات الرسمية. يفتح الاتفاق مسارات تنسيقية بين السلطتين التشريعيتين لإقرار ومراجعة أولويات الصرف العام المتعلقة بالتنمية، وهو ما يمكّن المؤسسات من استعادة بعض الانسجام المالي المفقود خلال سنوات الانقسام. ورغم ذلك يظل الاتفاق إطارًا مبدئيًا أكثر منه خطة تفصيلية، مما يستدعي تطوير لوائح تنفيذية وأطر قانونية ثانوية تحدد الصلاحيات والمسار الزمني للتطبيق الفعلي.

يمثل الاتفاق محاولة لإعادة تنظيم إدارة الموارد العامة وتقليص منطق الانقسام الإقليمي والمناطقية، عبر توجيه الموارد النفطية نحو مشروعات تنموية معتمدة من الدولة بدلا من إدارتها بشكل منفصل، مما يسمح بإعادة توزيع موازنات التنمية وفق أولويات مجتمعية واضحة. كما يوفر هذا الإطار المالي الموحد فرصة لمواجهة الإنفاق الموازي غير الرسمي الذي أضعف الإدارة المالية والسياسات الاقتصادية على مدار السنوات الماضية.

سياسيًا يعكس المشروع انتقالًا نوعيًا من حلول سطحية لتسوية الصراع السياسي إلى تركيب مؤسسي وظيفي يربط بين الحوكمة والتنمية، إذ يربط بين الموارد، والسلطة، والشرعية، ويعمل على تعزيز مفهوم الدولة الموحدة بدل استمرار "السلطتين المتوازيتين". كما يُنظر إليه كـ "جسر لبناء الثقة المؤسسية بين الأطراف"، ويُظهر إدراكًا بأن الاستقرار الوطني لا يمكن أن يتحقق إلا عبر ربط السلطة بالإنجاز الوظيفي وتنظيم الموارد بشكل فعّال.

يمثل الاتفاق خطوة استراتيجية نحو الحد من الانقسام الإقليمي بين شرق وغرب ليبيا، إذ يربط الموارد المالية مباشرة بالمشروعات التنموية ويقلل من فرص الاستحواذ الجزئي على الموارد. هذا التحول يقلص منطق التنافس الإقليمي ويخلق مساحات للتعاون بين المؤسسات التشريعية والمجتمعية، مما يعزز من فرص استقرار الوضع الداخلي ويُظهر قدرة الدولة على إدارة مواردها بشكل موحد.

من منظور اقتصادي يسهم الاتفاق في تحسين إدارة الإيرادات النفطية، التي تشكل المصدر الأساسي لميزانية الدولة. وتوحيد قنوات الإنفاق ومراقبة المصرف المركزي يعني تقليص الإنفاق الموازى وتحسين كفاءة تخصيص الموارد نحو مشروعات تنموية ذات أثر اجتماعي واقتصادي مباشر. كما يسهم ذلك في تعزيز الثقة بين المستثمرين المحليين والدوليين، ويشكل بيئة أكثر استقرارًا للتخطيط المالي طويل الأجل.

يمثل المشروع خطوة نحو بناء مؤسسات دولة قادرة على إدارة التنمية والموارد المالية بفعالية وشفافية. من خلال وضع قواعد وآليات تنفيذية واضحة ومراجعة أولويات الصرف العام، يتيح الاتفاق إمكانية تطوير سياسات مالية مستدامة تقلل من الفساد وتضمن المساءلة والمراجعة الدورية. كما يشكل هذا الإطار فرصة لتحويل النزاعات السياسية إلى حوارات مؤسسية قائمة على المصالح الوطنية المشتركة، مما يعزز مفهوم الدولة الموحدة ويعيد بناء الثقة بين الأطراف.

على الرغم من أهميته الرمزية والعملية، تظل قدرة المشروع على إعادة بناء الحوكمة الوطنية محدودة بعوامل عدة، منها غياب إرادة سياسية جامعة، وتضارب المصالح الاقتصادية المتداخلة، والحساسيات الإقليمية في توزيع الموارد، إلى جانب تأثيرات الضغوط الدولية على مسارات الإنفاق والتنمية. ومع ذلك يوفر المشروع فرصة لإعادة بناء الحوكمة من خلال دمج الإنفاق التنموي ضمن إطار مؤسسي موحد، ودعم الشفافية والرقابة المالية، والتحول من إدارة الأزمة إلى إدارة التنمية كجسر للمصالحة الوطنية. وفي حال توفر الإرادة السياسية والتقيد بالآليات التنفيذية، يمكن أن يشكل المشروع مرتكزًا لإعادة الاستقرار الشامل في ليبيا بعد سنوات طويلة من الانقسام والهيمنة الجزئية على الموارد.

على الرغم من الأهمية السياسية والاقتصادية للمشروع التنموي الموحّد، فإن قدرته على إحداث تحول بنيوي في مسار الحوكمة الليبية تظل محدودة بعدة اعتبارات. فالمشروع، في جوهره، يعالج أحد أعراض الأزمة وهو الانقسام المالي وتشتت الإنفاق دون أن يمس بشكل مباشر البنية المادية للسلطة، القائمة على تعدد مراكز القرار واحتكار الفاعلين غير الرسميين لأدوات القوة. وفي ظل استمرار هذا الواقع، يظل خطر إعادة تسييس المشروعات التنموية قائمًا، سواء عبر تعطيل التنفيذ، أو توجيه الموارد لخدمة توازنات محلية ومناطقية، أو استخدام المشروع كورقة تفاوض في الصراع السياسي.

كما أن غياب إطار زمني ملزم وآليات إنفاذ واضحة يمنح الفاعلين السياسيين هامشًا واسعًا للمناورة، مما قد يحول المشروع إلى ترتيب مؤقت مرتبط بميزان القوى القائم، لا إلى مسار مؤسسي مستدام. ويزداد هذا التحدي تعقيدًا في ظل استمرار نفوذ التشكيلات المسلحة، التي قد تسعى إلى فرض نفسها كوسيط فعلي في تنفيذ المشروعات داخل مناطق سيطرتها، بما يفرغ مبدأ الحوكمة الموحدة من مضمونه العملي.

من هنا يمكن القول إن المشروع التنموي الموحّد لا يشكّل حلًا شاملًا لأزمة الحوكمة، بقدر ما يمثل اختبارًا عمليًا لإمكانية الانتقال من منطق تقاسم السلطة إلى منطق إدارة الدولة. فإما أن يتحول إلى مدخل تدريجي لإعادة ضبط العلاقة بين الموارد، والشرعية، والمؤسسات، أو يُعاد احتواؤه ضمن ديناميات الانقسام ذاتها، ليصبح جزءًا من الأزمة بدل أن يكون خطوة نحو تجاوزها، ولا يمكن تقييم جدوى المشروع التنموي الموحّد بمعزل عن سؤال السيطرة الفعلية على أدوات التنفيذ على الأرض، إذ تظل الفجوة قائمة بين توحيد القواعد المالية وتوحيد مراكز القرار القادرة على فرضها. كما أن نجاح هذا الإطار يظل مشروطًا بقدرته على التحول من ترتيب توافقي هش إلى سياسة عامة قابلة للإنفاذ، بما يعيد تعريف العلاقة بين الموارد والشرعية والمؤسسة في السياق الليبي.

ختاما:

تُظهر التجربة الليبية أن أزمة الحوكمة في المرحلة الانتقالية ليست مجرد نتيجة للانقسامات السياسية، بل نتاج هيكل السلطة نفسه الذي أنتج شرعيات متعددة متداخلة وأضعف قدرة الدولة على فرض سيادتها وتنظيم مواردها. لقد كشف المشروع التنموي الموحّد عن إمكانية تحويل النزاعات المالية والسياسية إلى آليات مؤسساتية عملية، تربط بين السلطة والإنجاز، وتوفر إطارًا لتوحيد الإدارة المالية وتحسين الشفافية والمساءلة.

ومع ذلك فإن نجاح هذا المشروع يظل رهينًا بالإرادة السياسية الجامعة، واستمرارية الالتزام بالآليات التنفيذية، والقدرة على معالجة تضارب المصالح الاقتصادية والإقليمية، فضلًا عن إشراك المجتمع المدني والجهات الرقابية لضمان فعالية التنفيذ. كما يؤكد الواقع الليبي أن أي محاولة لإدارة التنمية والموارد بدون إطار مؤسسي موحد ستظل عرضة للتفكك والاستغلال من قبل الفاعلين المحليين. في النهاية يبقى السؤال المحوري: هل يمكن لليبيا أن تحول مواردها ومشروعاتها التنموية من أدوات للصراع إلى أدوات لتعزيز الحكم الرشيد والاستقرار الوطني؟

المصادر:

1- عبدالله فارس القزاز، تحت ضغط الانقسام.. حدود استقرار العاصمة الليبية في ظل تعدد مراكز القوى، مجلة السياسة الدولية، 27 أكتوبر 2025. https://2h.ae/SISrS

2-د. سحر حسن أحمد، ليبيا في مفترق الطرق.. من سقوط القذافي إلى رهانات المستقبل 2011-2025، مركز آتون للدراسات، 26 سبتمبر 2025.https://2h.ae/EuuhA

3- بلال عبدالله،https://2h.ae/KTdgW

4- تفاؤل حذر:هل تشكل الانتخابات المحلية فرصة لحلحلة المسار الليبي؟، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 12 ديسمبر 2024.https://2h.ae/mdeXL

5- شراكة اضطرارية:هل يمهد الاتفاق التنموي الموحد لإنهاء الانقسام الليبي؟، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 27 نوفمبر 2025.https://2h.ae/ySyjh

6- سارة النيادي، دلالات الانتخابات البلدية وانعكاساتها على مسار الأزمة الليبية، مركز تريندز للبحوث والاستشارات، 24 نوفمبر 2024. https://2h.ae/KOVql


رابط دائم: