مصر والسودان.. "الخطوط الحمراء" بين ردع الفوضى وتفادي الانزلاق
19-12-2025

د. محمد إبراهيم حسن فرج
* دكتوراه العلوم السياسية- كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،جامعة القاهرة

في لحظةٍ يزداد فيها السودان هشاشةً وتتعاظم فيها احتمالات التفتت، يأتي التحذير المصري من تجاوز "الخطوط الحمراء" بوصفه رسالة سياسية محسوبة أكثر من كونه عبارة إنشائية. فالقاهرة لا تتعامل مع السودان باعتباره جارًا يمكن مراقبة أزمته من بعيد، بل باعتباره عمقًا أمنيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وأي تحوّل جذري في بنيته سينعكس مباشرةً على حدود مصر وأمنها الداخلي واستقرار الإقليم.

المقصود بالخطوط الحمراء هنا ليس مجرد رفضٍ لفظي لمسارات التفكيك، بل الإشارة إلى أن هناك حدودًا تتعلق بوحدة الدولة السودانية ومؤسساتها ومواردها لا يمكن القفز فوقها دون أن يصبح ذلك تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري. ومع طول أمد الحرب وتحوّلها تدريجيًا إلى اقتصاد حرب وشبكات نفوذ ومصالح متصارعة، فإن خطر "الكيانات الموازية" لا يعود خطرًا نظريًا؛ بل يصبح احتمالًا واقعيًا كلما طال الزمن وضعفت المؤسسات الرسمية وتعمّقت الانقسامات المحلية، وكلما زادت القوى الخارجية التي ترى في الفوضى فرصة لإعادة تشكيل الخرائط أو موازين النفوذ.

لكن قوة الرسالة لا تُقاس بحدة العبارة، بل بقدرة السياسة على ترجمتها دون الانزلاق إلى تصعيد يضيف طبقة جديدة من الصراع. الخط الأحمر حين يُفهم على أنه تمهيد لتدخل عسكري مباشر، قد يدفع أطراف الحرب إلى رفع سقف الرهانات واعتبار المعركة “وجودية”، وقد يستدعي اصطفافات إقليمية مضادة تُوسع ساحة النار بدل احتوائها. أما حين يُفهم باعتباره ردعًا سياسيًا مدعومًا بأدوات واقعية، يصبح جزءًا من استراتيجية تهدف إلى منع التقسيم ومنع شرعنة أي واقع قسري جديد، مع إبقاء باب التسوية مفتوحًا.

من منظور المصلحة المصرية، تتقاطع أزمة السودان مع ثلاث كلف مباشرة لا يمكن تجاهلها. أولها كلفة الحدود: فامتداد الحدود وطبيعة الجغرافيا، مع انهيار سلطة الدولة في مناطق واسعة، يزيد من مخاطر التهريب وتسلل السلاح ونشاط الجريمة المنظمة وربما تحرك جماعات مسلحة. ثانيها كلفة النزوح: موجات النزوح الكبيرة تضغط على الاقتصاد والخدمات وتخلق تحديات اجتماعية وأمنية وسياسية داخلية، وهي تحديات تتفاقم كلما طال أمد الصراع وازدادت قسوته. وثالثها كلفة الفراغ الجيوسياسي: حين تضعف الدولة، يتسابق الفاعلون الخارجيون لملء الفراغ، فتتحول الأزمة من حرب داخلية إلى صراع بالوكالة، ما يجعل أي تسوية أصعب وأعلى كلفة.

في هذا السياق، لا يجب أن تتحول فكرة "حماية مؤسسات الدولة" إلى دعم غير مشروط لأي طرف يرفع شعار الدولة. الحروب الأهلية لا تُدار بالنوايا بل بالنتائج، والمدنيون هم أول من يدفع الثمن حين يصبح الهدف هو الانتصار العسكري بأي كلفة، وحين تختلط الشرعية بالقدرة على السيطرة. لذا توازن القاهرة بين رفض التفكك وبين إدراك أن السودان لا يُختزل في طرفين مسلحين؛ فهناك قوى مدنية وإدارات أهلية وفاعلون محليون وشبكات مصالح، وأي حل يتجاهل هذا التعقيد سينتهي إلى "سلام ورقي" سرعان ما يتفجر.

فالأكثر واقعية هو تحويل "الخط الأحمر" إلى نهج متعدد الأدوات: تأمين حدودي مكثف وتنسيق استخباري وتجفيف مسارات السلاح والتهريب، مع رسائل ردع دقيقة بأن أي اقتراب مهدِّد من الحدود سيقابَل بإجراءات محسوبة. بالتوازي، دفع مسار سياسي لا يكتفي بمخاطبة طرفين، بل يوسع قاعدة التفاوض ويضع شروطًا عملية لوقف إطلاق النار يمكن التحقق منها، ويمنع في الوقت نفسه تكريس كيانات موازية أو مسارات تقسيم تحت أي مسمى. ثم يأتي المسار الإنساني بوصفه شرطًا سياسيًا لا بندًا أخلاقيًا: ممرات آمنة، وتسهيل وصول المساعدات، وضمانات لحماية المدنيين، لأن انهيار الجانب الإنساني يحول المجتمع إلى وقود دائم للحرب ويُعمّق منطق الانتقام والتمزق.

في النهاية، تتحدد فعالية التحذير المصري بإدارته كاستراتيجية ردع-تفاوض: ردعٌ يمنع التفتت ويحمي الحدود دون فتح جبهة جديدة، وتفاوضٌ يوسع قاعدة الحل ولا يرهن السودان لمعادلة القوة وحدها، ومسارٌ إنساني يوقف نزيف المجتمع ويمنع تحويل الأزمة إلى كارثة ممتدة بلا سقف. السودان ليس جارًا فقط؛ هو مرآة لاستقرار الإقليم، وحين تتشقق المرآة يجب أن تحدد "خطًا أحمر" وترسم طريقًا يمنع كسره دون أن يكسر المنطقة معه.


رابط دائم: