الهندسة الجيوسياسية الإسرائيلية في الشرق الأوسط.. التدخل كأداة لبناء النفوذ الإقليمي
16-12-2025

د. محمد إبراهيم حسن فرج
* دكتوراه العلوم السياسية- كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،جامعة القاهرة

يُعدّ الشرق الأوسط منذ منتصف القرن العشرين ساحة محورية للصراع الدولي والإقليمي، بفعل موقعه الجغرافي وثرواته الطبيعية وتشابك هوياته السياسية والثقافية. وفي قلب هذا المشهد برزت إسرائيل بوصفها فاعلًا يسعى إلى تجاوز منطق "الدولة المحاطة بالتهديدات" إلى مشروع أكثر طموحًا يتمثل في الهندسة الجيوسياسية؛ أي إعادة تصميم البيئة الإقليمية بما يضمن تفوقها الاستراتيجي واستدامة نفوذها.

الهندسة الجيوسياسية تتجاوز الجغرافيا السياسية التقليدية التي تركز على تحليل المواقع والموارد، لتصبح عملية واعية لإعادة تشكيل الفضاء السياسي والجغرافي عبر مزيج من أدوات القوة الصلبة والناعمة. وبالنسبة لإسرائيل، فإن هذا المفهوم يعني تحويل التحديات الأمنية إلى فرص للتمكين، وذلك من خلال الردع العسكري، التحالفات الإقليمية والدولية، الاختراق التكنولوجي، والانفتاح الاقتصادي والثقافي. لكنها، في الوقت نفسه، تعكس نزعة إقصائية تسعى لتهميش الخصوم وإعادة توزيع النفوذ على نحو يُقصي الفاعلين المناهضين لها مثل إيران وحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية.

ويمكن القول إن إسرائيل نجحت في تحقيق اختراقات ملموسة على المدى القصير، مثل توسيع شبكة تحالفاتها وتعزيز مكانتها في خرائط الطاقة والتكنولوجيا. غير أن هذه النجاحات تصطدم بحدود بنيوية تتعلق باستمرار الصراع الفلسطيني، هشاشة التحالفات، والتنافس مع قوى إقليمية ودولية صاعدة. فالهندسة الجيوسياسية الإسرائيلية تُنتج مكاسب مرحلية، لكنها تُبقي جذور الصراع مفتوحة وتُغذّي دوائر جديدة من التوتر[1].

بناءً على ذلك، تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك محددات وأدوات الاستراتيجية الإسرائيلية في الشرق الأوسط، وقراءة انعكاساتها وتحدياتها، من خلال ربط النظرية الجيوسياسية بالتطبيق العملي. وتركّز على الإجابة عن أسئلة جوهرية: ما هي دوافع إسرائيل لاعتماد هذا النهج؟ كيف توظف القوة الصلبة والناعمة معًا؟ وما مدى قدرتها على الاستمرار في إعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية في ظل بيئة مضطربة ومتحوّلة؟

مدخل نظري..الشرق الأوسط كساحة للهندسة الجيوسياسية وصراع الإرادات:

يتميّز الشرق الأوسط بكونه أحد أكثر الأقاليم حساسية في العالم، حيث تتشابك فيه الجغرافيا مع التاريخ، والموارد مع الأيديولوجيا، ليشكّل فضاءً دائمًا للصراع على النفوذ. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كان هذا الإقليم مسرحًا لمشروعات كبرى لإعادة الترتيب السياسي والجغرافي، بدءًا من مشاريع الهيمنة الاستعمارية مرورًا بالحرب الباردة وصولًا إلى محاولات القوى الإقليمية إعادة تشكيله بما يخدم مصالحها. هذا الواقع جعل المنطقة نموذجًا مثاليًا لتجسيد مفهوم الهندسة الجيوسياسية، الذي يقوم على إعادة تصميم البيئة الإقليمية بشكل واعٍ ومقصود عبر توظيف أدوات القوة المختلفة.

فالشرق الأوسط لا يُختزل فقط في موقعه الجغرافي الفريد الذي يربط بين آسيا وإفريقيا وأوروبا، بل أيضًا في تحكمه في ممرات حيوية مثل قناة السويس، مضيق هرمز، باب المندب وشرق المتوسط. وإلى جانب ذلك، يحتضن أكبر احتياطات للطاقة عالميًا، ويحتوي على تنوع ديني–ثقافي يجعله ساحة قابلة للاشتعال في أي لحظة. هذه الخصائص الاستراتيجية جعلت المنطقة هدفًا دائمًا لتدخلات القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا، وصعود لاعبين جدد كالصين. لكنها أيضًا وفّرت أرضية خصبة لمشاريع إقليمية مضادة، حيث ترى إيران وتركيا وإسرائيل أن الشرق الأوسط هو مجالها الحيوي المباشر الذي يتحدد فيه مستقبل قوتها ومكانتها.

وفي هذا الإطار، برزت إسرائيل كلاعب يسعى إلى إعادة صياغة المشهد الإقليمي لا باعتباره مجرد بيئة صعبة يتعيّن التكيف معها، بل كساحة قابلة للهندسة وإعادة التصميم. فهي ترى أن بقاءها لا يتحقق فقط عبر التفوق العسكري، بل من خلال تحويل التوازنات السياسية والجغرافية لصالحها. لذلك وظّفت مزيجًا من القوة الصلبة والناعمة: الردع العسكري، التفوق التكنولوجي، الدبلوماسية النشطة، الانفتاح الاقتصادي، وحتى الاختراق الثقافي والإعلامي[2].

غير أن الشرق الأوسط أيضًا ساحة لصراع إرادات متناقضة: فبينما تعمل إسرائيل على تكريس مشروعها للهندسة الجيوسياسية، تواجه مشروعات أخرى لا تقل طموحًا مثل النفوذ الإيراني الممتد عبر "محور المقاومة"، أو الطموحات التركية العائدة إلى المجال العثماني، أو حتى السياسات الخليجية الساعية لإعادة التموضع في خريطة القوى. هذه التعددية تجعل أي محاولة لإعادة تشكيل المنطقة محفوفة بالمخاطر، وتضع إسرائيل في مواجهة مع تحديات دائمة: فكلما تقدمت خطوة في هندسة البيئة الإقليمية، وجدت نفسها مضطرة لمواجهة تداعيات غير محسوبة.

وبذلك، يمكن القول إن الشرق الأوسط يشكّل مختبرًا دائمًا لصراع مشاريع الهندسة الجيوسياسية، حيث لا تقتصر المسألة على توازنات عسكرية أو اقتصادية، بل تتعلق بالقدرة على صياغة "تصميم جديد" للمنطقة. وفي هذا المختبر، تحاول إسرائيل أن تُثبت أنها ليست مجرد دولة صغيرة محاطة بالتحديات، بل مركز إقليمي يسعى إلى التحكم في معادلات القوة وإعادة توزيع النفوذ وفق منطق يخدم أمنها القومي واستراتيجيتها بعيدة المدى.

الإطار المفاهيمي للهندسة الجيوسياسية.. جدليات الفكرة وتطبيقاتها الإسرائيلية:

يُعد مفهوم الهندسة الجيوسياسية من المفاهيم الحديثة في حقل العلاقات الدولية والجغرافيا السياسية، إذ يشير إلى قدرة الدولة على إعادة ترتيب بيئتها السياسية والجغرافية بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، وذلك عبر حزمة من الأدوات المتنوعة التي تشمل القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية، إلى جانب أدوات القوة الناعمة مثل الدبلوماسية، الإعلام، التعليم، الثقافة، والتكنولوجيا. هذا المفهوم لا يقتصر على إدارة المكان، بل يتجاوزه إلى إعادة تصميم المجال السياسي والإقليمي بصورة نشطة ومتعمدة.

ويعود أصل المفهوم إلى الجغرافيا السياسية الكلاسيكية؛ حيث شدّد فريدريش راتزل على دور الأرض والموارد باعتبارها محددات جوهرية للقوة الوطنية، بينما ركّز هالفورد ماكيندر على مركزية السيطرة على "قلب العالم" كشرط لتحقيق الهيمنة العالمية. غير أن التطورات التي شهدها النظام الدولي في القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، أظهرت أن الاعتماد على القوة الصلبة وحدها لم يعد كافيًا لتأمين المصالح أو ضمان التفوق، ما أدى إلى إدماج البُعد الناعم في النظرية والممارسة. ومن هنا توسّع المفهوم ليشمل أدوات التأثير غير العسكري القادرة على إعادة تشكيل التصورات والسلوكيات، وإعادة توجيه موازين القوى من دون انخراط مباشر في الحروب التقليدية[3].

إن الجمع بين القوتين الصلبة والناعمة يضفي على الهندسة الجيوسياسية طابعًا مركّبًا، حيث يسمح للدولة بأن تُحدث تحولات هيكلية في بيئتها الإقليمية، مع تقليل الكلفة العسكرية والسياسية. ويُعد هذا المزيج أكثر فعالية في إدارة الأزمات المعاصرة، لأنه يسمح بإعادة هندسة العلاقات الإقليمية بطريقة تُقدَّم كخيار "عملي" و"مقبول دولياً"، في حين تمثل في واقعها آلية لإدامة السيطرة وإعادة إنتاج النفوذ غير المتكافئ.

تُعتبر إسرائيل حالة نموذجية لتجسيد هذا المفهوم في التطبيق العملي، إذ وظفت الهندسة الجيوسياسية عبر أدوات متعددة متكاملة: من الردع العسكري والسيطرة على النقاط الاستراتيجية (فلسطين، الجولان، جنوب لبنان)، إلى بناء تحالفات إقليمية ودولية قائمة على المصالح الأمنية والاقتصادية، مرورًا بتوظيف التكنولوجيا المتقدمة في الأمن السيبراني والزراعة والمياه، وصولًا إلى القوة الناعمة المتمثلة في الإعلام، الابتكار، الثقافة، والدبلوماسية العامة. هذه المقاربة سمحت لإسرائيل بإعادة تشكيل بيئتها الإقليمية، وتحويل موقعها من كيان محاط بالتهديدات إلى فاعل يسعى لفرض قواعد جديدة للعبة الإقليمية[4].

من خلال هذا الإطار المفاهيمي، يمكن القول إن الهندسة الجيوسياسية الإسرائيلية تكشف عن آلية معقّدة لإعادة توزيع القوة وصياغة التوازنات، بما يجعل من الضروري تحليلها ليس فقط من زاوية الفاعلية العسكرية، وإنما أيضًا من زاوية المفارقات البنيوية التي قد تحدّ من استدامتها، خصوصًا في ظل استمرار بؤر الصراع وانكشاف حدود الدمج بين القوة الصلبة والناعمة.

محددات الاستراتيجية الإسرائيلية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط:

تستند الاستراتيجية الإسرائيلية في إعادة تشكيل الشرق الأوسط إلى مجموعة من المحددات البنيوية والسياسية والأمنية التي تعكس إدراك تل أبيب لطبيعة التهديدات والفرص في محيطها الإقليمي. أول هذه المحددات هو الهاجس الأمني المرتبط بتاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي، إذ ترى إسرائيل أن بقاءها مرهون بقدرتها على الحفاظ على تفوق عسكري نوعي، يردع خصومها ويحول دون أي تهديد وجودي محتمل. لذلك شكّل الأمن حجر الزاوية في رؤيتها الجيوسياسية، ودفعها إلى التدخل المباشر أو غير المباشر في الأزمات الإقليمية، سواء في لبنان أو سوريا أو غزة، لتأمين حدودها ومنع أي قوة معادية من التمركز بالقرب منها.

أما المحدد الثاني فيتمثل في الاعتبارات الجيوسياسية المرتبطة بالمكان. فالموقع الجغرافي لإسرائيل، بين المشرق العربي وشرق المتوسط، جعلها تسعى للسيطرة على نقاط استراتيجية مثل الجولان وشرق المتوسط الغني بالغاز، بما يضمن لها مجالًا حيويًا أوسع من حدودها الضيقة. كما تعمل على ربط نفسها بالبيئة الإقليمية الأوسع عبر اتفاقيات سلام وتطبيع، لتُحيل محيطها من بيئة تهديد إلى فضاء فرص اقتصادية وأمنية.

ويأتي المحدد الثالث من التحولات الدولية والإقليمية التي فتحت لإسرائيل مساحات جديدة للمناورة. فالانسحاب الأمريكي التدريجي من الشرق الأوسط خلق فراغًا استراتيجيًا حاولت تل أبيب ملأه عبر تعميق تحالفاتها مع واشنطن من جهة، وبناء شراكات أمنية مع قوى صاعدة كاليونان والهند والإمارات من جهة أخرى. وفي المقابل، مثّل الصعود الإيراني وتنامي النفوذ التركي محفزًا لإسرائيل لتطوير استراتيجيات مضادة، تستند إلى سياسة الاحتواء والتطويق.

ولا يمكن إغفال المحدد الرابع وهو العامل الاقتصادي–التكنولوجي.فإسرائيل تدرك أن قوتها الناعمة في مجال التكنولوجيا والابتكار تمنحها أداة تأثير تتجاوز حدودها، وتجعلها شريكًا مرغوبًا فيه لدى العديد من الفاعلين الدوليين والإقليميين. من هنا، تسعى إلى دمج الاقتصاد بالتكنولوجيا كمدخل لإعادة صياغة تحالفات إقليمية جديدة، يكون فيها الاعتماد المتبادل الاقتصادي وسيلة لضمان الاستقرار الأمني.

إن هذه المحددات، حين تُجمع، تبرز أن الاستراتيجية الإسرائيلية لا تقوم فقط على الحفاظ على الوضع القائم، بل تهدف إلى إعادة تصميم البيئة الإقليمية بشكل يمنحها موقعًا قياديًا في التوازنات الشرق أوسطية. غير أن هذا الطموح يصطدم بمحدودية الموارد البشرية والجغرافية، ما يجعل من مشروعها الجيوسياسي رهانًا محفوفًا بالمخاطر، ويكشف الطابع الإشكالي لسياساتها التي تجمع بين السعي للهيمنة والبحث عن الشرعية الإقليمية[5].

أدوات النفوذ الإسرائيلي.. من الردع العسكري إلى القوة الناعمة الذكية:

تُدرك إسرائيل أن مجرد امتلاك محددات استراتيجية لا يكفي لبناء نفوذ إقليمي مستدام، لذلك طوّرت عبر عقود منظومة أدوات مركبة تجمع بين القوة الصلبة والقوة الناعمة في إطار ما يُعرف اليوم بـ “القوة الذكية". ويُظهر تحليل أدواتها أن تل أبيب لم تعد تعتمد فقط على الردع العسكري، بل تبنّت حزمة من الآليات المتداخلة التي تمنحها قدرة على إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية دون الانخراط في حروب شاملة.

أول هذه الأدوات هو الردع العسكري. فقد حافظت إسرائيل على تفوق عسكري نوعي، سواء عبر القدرات التقليدية المتطورة أو عبر تفوقها النووي غير المعلن. هذا الردع لم يكن هدفه خوض الحرب بقدر ما كان يهدف إلى منعها، أي إلى تكريس صورة إسرائيل كقوة لا يمكن تحديها دون تكلفة باهظة. وقد انعكس ذلك في سياسات الضربات الاستباقية في سوريا ولبنان، وفي استراتيجية "المعركة بين الحروب" التي تهدف إلى استنزاف الخصوم دون الدخول في مواجهة مباشرة.

ثانيًا، اعتمدت إسرائيل على الأداة التكنولوجية–الأمنية، حيث تحوّلت إلى مركز عالمي في مجالات الأمن السيبراني، والطائرات المسيّرة، وأنظمة الدفاع الصاروخي مثل "القبة الحديدية". هذه التقنيات لا تُستخدم فقط عسكريًا، بل تُباع لشركاء إقليميين ودوليين، ما يمنح إسرائيل قدرة على بناء شبكات مصالح عابرة للحدود تعزز من شرعيتها الإقليمية.

أما الأداة الثالثة فتتمثل في القوة الناعمة، إذ عملت إسرائيل على تلميع صورتها دوليًا باعتبارها "واحة ديمقراطية" وسط محيط مضطرب، وركّزت على تصدير نموذجها في الابتكار وريادة الأعمال، خاصة في مجالات التكنولوجيا والمياه والزراعة. كما وظفت أدوات الدبلوماسية العامة والإعلام والثقافة لبناء جسور مع الرأي العام الغربي، ومع النخب في بعض الدول العربية بعد اتفاقات التطبيع. هذه القوة الناعمة صُممت لتخفيف صورة الاحتلال والصراع، وإبراز إسرائيل كفاعل طبيعي بل وضروري في بنية الشرق الأوسط.

رابعًا، استخدمت إسرائيل الاقتصاد كأداة نفوذ، من خلال اتفاقات الغاز في شرق المتوسط، والتعاون مع قبرص واليونان، والاستفادة من الأسواق الخليجية بعد التطبيع. الاقتصاد هنا ليس فقط مصدرًا للربح، بل وسيلة استراتيجية لإعادة دمج إسرائيل في شبكات إقليمية جديدة تجعل من الصعب عزلها سياسيًا.

ما يميز إسرائيل أنها استطاعت أن تجمع هذه الأدوات في استراتيجية متكاملة تقوم على القوة الذكية، حيث يتم المزج بين الحسم العسكري عند الضرورة، وبين بناء شبكات تأثير ناعمة تستند إلى الاقتصاد والتكنولوجيا والدبلوماسية. غير أن هذا التوظيف الذكي يظل محل إشكال نقدي؛ إذ يطرح تساؤلات حول مدى قدرة إسرائيل على الموازنة بين صورتها كقوة ناعمة تسوّق الابتكار والديمقراطية، وواقعها كقوة صلبة تمارس احتلالًا عسكريًا وتدخلاً متكررًا في شؤون جيرانها[6].

الجغرافيا السياسية للنفوذ الإسرائيلي وإعادة توزيع أوراق القوة:

تُعد الجغرافيا من أبرز محددات الاستراتيجية الإسرائيلية، إذ تنظر تل أبيب إلى موقعها الصغير والمفتوح على تهديدات متعددة باعتباره تحديًا أمنيًا وفرصة استراتيجية في الوقت نفسه.فمنذ تأسيسها عام 1948، واجهت إسرائيل معضلة الجغرافيا: ضيق المساحة، هشاشة الحدود، ووجود محيط معادٍ. وقد دفعها ذلك إلى اعتماد سياسة "الحدود الآمنة"، أي السعي لامتلاك أو السيطرة على مناطق استراتيجية توفر لها عمقًا دفاعيًا وقدرة على المناورة.

على المستوى الإقليمي، أولت إسرائيل أهمية خاصة لعدد من المواقع الجغرافية الحساسة.مرتفعات الجولان مثلًا تُعتبر حاجزًا دفاعيًا ضد سوريا وتوفر مراقبة عسكرية على مساحات واسعة، في حين تُشكل الضفة الغربية وغزة ساحات حيوية للتحكم في الأمن والديمغرافيا. أما القدس، فهي تحمل بعدًا جيوسياسيًا يتجاوز الرمزية الدينية إلى السيطرة المكانية التي تؤثر في الشرعية السياسية للصراع بأكمله.

في شرق المتوسط، شكّلت حقول الغاز البحرية بعد 2010 نقطة تحوّل في الجغرافيا السياسية لإسرائيل. إذ لم يعد البحر مجرد جبهة عسكرية، بل أصبح مصدرًا للطاقة والموارد، وأداة لبناء تحالفات مع دول مثل قبرص واليونان، فضلًا عن فتح قنوات تعاون مع دول عربية كالأردن ومصر. هذه الجغرافيا البحرية ساهمت في إعادة توزيع أوراق القوة بالمنطقة، عبر إدماج إسرائيل في ترتيبات اقتصادية وأمنية عابرة للحدود.

إلى جانب ذلك، استغلت إسرائيل ممرات الملاحة العالمية، وعلى رأسها قناة السويس والبحر الأحمر، كعناصر حساسة تربط أمنها القومي بالنظام التجاري العالمي. من هنا جاء اهتمامها بالتحالف مع دول القرن الإفريقي، مثل إثيوبيا وإريتريا، لضمان موطئ قدم في هذه النقاط الاستراتيجية، بما يمكّنها من مراقبة وتطويق خصومها الإقليميين مثل إيران[7].

مع ذلك، يكشف التحليل النقدي أن هذه الاستراتيجية الجغرافية تقوم على منطق السيطرة أكثر من منطق التعايش.فبدلًا من أن تكون الجغرافيا عنصرًا للتكامل الإقليمي، حوّلتها إسرائيل إلى أداة هيمنة، سواء عبر الاستيطان في الضفة الغربية، أو عبر عسكرة البحر المتوسط، أو عبر إقامة شبكات نفوذ في البحر الأحمر. هذا النهج قد يضمن تفوقًا مرحليًا، لكنه يزرع بذور صراعات مستقبلية بسبب تجاهله للبعد الحقوقي والسكاني والسياسي للشعوب المتأثرة.

وهكذا، تُظهر الجغرافيا السياسية أن إسرائيل لا تنظر إلى موقعها كقدر جغرافي ثابت، بل تسعى إلى "إعادة هندسته" بما يتوافق مع مصالحها الأمنية والاستراتيجية، غير أن هذا السلوك الهندسي نفسه هو ما يجعل نفوذها عرضة للاهتزاز في حال تغيرت التوازنات الإقليمية أو برزت قوى مضادة قادرة على كسر احتكارها للممرات والموارد.

التحولات الإقليمية تحت التدخل الإسرائيلي.. إعادة تعريف موازين القوى:

شهد الشرق الأوسط خلال العقدين الأخيرين تحولات عميقة في موازين القوى، كان لإسرائيل دور فاعل ومباشر فيها. فبدلًا من الاكتفاء بدور المتفرج، سعت تل أبيب إلى توجيه مسار التغييرات الإقليمية بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.ويمكن رصد هذا التدخل على مستويات متعددة: سياسية، عسكرية، اقتصادية، وأيديولوجية.

أولًا، على المستوى السياسي، استفادت إسرائيل من حالة التفكك الداخلي في العالم العربي منذ 2011، حيث أضعفت الانتفاضات الشعبية والحروب الأهلية الدول المركزية مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن. هذا التفكك فتح أمامها فرصة لتوسيع نفوذها دون مواجهة جبهة عربية موحدة. وفي ظل هذا الواقع، استطاعت أن تطرح نفسها كـ “شريك أمني" لبعض الأنظمة العربية في مواجهة تهديدات مشتركة، خصوصًا إيران والتنظيمات المسلحة.

ثانيًا، على المستوى العسكري، لم تتردد إسرائيل في التدخل المباشر أو غير المباشر لإعادة هندسة التوازنات. ففي سوريا، نفذت مئات الغارات الجوية منذ 2013 لاستهداف الوجود الإيراني وحزب الله، ما جعلها لاعبًا حاسمًا في رسم خطوط الصراع، حتى وإن لم تكن طرفًا رسميًا في الحرب. وفي لبنان، حافظت على استراتيجية الردع المتبادل مع حزب الله، لكن مع سياسة "جز العشب" المستمرة، أي توجيه ضربات محدودة للحفاظ على تفوقها العسكري.

ثالثًا، على المستوى الاقتصادي والتكنولوجي، عززت إسرائيل حضورها عبر اتفاقيات التطبيع الاقتصادي والتكنولوجي، مثل "اتفاقيات أبراهام" 2020، التي سمحت لها بفتح قنوات تعاون مع دول الخليج في مجالات الاستثمار، الطاقة المتجددة، الأمن السيبراني، والزراعة الذكية. هذا المسار لم يكن مجرد علاقات ثنائية، بل أعاد رسم الخريطة الاقتصادية والإستراتيجية في المنطقة، حيث باتت إسرائيل جزءًا من منظومة إقليمية جديدة تتجاوز الصراع التقليدي العربي–الإسرائيلي.

رابعًا، على المستوى الأيديولوجي والرمزي، سعت إسرائيل إلى إعادة صياغة روايتها في الإقليم. فقد ركزت على تصوير نفسها كـ “دولة عادية" أو حتى "قوة مبتكرة" تقدم حلولًا في مجالات التكنولوجيا والأمن الغذائي والمائي، في مقابل تصوير خصومها كقوى "مهددة للاستقرار". هذا التلاعب بالتصورات ساعدها في إضعاف مركزية القضية الفلسطينية لدى بعض الحكومات والشعوب.

لكن التحليل النقدي يكشف أن هذه النجاحات الإسرائيلية ليست خالية من التناقضات. فبينما عززت إسرائيل موقعها في بعض المحاور، خلقت في الوقت ذاته بؤر مقاومة جديدة، مثل تصاعد نفوذ إيران وحزب الله في مواجهة التدخلات، وظهور رأي عام عربي وإسلامي ما زال يرفض التطبيع رغم إرادة بعض الأنظمة. بمعنى آخر، تدخلات إسرائيل أعادت تعريف موازين القوى إقليميًا، لكنها لم تُنهِ الصراع، بل أعادت إنتاجه في أشكال جديدة أكثر تعقيدًا[8].

وعليه، يمكن القول إن السياسة الإسرائيلية تمثل نموذجًا للهندسة الجيوسياسية التي تسعى إلى إعادة ترتيب المسرح الإقليمي، لكن هذه الهندسة تبقى جزئية وغير مستقرة، لأنها تصطدم دومًا بواقع ديموغرافي وسياسي وأيديولوجي أكثر تعقيدًا مما يمكن السيطرة عليه.

التحديات البنيوية التي تواجه الهندسة الجيوسياسية الإسرائيلية:

رغم المرونة التكتيكية والنجاحات المرحلية في استخدام أدوات الهندسة الجيوسياسية، تواجه إسرائيل مجموعة من تحديات بنيوية عميقة تُقيّد قدرة مشروعها على التحول إلى هيمنة مستقرة وطويلة الأمد. يمكن تصنيف هذه التحديات في محاور مترابطة تُظهر أن ما يبدو من نفوذ ذكي على المستوى التكتيكي قد يكتنفه هشاشة تُرتِّب كلفة استراتيجية متزايدة.

أولاً: مأزق الشرعية والبعد الحقوقي.تَستند شرعية أي هندسة إقليمية مستدامة إلى قبولٍ ما—محلي أو إقليمي أو دولي—بمقاييسها وقواعدها. ولكن سياسة الاحتلال والاستيطان والإجراءات الأمنية القمعية في الأراضي الفلسطينية تقوّض قواعد هذه الشرعية. فغياب حل سياسي عادل يجعل من أي كسب تكتيكي (تطبيع، شراكات اقتصادية) هشًا أمام حملات نزع الشرعية والتحركات الدبلوماسية والقانونية، ويُبقي قضية مركزية قادرة على إشعال إعادة توازنات معاكسة في أي لحظة.

ثانيًا:الضغوط الديمغرافية والهوية.الضيق الجغرافي ونموّ السكان الفلسطينيين داخل وخارج حدود 1967 يفرضان معضلات داخلية طويلة الأمد—سياسية وديمغرافية وأخلاقية—تؤثر في قابلية الدولة على إدارة مشروع هندسي ممتد. إن البنية السكانية المتغيرة قد تُجبر السياسات على اختيارات صعبة بين الاستمرار في التحكم الميداني أو الانتقال نحو خيارات ديمقراطية تُعيد تعريف الهوية الوطنية، وكلٌّ من الخيارين يحمل تكاليف استراتيجية.

ثالثًا:عمق استراتيجي محدود وتكاليف الاستنزاف.الجغرافيا الإسرائيلية لا تمنحها عمقًا استراتيجيًا واسعًا؛ أي حرب مُطوَّلة أو صراع متعدد الجبهات سيؤدي إلى كلفة بشرية واجتماعية واقتصادية ضخمة. سياسات «المعركة بين الحروب» والضربات النوعية قد تعمل مؤقتًا، لكنها لا تحل مشكلة التراكم الاستراتيجي لدى الخصوم؛ وفي حال تزايد قدرات طرف مضاد (صاروخية، بحرية، سايبر)، قد تنهار ميزة الردع تدريجيًا.

رابعًا:المنافسة والهجينة المضادة.الفاعلون الإقليميون (إيران، تركيا) والقوى غير الدولية (ميليشيات، حركات مُسلّحة) يستخدمون أدوات هجينة—تمويل ميليشيات، حرب معلومات، هجمات سايبر، شبكات لوجستية بديلة—تُقلّل من حصرية إسرائيل على أدوات النفوذ التقليدية. كما أن تدخل قوى كبرى بتوازنات متعددة الأبعاد (روسيا في سوريا، النفوذ الصيني الاقتصادي) يُعقّد قدرة تل أبيب على فرض قواعد لعب أحادية.

خامسًا:التبعية المتقابلة والضغط الاقتصادي–التقني.شبكات الاعتماد التي بنتها إسرائيل عبر التكنولوجيا والطاقة والاقتصاد يمكن أن تتحول إلى نقاط ضعف: تغيّر سياق السوق، عقوبات، أو بدائل تكنولوجية يمكن أن تُخفض من تأثير هذه الأدوات، بل وتحوّل شركاء كانوا حلفاء إلى مصادر ضغط سياسي أو اقتصادي.

سادسًا:الهشاشة الداخلية السياسية والاجتماعية.الانقسامات السياسية الداخلية، التحوّلات في المشهد الحزبي، والاحتجاجات الاجتماعية تؤثر في ثبات السياسة الخارجية وقدرة النخبة على تبنّي سياسات طويلة الأجل تتطلب تنازلات داخلية. إدارة مشروع جيوسياسي طويل الأمد تتطلب استقرارًا سياسيًا وتوافقًا مجتمعيًا نادرًا ما يكون متاحًا في ظرف داخلي متأزم.

أخيرًا، ثمة مفارقة استراتيجية: نجاحات الهندسة الجيوسياسية في خلق تبعيات ومصالح مشتركة قد تُقلّل من العُزلة السياسية، لكنها في المقابل تُولّد توقعات وشروطًا جديدة من الشركاء؛ وعند خيّب هذه التوقعات أو تعرّضت المصالح المشتركة لتهديد، قد تنقلب هذه الشبكات إلى ساحات تصعيد. بعبارة أخرى، كلما تمدد نفوذ إسرائيل عبر هندسة الروابط، كلما اتّسعت دائرة ما قد يخسره إذا تهاوى أحد أعمدة الشبكة.

هذه التحديات البنيوية تُبرز أن الهندسة الجيوسياسية الإسرائيلية، رغم فاعليتها التكتيكية، تظل مشروعًا محكومًا بحدود: حدود جغرافية وديمغرافية، حدود شرعية وأخلاقية، وحدود عزلة/تبعّية في النظام الدولي. إدارة هذه الحدود هي الاختبار الأساسي لاستدامة أي مشروع جيوسياسي طويل الأمد[9].

انعكاسات التدخل الإسرائيلي على المشهد الإقليمي:

أدى التدخل الإسرائيلي في الشرق الأوسط إلى إعادة تشكيل البيئة الإقليمية على مستويات متعددة، بعضها عزز من موقع تل أبيب كفاعل إقليمي رئيسي، وبعضها الآخر أوجد تحديات جديدة تهدد استقرار هذا النفوذ. ومن خلال تحليل انعكاسات هذه السياسات يمكن رصد مجموعة من النتائج الأساسية[10].

أولًا:تراجع مركزية القضية الفلسطينية.أحد أبرز انعكاسات التدخل الإسرائيلي هو نجاح تل أبيب، عبر أدواتها الدبلوماسية والتحالفية، في تهميش القضية الفلسطينية في الأجندة الرسمية لبعض الدول العربية. فقد تم تصوير الصراع مع الفلسطينيين كمسألة ثانوية مقارنة بـ “التهديد الإيراني" أو "التحديات الأمنية العابرة للحدود". ومع ذلك، فإن التحليل النقدي يكشف أن هذا التراجع ظل على مستوى الحكومات فقط، بينما بقيت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في الوعي الشعبي، وهو ما يجعل أي تسوية تتجاهل هذا البعد عرضة للانهيار مستقبلاً.

ثانيًا:تأسيس منظومات تعاون جديدة.من خلال التدخلات المباشرة والتحالفات الإقليمية، خاصة بعد "اتفاقيات أبراهام"، ساهمت إسرائيل في ولادة شبكات جديدة من التعاون العسكري والاقتصادي والتكنولوجي، خصوصًا مع الإمارات والبحرين والمغرب. هذه الشبكات أعادت ترتيب أولويات الأمن الإقليمي، وأدخلت إسرائيل إلى عمق النظام العربي الرسمي بعد أن كانت معزولة نسبيًا. لكن هذه الشبكات نفسها تحمل تناقضات كامنة، إذ قد تتحول إلى بؤر هشّة إذا تغيرت مواقف الشعوب أو تبدلت أولويات الأنظمة.

ثالثًا:زيادة الاستقطاب الإقليمي.في المقابل، ساهمت التدخلات الإسرائيلية في تغذية الاستقطاب داخل الشرق الأوسط. فبينما اصطفّت بعض الدول العربية إلى جانب إسرائيل، بقيت أطراف إقليمية مثل إيران وسوريا وحزب الله وحركات المقاومة الفلسطينية في معسكر مضاد. هذا الانقسام أنتج نظامًا إقليميًا أكثر تعقيدًا، حيث لم يعد الصراع "عربي–إسرائيلي" فحسب، بل أصبح شبكة من المحاور المتقاطعة، ما زاد من احتمالية الانفجار الدوري للصراعات.

رابعًا:تدويل أكبر للنزاعات الإقليمية.ساهم الدور الإسرائيلي في استدعاء قوى كبرى بشكل أعمق إلى المشهد الإقليمي. فالتعاون الإسرائيلي–الأمريكي عزز من حضور واشنطن في معادلات الطاقة والأمن، فيما أثارت هذه التحالفات حفيظة روسيا والصين اللتين تسعيان إلى الحد من النفوذ الغربي في الشرق الأوسط. وبهذا تحوّل التدخل الإسرائيلي إلى عامل يربط الأزمات المحلية بمسار المنافسة بين القوى الكبرى.

خامسًا:مفاقمة معضلة الأمن الإقليمي.بدلاً من إنتاج بيئة أكثر استقرارًا، أسهم التدخل الإسرائيلي في خلق معادلة "الأمن مقابل اللاأمن". إذ شعرت بعض الدول العربية بالاطمئنان إلى شراكاتها الجديدة مع إسرائيل، بينما اعتبرت أطراف أخرى هذه التحالفات تهديدًا وجوديًا، ما ولّد سباق تسلّح إقليمي متسارع في مجالات الطائرات المسيّرة، الصواريخ الدقيقة، وأنظمة الدفاع الجوي. هذا الوضع يزيد من هشاشة المنطقة بدلاً من استقرارها.

خلاصة القول، أن التدخل الإسرائيلي لم يكن مجرد سياسة إقليمية عابرة، بل ساهم في إعادة تعريف المشهد الإقليمي بأكمله.لكنه في الوقت نفسه كشف حدود القوة الإسرائيلية، إذ أوجد بيئة مشبعة بالتناقضات والتوترات، تُنذر بأن أي محاولة لترسيخ "هندسة جيوسياسية" إسرائيلية ستظل مهددة بالتفكك بفعل الديناميكيات الداخلية والإقليمية والدولية.

مستقبل النفوذ الإسرائيلي بين فرص التمكين وحدود القوة:

يشكل مستقبل النفوذ الإسرائيلي في الشرق الأوسط إشكالية معقدة تتأرجح بين عناصر التمكين المتاحة وحدود القوة البنيوية التي تواجه الدولة. فمن ناحية، تبدو إسرائيل في موقع متقدم بفضل تفوقها التكنولوجي والعسكري، وشبكة تحالفاتها المتنامية مع بعض الدول العربية والغربية، إضافة إلى حضورها المتزايد في مجالات الاقتصاد والطاقة، لا سيما في مشاريع غاز شرق المتوسط. هذه العوامل تمنحها قدرة متجددة على توسيع نفوذها وفرض رؤيتها الإقليمية، خصوصًا مع تراجع بعض القوى التقليدية وانشغال القوى الكبرى بصراعات عالمية أخرى. غير أن هذا التفوق لا يعني أن إسرائيل قادرة على هندسة الشرق الأوسط بالكامل وفق مصالحها، إذ سرعان ما تصطدم بمحاذير واقعية تحد من قدرتها على فرض هيمنة مطلقة.

فمن أبرز عناصر التمكين التي تعزز حضور إسرائيل، قدرتها على توظيف التفوق التكنولوجي ليس فقط في المجال العسكري بل أيضًا في مجالات الأمن السيبراني والابتكار المدني، وهو ما يجعلها شريكًا جذابًا للعديد من القوى الإقليمية والدولية. كما أن شبكة التحالفات التي رسختها من خلال اتفاقيات التطبيع أضافت لها بعدًا جيوسياسيًا جديدًا، يفتح أمامها مجالات أوسع للتعاون الاقتصادي والأمني، ويمنحها غطاءً سياسيًا لشرعنة حضورها الإقليمي. ومع ذلك، تبقى هذه الإنجازات عرضة للاهتزاز إذا لم تستطع إسرائيل معالجة التحديات المزمنة التي تعيق استقرار مشروعها الجيوسياسي[11].

فعلى الجانب المقابل، تواجه إسرائيل قيودًا متجذرة تحد من قابليتها للتحكم الكامل في المشهد. إذ تظل القضية الفلسطينية عائقًا بنيويًا ينسف أي محاولة لبناء شرعية إقليمية طويلة الأمد. فاستمرار الاحتلال وتوسع الاستيطان يجددان المقاومة بأشكال مختلفة، ويغذيان خطابًا رافضًا للتطبيع داخل المجتمعات العربية، ما يجعل هندسة إسرائيل للشرق الأوسط محفوفة بغياب التوافق الشعبي. كما أن وجود محاور إقليمية مضادة – تقودها إيران وحركات المقاومة – يفرض على إسرائيل استنزافًا أمنيًا وعسكريًا دائمًا، يقلل من قدرتها على التفرغ لتوسيع نفوذها بوسائل ناعمة أو اقتصادية.

إلى جانب ذلك، تعاني إسرائيل من هشاشة داخلية تعكسها الانقسامات الحادة بين القوى السياسية والتيارات الاجتماعية والدينية، وهو ما يضعف تماسكها الداخلي وقدرتها على صياغة رؤية استراتيجية موحدة للمستقبل. كما أن المتغير الدولي، وخاصة التنافس بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، يفرض عليها تحديات إضافية، إذ تجد نفسها مضطرة إلى الحفاظ على التوازن بين الاعتماد على الحليف الأمريكي ومحاولة الانفتاح على قوى دولية أخرى لضمان مصالحها بعيدة المدى. هذه المعادلة تجعل هامش المناورة الإسرائيلي معقدًا، وتكشف حدود القوة الإسرائيلية رغم ما تمتلكه من أدوات صلبة وناعمة.

وعليه، يمكن القول إن مستقبل النفوذ الإسرائيلي في المنطقة ليس خطيًا ولا مضمونًا. فبينما تفتح التطورات الراهنة أمامها فرصًا للتمكين والاختراق، فإنها تصطدم في الوقت ذاته بحدود القوة التي تفرضها التحديات البنيوية والإقليمية والدولية. ومن ثم، يظل مشروع الهندسة الجيوسياسية الإسرائيلي مشروعًا غير مكتمل، قائمًا على موازنة دقيقة بين عناصر التفوق وحدود الواقع. وإن كان من المرجح أن تحافظ إسرائيل على موقع فاعل إقليمي رئيسي، فإن قدرتها على فرض هيمنة مستقرة على المنطقة تبقى محل شك، خصوصًا في ظل غياب حل عادل للقضية الفلسطينية واستمرار الصراعات الإقليمية المحتدمة.

ختامًا:

يتضح من التحليل أن ما يُسمى بـ الهندسة الجيوسياسية الإسرائيلية في الشرق الأوسط ليس مجرد مفهوم نظري أو خطاب استراتيجي، بل هو مشروع متكامل يستند إلى توظيف القوة الصلبة والناعمة لإعادة تشكيل البيئة الإقليمية بما يتناسب مع المصالح الإسرائيلية. فقد سعت إسرائيل إلى بناء نفوذها عبر الردع العسكري والتحالفات الإقليمية والدولية، في موازاة الانفتاح على أدوات أكثر مرونة مثل التكنولوجيا، الإعلام، الدبلوماسية العامة، والتطبيع الاقتصادي. هذه المقاربة المزدوجة ساعدتها بالفعل على توسيع دائرة نفوذها، وأتاحت لها فرصة لعب دور مؤثر في إعادة توزيع أوراق القوة في المنطقة.

مع ذلك، يكشف التحليل النقدي أن هذا المشروع يواجه تحديات بنيوية يصعب تجاوزها بسهولة. فالقضية الفلسطينية تظل حجر الزاوية في إضعاف شرعية النفوذ الإسرائيلي، حيث تُبقي سياسات الاحتلال والاستيطان على حالة توتر دائم مع الشعوب العربية والإسلامية، وتعيق إمكانية بناء نظام إقليمي متوازن ومستقر. كما أن وجود محاور إقليمية مضادة مثل إيران وحزب الله وحركات المقاومة، إضافة إلى الانقسامات الداخلية داخل إسرائيل نفسها، يشكل قيودًا واضحة على مشروعها الجيوسياسي.

على المستوى الدولي، تبدو معادلة النفوذ الإسرائيلي أكثر تعقيدًا مع تصاعد التنافس بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، وتراجع انفراد واشنطن بالهيمنة العالمية. فهذا التحول يعرض إسرائيل لاختبارات صعبة، فهي من ناحية لا تستطيع الاستغناء عن المظلة الأمريكية، ومن ناحية أخرى تواجه واقعًا متعدد الأقطاب يفرض عليها هامشًا أضيق للمناورة. وهو ما قد يضع مستقبل "الهندسة الجيوسياسية" الإسرائيلية على المحك إذا لم تستطع التكيف مع هذه البيئة الجديدة.

بناءً على ذلك، يمكن القول إن الهندسة الجيوسياسية الإسرائيلية تظل مشروعًا جزئيًا وهشًا: فهي قادرة على تحقيق إنجازات تكتيكية مرحلية، لكنها تفتقر إلى الضمانات الاستراتيجية طويلة المدى. فغياب تسوية عادلة وشاملة للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، وتنامي ديناميكيات المقاومة الإقليمية، فضلًا عن تزايد أدوار الفاعلين الدوليين المنافسين، كلها عوامل تقلل من فرص نجاح هذا المشروع في إعادة صياغة النظام الإقليمي وفق التصور الإسرائيلي.

وبذلك، تبدو المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة من صراع الإرادات، حيث لن يكون النفوذ الإسرائيلي مطلقًا أو مستدامًا، بل محكومًا بالتوازنات المتغيرة بين الفرص والقيود. ما يعني أن مستقبل الشرق الأوسط لن يُرسم بالكامل عبر الهندسة الجيوسياسية الإسرائيلية، وإنما عبر تفاعل معقد بين قوى إقليمية ودولية، تقاطعات المصالح، وحيوية الشعوب التي لا تزال تملك الكلمة الفصل في شرعنة أو إجهاض أي مشروع نفوذ خارجي.

المراجع:

[1]John Agnew, Geopolitics: Re-visioning World Politics (London: Routledge, 2004), 21

[2]Saul Cohen, Geopolitics of the World System (Lanham, MD: Rowman & Littlefield, 2003), 112.

[3]Cohen, Saul Bernard. Geopolitics of the world system. Bloomsbury Publishing PLC, 2003, 115.

[4]Pelopidas, Benoît. "Joseph S. Nye Jr, Soft Power, The Means to Success in World Politics, New York, Public Affairs, 2004, 191 p." Les Champs de Mars 16, no. 2 (2004): II-II.

[5]Inbar, Efraim. Israel's national security: issues and challenges since the Yom Kippur War. Routledge, 2007.

[6]Joseph S. Nye, The Future of Power (New York: Public Affairs, 2011), 98.

[7]Inbar, Efraim. "Israel's Strategic Environment in the 1990s." Journal of Strategic Studies 25, no. 1 (2002): 21-38.

[8]Freilich, Charles D. "Israel’s national security strategy." In The palgrave international handbook of Israel, pp. 1-19. Singapore: Springer Nature Singapore, 2023.

[9]Freilich, Charles D. Israeli national security: A new strategy for an era of change. Oxford University Press, 2018.

[10]Bar-Joseph, Uri. "Taking Israel's Security Interests in to Account: Deterrence Policy in a Changing Strategic Environment." In Arms Control and Missile Proliferation in the Middle East, pp. 89-105. Routledge, 2012.

[11]Rabinovich, Itamar. "Israel and the changing Middle East." Middle east memo 34 (2015): 1-11.


رابط دائم: