تحولات القوة والسيادة.. قراءة تحليلية في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2025
8-12-2025

د. محمد منير غازى
* باحث فى الدراسات السياسية والاتصال السياسى

تُشكل وثيقة "استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة لعام 2025" (NSS 2025)، التي صدرت عن البيت الأبيضيوم 4 ديسمبرالجاري في 33 صفحة، نقطة انقطاع حادة مع الموروث الليبرالي الذي هيمن على السياسة الخارجية الأمريكية في حقبة ما بعد الحرب الباردة. تنتقل الاستراتيجية من نهج "الهيمنة الليبرالية" (Liberal Hegemony) إلى نموذج "الواقعية المرنة" (Flexible Realism) و"القومية الدفاعية"، حيث تعيد تعريف المصلحة الوطنية من منظور "أمريكا أولا".

يركز هذا التحليل على تفكيك البنية المفاهيمية للاستراتيجية، بتحليل أدواتها التطبيقية (العسكرية والاقتصادية)، ومحاولة فهم تداعياتها على النظام الدولي، استنادا إلى نص الوثيقة وأبرز الأحداث الجيوسياسية في عام 2025.

أولا- الإطار النظري.. من "نهاية التاريخ" إلى "عودة الدولة القومية":

تُؤسس الوثيقة لمنظور فكري جديد يقطع مع الافتراضات الكونية للعولمة. يمكن رصد ثلاث ركائز فلسفية تحكم هذا التحول:

نقد "النخبة الأممية":

تطرح الوثيقة نقدا جذريا للنخب التقليدية، متهمة إياها بالسعي لـ "هيمنة دائمة" غير واقعية، واستبدال بالمصالح الوطنية أجندات عولمية أدت إلى تآكل القاعدة الصناعية والطبقة الوسطى. ويتم استبدال بمفهوم "بناء الأمم" (Nation Building) مفهوم "الحفاظ على الجمهورية"، مما يعني انحسارا في الرغبة الأمريكية لتغيير الأنظمة السياسية في الخارج.

عقيدة "الواقعية المرنة" (Flexible Realism):

تم صك هذا المصطلح للتعبير عن نهج براجماتي يرفض التدخل القيمي في شئون الدول الأخرى، ويعطي الأولوية للتعامل مع "الدول القومية" كوحدات مستقلة ذات سيادة، بغض النظر عن طبيعة أنظمتها السياسية، طالما أنها لا تهدد المصالح الأمريكية المباشرة.

السيادة كقيمة مطلقة (Hyper-Sovereignty):

تعيد الاستراتيجية الاعتبار لمفهوم السيادة الوطنية في مواجهة المؤسسات الدولية (Supra-national institutions). يتجلى ذلك في رفض الالتزامات المناخية أو القانونية التي تنتقص من القرار الوطني، والتركيز على الحدود المادية كخط الدفاع الأول للأمن القومي.

ثانيا- الجغرافيا السياسية الجديدة: "ملحق ترامب" وإعادة هندسة المناطق:

تعيد الاستراتيجية ترتيب أولويات المناطق الجغرافية بناءً على معيار "القرب والتهديد المباشر"، مما أدى إلى صياغة مفاهيم جديدة للأمن الإقليمي.

نصف الكرة الغربي: "ملحق ترامب" لمبدأ مونرو:

يمثل هذا المفهوم التحول الأبرز في الوثيقة. يعيد "ملحق ترامب" (Trump Corollary) إحياء مبدأ مونرو (1823) بصيغة هجومية، تهدف إلى منع أي "منافسين من خارج نصف الكرة" (Non-Hemispheric Competitors) من امتلاك نفوذ عسكري أو أصول استراتيجية في الأمريكتين. تشمل الأدوات استخدام القوة العسكرية المباشرة ضد الشبكات الإجرامية (الكارتيلات)، والضغط الاقتصادي لإخراج الاستثمارات الصينية من البنية التحتية الحيوية في أمريكا اللاتينية، (منع المنافسين في الغرب، وردع جراحي في الشرق، وتنافس اقتصادي في آسيا).

الشرق الأوسط: نموذج "الردع عن بُعد" والصفقات:

تتخلى الاستراتيجية عن مركزية الشرق الأوسط التقليدية (التي كانت قائمة على النفط)، وتتبنى نموذجا يعتمد على "تقاسم الأعباء" (Burden Sharing) والتدخل العسكري الجراحي.

·   دراسة حالة: عملية "مطرقة منتصف الليل" (Operation Midnight Hammer): شكلت الضربات الجوية الأمريكية في يونيو 2025، ضد المنشآت النووية الإيرانية (فوردو، ونطنز، وأصفهان) باستخدام قاذفات B-2وقنابل GBU-57الخارقة للتحصينات، التطبيق العملي لعقيدة "السلام من خلال القوة".

·   الدلالة الاستراتيجية: التحول من "حروب الاستنزاف" طويلة الأمد إلى "الضربات العقابية" (Punitive Strikes) التي تهدف إلى إزالة تهديد نوعي محدد (البرنامج النووي) واستعادة الردع دون التورط في احتلال بري.

·   دبلوماسية الصفقات:يُعد "مؤتمر السلام" الذي عُقد في أكتوبر ،2025 نموذجا للدبلوماسية الجديدة التي تفضل الاتفاقيات المباشرة لإنهاء الصراعات (مثل حرب غزة) وفرض ترتيبات أمنية جديدة، بدلا من العمليات السياسية المفتوحة.

آسيا والمحيط الهادئ.. التنافس الاقتصادي والردع بالإنكار:

تظل الصين المنافس الاستراتيجي الأول، لكن المواجهة تنتقل من الاحتواء العسكري التقليدي إلى "فك الارتباط الاقتصادي" (Decoupling). تركز الاستراتيجية على حرمان الصين من التكنولوجيا الدقيقة والهيمنة على سلاسل التوريد، مع تعزيز التحالفات (مثل، AUKUSوQuad) لفرض "ردع بالإنكار" (Deterrence by Denial) يمنع تغيير الوضع القائم بالقوة.

ثالثا- الاقتصاد السياسي للأمن القومي.. "الهيمنة" بدلا من "المشاركة":

تدمج الوثيقة الاقتصاد بالأمن القومي بشكل كامل، مستخدمة الأدوات الاقتصادية كأسلحة جيوسياسية.

الهيمنة الطاقية (Energy Dominance):

ترفض الاستراتيجية سياسات "صافي الصفر" (Net Zero) المناخية، وتعلن عن هدف "الهيمنة الطاقية" عبر تعظيم إنتاج وتصدير الوقود الأحفوري والغاز الطبيعي المسال (LNG). الهدف هو استخدام فوائض الطاقة الأمريكية كأداة ضغط ونفوذ (Leverage) لتقليل اعتماد الحلفاء على الطاقة الروسية، وكسلاح اقتصادي لتعزيز الميزان التجاري.

إعادة التصنيع والحمائية (Reindustrialization):

يتم تبني "القومية الاقتصادية" عبر فرض تعريفات جمركية (Tariffs) وتشجيع عودة الصناعات (Reshoring)، لضمان استقلالية سلاسل التوريد العسكرية والمدنية الحيوية. يُنظر إلى "الأمن الاقتصادي" كمرادف لـ "السيادة"، حيث لا يمكن لدولة تعتمد على خصومها في غذائها أو سلاحها أن تكون حرة.

رابعا- البنية العسكرية.. التحديث والردع:

تركز الاستراتيجية العسكرية على النوعية بدلا من الكمية في الانتشار:

1- القوة النووية والدفاع الصاروخي:إعطاء أولوية لتحديث الترسانة النووية وبناء نظام دفاع صاروخي متطور ("القبة الذهبية") لحماية الأراضي الأمريكية.  

2- التكنولوجيا الناشئة:التركيز على التفوق في الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية، والأسلحة الفرط صوتية لضمان "التفوق الحاسم" (Overmatch).  

3- الاستعداد القتالي: تطهير المؤسسة العسكرية من الأجندات الاجتماعية (التي تصفها الوثيقة بـ Woke ideology) للتركيز حصرا على الكفاءة القتالية.

الخاتمة- الرؤية الأمريكية لملامح النظام الدولي الجديد:

بناءً على تحليل وثيقة NSS 2025والسياقات المرتبطة بها، يتجه النظام الدولي نحو هيكلية "تعددية قطبية تنافسية" (Competitive Multipolarity)، تتسم بالخصائص التالية:

·   تراجع المؤسسية الدولية:ضعف دور الأمم المتحدة والمنظمات متعددة الأطراف لصالح التحالفات المصغرة (Minilateralism) والعلاقات الثنائية.

·          عسكرة الاقتصاد:استخدام التجارة، والتكنولوجيا، والطاقة كأدوات رئيسية في الصراع الدولي.

·   السيادة الصلبة:عودة الحدود والجدران (المادية والقانونية) كعنصر حاسم في العلاقات الدولية، مع تراجع مفاهيم "المسئولية عن الحماية" أو التدخل الإنساني.

ختاما، فإن الولايات المتحدة، وفق هذه الاستراتيجية، لا تنسحب من العالم، بل تعيد تموضعها لتدير العالم بشروطها الخاصة، وبأقل تكلفة ممكنة، مستبدلة بدور "الشرطي" دور "المهيمن الانتقائي".

المصدر:

- The White House. (2025, November). National Security Strategy of the United States of America. Washington, DC: Executive Office of the President. https://2h.ae/NHlLQ

 

 


رابط دائم: