معضلة القمة العربية
28-2-2012

د. أحمد يوسف أحمد
*

بعد غد فقط يبدأ شهر القمة العربية وفقاً لبروتوكول دورية القمة الذي ينص على انعقادها في مارس من كل عام. وقد حارت القمم العربية طويلاً في تحديد موعد انعقادها، وأصبحت لمدة طويلة أسيرة لفكرة "الإعداد الجيد"، فكل من لا يريد انعقادها، أو لا يريد ذلك في توقيت بعينه كان يتحجج بفكرة "الإعداد الجيد"، وهي فكرة حق كثيراً ما أريد بها باطل. وظل العرب الذين تعودوا أن يضعوا آمالاً كباراً على القمم العربية يحلمون بانتظام انعقاد القمم العربية دون جدوى إلى أن وافقت قمة القاهرة الاستثـنائية في عام 2000 على المقترح اليمني بالانعقاد الدوري للقمة العربية في مارس من كل عام، واعتبر هذا المبدأ الذي تضمنه بروتوكول خاص جزءاً لا يتجزأ من ميثاق جامعة الدول العربية، وانعقدت أول قمة دورية في عمان 2001، ثم توالى انعقاد القمم دوريّاً بعد ذلك حتى عام 2010. غير أنه سرعان ما بدأ يتضح أن العبرة ليست بدورية هذا الانعقاد وإنما بتوافر إرادة سياسية عربية مشتركة تمكن القمم من التصدي الناجح لما يواجهها من مهام، فمن لا يعجبه موعد انعقاد قمة ما يتغيب عن حضورها، أو يحضر ويوافق على قراراتها وهو يعلم أنه لن يلتزم بها، أو يتبرع بمكان انعقاد القمة لغيره عندما يحل عليه الدور، ومع ذلك فلا شك أن دورية انعقاد القمم كانت تؤمن حدّاً أدنى من اللقاء العربي على أعلى مستوى لبحث المشاكل الملحة وإدارة الأزمات الخطيرة التي تواجه النظام العربي.

وكانت السنة الماضية هي أول سنة يُخَل فيها بمبدأ دورية انعقاد القمم، وكان مكان انعقاد القمة في تلك السنة هو العراق الذي سبق له أن "تبرع" بدوره في القمة نتيجة ما كان يجتازه من أوضاع أمنية، لكن الدور حل عليه للمرة الثانية السنة الماضية، وفيها أصرت الحكومة العراقية على التمسك بانعقاد القمة، على رغم استمرار الصعوبات الأمنية. وقد بدأ الجدل حول انعقاد القمة في العراق العام الماضي حول الملاءمة الأمنية لهذا الانعقاد على أرض العراق من ناحية، وإصرار الحكومة العراقية عليه من ناحية أخرى. والواقع أن هذا الإصرار يمكن أن يرد إلى حرص الحكومة العراقية على إثبات سيطرتها على مقاليد الأمور في العراق بحيث تكتسب صدقية لدى شعبها وفي النطاق العربي، لكن انعقاد القمة في العراق من المنظور العربي يمكن النظر إليه كمؤشر إيجابي بالنسبة لعروبة العراق بعد أن ثارت شكوك حول هذه الهوية العربية عند صياغة دستوره، بالإضافة إلى تحفظ قسم من شيعة العراق على الانتماء العربي لبلدهم كونهم يعتقدون أن الظلم الذي لحق بهم إنما يعود مصدره إلى العرب السنة وليس إلى نظام استبدادي عمت الكافة مظالمه، والأهم من ذلك الوضع الخاص لشعب العراق الذي يتكون من قوميتين هما العربية والكردية حيث ينظر الأكراد إلى فكرة العروبة باعتبارها مرتبطة بمحاولات تذويب قوميتهم وصهرها في القومية العربية.

ظل الجدل محتدماً حتى بدأ ما يسمى "الربيع العربي"، وعندما طالت تطوراته تونس وحدها لم تكن هناك مشكلة، ولكنه سرعان ما شمل مصر، وكانت لكلتا الدولتين بعد النجاح في الإطاحة برئيسيهما مشكلة في موضوع تمثيل الدولة على مستوى القمة حيث إنهما كانتا بلا رئيس للجمهورية أو قيادة تعبر عن الوضع الجديد فيهما، ثم تعقدت الأمور أكثر بامتداد التحول العربي إلى ليبيا التي عانت لفترة ليست بالقصيرة من ازدواجية في السلطة ما بين المجلس الانتقالي الذي يمثل الثورة والعقيد القذافي على هرم السلطة، ولم تنجُ سوريا واليمن من هذه المشاكل بشكل أو آخر، وكان هذا الوضع خليقاً بأن يفجر القمة من داخلها، فقد تعترض دول على أن يمثل القذافي أو من ينوب عنه ليبيا على أساس أنه فقد شرعيته السياسية، وقد تتبنى دول أخرى الموقف المعاكس، وقد تقترح دول تبني مواقف حادة تجاه النظم الجديدة فيما يعارض آخرون ذلك، وقد يضطر قادة الدول التي شهدت تلك التطورات إلى التغيب عن القمة نظراً لأولوية الأوضاع داخل بلدانهم، وهكذا حسم الجدل بقرار تأجيل انعقاد قمة 2011 عاماً على أن تعقد في العام الذي يليه في المكان نفسه أي العراق.

والآن قبل ساعات من بداية شهر انعقاد القمة يتجدد الجدل حول إصرار الحكومة العراقية على انعقاد القمة في موعدها على أرض العراق، وذلك على رغم ما يواجهه من أزمات سياسية طاحنة وعمليات إرهابية خطيرة. ولاشك أن انعقاد القمة مطلوب الآن بإلحاح لمواجهة مهام إعادة بناء البيت العربي، ولكن الإصرار العراقي مع ذلك يجب أن يكون خاضعاً لنقاش عربي واسع. صحيح أن الحكومة العراقية ستنجح على أغلب الظن في تأمين انعقاد القمة وإن يكن بجهد غير عادي، ولكن حسابات أمن القادة لا تتم على هذا النحو، بمعنى أن احتمالات الفشل في إخراج القمة إلى بر الأمان يجب أن توضع في الحسبان حتى لو كانت نسبتها لا تتعدى 1%. وأغلب الظن أن انعقاد القمة في هذه الظروف قد يفضي إلى تغيب عدد من القادة عن الحضور، وتكليفهم من هم أدنى مستوى بتمثيل دولهم، وهذه مشكلة تعاني منها القمم العربية في الظروف العادية فما بالنا بهذه الظروف.

وكذلك فإن غياب عدد من القادة سيعطي الانطباع بأن القمة غير مؤهلة للتصدي للمهام الجسام الملقاة على عاتقها، وعندما تتخذ قمة كهذه أية قرارات سيكون من السهولة بمكان عدم التقيد بها، وهو ما يحدث حتى في حالة حضور الرؤساء فما بالنا بهذه الظروف. ويعني هذا أن يدي القمة ستكون مرتعشة وهي تحاول اتخاذ قرارات في موضوعات جديدة عليها لم يخولها ميثاقها أصلاً التصدي لها.

مطلوب إذن في هذه الظروف وبأسرع طريقة ممكنة إدارة حوار جاد مع الحكومة العراقية للتعبير لها عن المخاطر التي تحيط بانعقاد القمة في هذا التوقيت، وكيف أنها تستطيع بالإصرار أن تنجح في عقد القمة، وتأمينها بتركيز الجهد، ولكن احتمالات أن تأتي القمة بالغة الضعف ستنال دون شك من صدقية الحكومة، كما أن أي حادث أمني يمكن أن يفلت من الترتيبات الصارمة التي ستتخذها الحكومة العراقية سيكون من شأنه أن يدمر هذه الصدقية تماماً، كما على الحوار أيضاً استطلاع رأي الدول العربية بمنتهى الشفافية بشأن قرارها المتوقع بالمشاركة في القمة من عدمه، حتى نكون على بينة من أمرنا ونحن نتخذ القرار النهائي بانعقاد القمة من عدمه، وبحيث يكون الدافع الأول لهذا القرار ليس الحفاظ على دورية القمة، أو حق الحكومة العراقية في عقدها في موعدها المحدد، وإنما يكون الدافع هو الحفاظ على فاعلية القمة وصدقيتها باعتبارها قمة الهرم في العمل العربي المشترك. أما إذا كان الأمر قد قضي واتخذ القرار بانعقاد القمة في مكانها وموعدها المحددين فلا يملك المرء سوى أن يتمنى للحكومة العراقية التوفيق في تأمين القمة، وأن يرجو لها وللأمانة العامة للجامعة النجاح في حسن الإعداد للقمة، وأن يهدي الله القادة العرب سواء السبيل من أجل الحفاظ على قمة منظومة العمل العربي المشترك.

--------------------
* نقلا عن الاتحاد الإمارتية، الثلاثاء 28/2/2012.


رابط دائم: