دلالات عملية "الرمح الجنوبي" بفنزويلا وسيناريوهاتها المستقبلية
2-12-2025

رحمة محمود
* باحثة فى العلوم السياسية

من "تشافيز" إلي "مادورو" رُبما يكون الاختلاف في الحِقب التاريخية، لكن النَهج الفنزويلي ظل واحدًا، حيث اتسمت فترات حُكم كُل منهما برفض السياسات الأمريكية المُهيمنة. وعلى الجانب الآخر ظلت الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا على قناعتها الثابتة بأن أمريكا اللاتينية هي "الحديقة الخلفية" للبيت الأبيض ولن تتنازل عنها.

ذلك الصراع القائم من الماضي، أُلقي برمُته علي الحاضر. حيث أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في قرارٍ مُفاجئ عن تنفيذ عملية " الرمح الجنوبي" التي وجهت ما لا يقل عن 20 ضربة بالبحر الكاريبي، حيث يستهدف القرار في ظاهره القضاء على عصابات المُخدرات بفنزويلا، لكن في باطِنه دوافع استراتيجية تَسعي لها الولايات المتحدة الأمريكية على الدوام.

ومع استمرار الولايات المتحدة في استعراض القوة، شهدت الساحة العالمية تصعيدًا جديدًا لحرب رُبما قد تكون على الأبواب، وذلك بعدما أعلنت وزارة الحرب الأمريكية عن إرسال حاملة الطائرات الأكثر فتكًا وهي "جيراند آر فورد" إلي الكاريبي وسط وجود 12 ألف جندي أمريكي قبالة السواحل الفنزويلية.

وفي هذا السياق استمرت حرب التصريحات بين واشنطن وكراكاس، حتى وصلت إلي إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فى 29 نوفمبر  2025، عن "إغلاق المجال الجوى فوق فنزويلا" في خطوة تَصعيدية قد تعكس الكثير علي المشهد الحالي، خاصةً أنها تحمل في طياتها تداخلات سياسية واقتصادية عِدة.

خلفية التصعيد القائم بين واشنطن وكراكاس:

التصعيد الحالي بين الولايات المتحدة الأمريكية وفنزويلا، لم يكن وليد اللحظة بل له عدة مُقدمات أفضت إلي الوضع القائم، وهي:

1- دعم المُعارضة الفنزويلية: انتهجت الحكومات الأمريكية علي الدوام سياسات رافضة لمسار الحكم في فنزويلا باعتباره "حُكما فاشيا"، وفي 2019، بعد إعلان "خوان جوايدو" تعيين نفسه رئيسًا مؤقتًا للبلاد، سُرعان ما أعلن الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" دعمه الواضح والصريح للمُعارضة الفنزويلية، حيث اعتبر أن نظام الرئيس الفنزويلي الحالي، نيكولاس مادورو، نظامًا غير شرعى.

2- رفض نتيجة الانتخابات الرئاسية: في أغسطس 2024، أعلن المجلس الانتخابي الوطني في فنزويلا، فوز "نيكولاس مادورو" رئيسًا للبلاد بعد هزيمة مُرشح المُعارضة "إدموندو جونزاليس"، وهو ما دعا الولايات المتحدة الأمريكية إلي التشكيك في نزاهة وشفافية الانتخابات. ومن هذا المُنطلق أعلن وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، أنتوني بلينكن، فوز مرشح المُعارضة بالانتخابات الرئاسية.

3- فرض المزيد من العقوبات: فَرضت الولايات المُتحدة الأمريكية، سلسلة من العقوبات الاقتصادية كـ"ورقة ضغط" على حكومة الرئيس الفنزويلي "نيكولاس مادورو". وفي 2019، قامت الحكومة الأمريكية بتجميد الأصول الفنزويلية في الولايات المتحدة الأمريكية، ثُمّ قامت بحظر التعاملات المالية مع الحكومة الفنزويلية. كذلك قامت الولايات المتحدة الأمريكية -على مدار ست سنوات- بتوسيع نطاق العقوبات ليشمل شركات وكيانات مُتهمة بدعم حكومة "مادورو".

4- كيانات تحت مِظلة الإرهاب: الأمر لم يتوقف علي العقوبات فحسب، بل توسع النَهج الأمريكي ليعلن ارتداء قناع مُكافحة الجريمة والإرهاب في فنزويلا، حيث صنف البيت الأبيض "ترين دي أراجوا"، كـمنظمة إرهابية أجنبية، زاعمًا أنها علي صلة بالرئيس الفنزويلي "مادورو". أيضًا ضمت وزارة الخزانة الأمريكية كيانات "كارتل دي لوس سولز" أو "عصابات الشمس" إلى قائمة عقوبات مكتب مُراقبة الأصول الأجنبية باعتبارها جماعة إرهابية عابرة للحدود.وعلى الرغم من هذا التصنيف إلا أنه لا توجد أى دلائل أو تقارير تُفيد بارتباط تلك الكيانات بالرئيس الفنزويلي "مادورو"، كما أن تلك الكيانات لا تُعتبر تهديدًا دوليًا بمعني أنها تتحكم في تجارة المخدرات عالميًا كما وصفتها الإدارة الأمريكية. وإنما جاءت تلك التصنيفات فقط كـغطاء شرعي لدعم الإجراءات الأمريكية، وكـذريعة تُتيح التدخل الأمريكي المُباشر في فنزويلا.

الدوافع الاستراتيجية الأمريكية.. الورقة الرابحة:

هُناك عدة دوافع استراتيجية وراء إعلان تنفيذ الضربات العسكرية في الكاريبي وشرق الهادئ، حيث تَسعي إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلي تحقيقها وهي:

1- القضاء على عصابات تهريب المُخدرات: في سبتمبر 2025، أعلن الرئيس الأمريكي أنه تم تنفيذ ضربة عسكرية في البحر الكاريبي ضد ما وصفه بـ "عصابة فنزويلية"، حيث برّرت الإدارة الأمريكية هذه الضربات بوجود صراع مسلح مع "كارتلات المُخدرات"، لكن سُرعان ما توسعت العملية العسكرية حتي شملت ضربات في شرق المحيط الهادئ.وفي هذا الصدد تم عقد جلسة سرية في الكونجرس، حيث تمت مُناقشة الإحاطة المُقدمة من وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، والتي تُفيد بأن الولايات المُتحدة الأمريكية قد أصدرت أمر التنفيذ بشنّ حملة عسكرية ضد قوارب يُشتبه في تورطها في تهريب المُخدرات، لكنها لا تُخطط حاليًا لتنفيذ ضربات داخل الأراضي الفنزويلية، حيث إنها لا تملك أساسًا قانونيًا يُبرر شَنّ هجمات علي أي أهداف برية في الوقت الراهن، وذلك وفقًا لجريدة الشرق الأوسط.

2- السيطرة علي الموارد النفطية الفنزويلية: تمتلك فنزويلا أكبر احتياطي نفطي في العالم، حيث يُقدر بنحو 300 مليار برميل، وهو ما يَجعل عيون أكبر الدول في النظام العالمي تَقع نصب "الذهب الأسود" الفنزويلي. ومن جانبها وجهت كراكاس اتهامات لواشنطن بأن حرب المُخدرات ما هي إلا ذريعة للاستيلاء على النفط الفنزويلي. كذلك فقد تمت الإشارة إلي أن الاستخبارات الأمريكية قد حددت بالفعل مواقع مُنشآت عسكرية و"نفطية" داخل فنزويلا، قد تكون ضمن قائمة أهداف مُحتملة في إطار الحملة العسكرية الأمريكية، وذلك بحسب ما ذكرته جريدة نيويورك تايمز.

3- الضغط على دول أمريكا اللاتينية: تُريد الولايات المُتحدة الأمريكية أن تُلقي العملية العسكرية على فنزويلا بظِلالها علي باقي دول القارة اللاتينية، مُتبعة في ذلك "سياسة العصا" حتي يُحيط بهم الخوف من تكرار السيناريو معهم. خاصةً أنه مع تولي الرئيس الأمريكي "ترامب" الحُكم، باتت العلاقات متوترة مع بعض الدول اللاتينية، مثل كولومبيا، حيث نشر "ترامب" علي منصة "تروث سوشيال" منشورًا واصفًا فيه نظيره الكولومبي "جوستافو بيترو" بأنه "زعيم مُخدرات غير شرعي"، مُضيفًا: "منذ اليوم، لن تُقدم أي مُساعدات أمريكية إلي كولومبيا".

4- الحد من النفوذ الصيني والروسي: دائمًا ما يُشار إلي دول أمريكا اللاتينية على أنها "الحديقة الخلفية" للولايات المُتحدة الأمريكية، أي إن أمريكا تعتبرها تحت نطاق سيطرتها وأي اختراق من طرف آخر هو بمثابة اعتداء على الأمن القومي الأمريكي. وفقًا لتلك النظرية فإن أمريكا تَشنّ عملية عسكرية على فنزويلا بهدف توجيه "رسالة ردع" للحد من تواجد "التنين الصيني" ومنع توغل "الدُب الروسي". خاصةً أن التقارير تُشير إلي تلقي نظام "مادورو" دعمًا عسكريًا واقتصاديًا من كلتا الدولتين.

الداخل الفنزويلي.. انقسام الصف بين مؤيد ومعارض:

تُعاني فنزويلا من انقسامات داخلية حادة، حيث تتبني الحكومة موقفها الرسمي الرافض لما اعتبرته "تدخلا سافرا" من الولايات المتحدة الأمريكية في شئونها الداخلية، وبين تأييد "قائدة المعارضة" لشَنّ ضربات من شأنها إسقاط مادورو. وجاء المشهد الداخلي في فنزويلا علي الوجه التالي:

·   الموقف الرسمي الفنزويلي: "إنهم يسعون لتغيير النظام من خلال التهديد العسكري.. وإذا تعرضت فنزويلا لهجوم، فسنلجأ فورًا إلى الكفاح المُسلح دفاعًا عن أراضينا".. هكذا جاء رد الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، بعد حرب التصريحات التي أطلقتها الولايات المُتحدة الأمريكية. حيث أعلن أنه على أتم الاستعداد لإعلان بلاده "جمهورية مُسلحة"، وهو ضمن حق فنزويلا في الرد على أي عدوان خارجي. مُتهمًا وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بمحاولة تنفيذ مُخطط يهدُف إلى تخريب منشآت استراتيجية في البلاد للإضرار بالاقتصاد الفنزويلي وإسقاط النظام الشرعي.

·   تفعيل الضوء الأحمر: أعلن الرئيس "مادورو" عن رفع الجاهزية الكاملة للقوات المسلحة، حيث أمر بنشر أسلحة ثقيلة وصواريخ في المنطقة المطلة على الساحل الكاريبي. كذلك تم تفعيل قانون "قيادة الدفاع الشامل للأمة"، وذلك لتجنيد قوات دفاع عسكرية ومدنية في جميع المحافظات. علاوةً على ذلك طالب الرئيس الفنزويلي"نيكولاس مادورو"الجيش والمجموعات المسلحة البوليفارية وأفراد قوات الدفاع الشعبي بحماية المواقع الحيوية في البلاد.

·   موقف المُعارضة الفنزويلية: هُناك حالة انقسام داخل المُعارضة الفنزويلية، حيث إن بعض قادة المعارضة وعلى رأسها "ماريا كورينا ماتشادو" عبروا علنًا عن تأييد العملية العسكرية الأمريكية، حتى يتم الضغط على نظام "مادورو" وإسقاطه. فيما أعلن البعض الآخر عن رفضه لفكرة التدخل العسكري والتمسك بـ"الحلول الدبلوماسية السلمية" لإقناع نظام "مادورو" بالتخلي عن حُكمه. جدير بالذكر أن رئيسة المُعارضة الفنزويلية "ماريا ماتشادو" هي الفائزة بجائزة نوبل للسلام 2025، وهو دعم واضح وعلني من الإدارة الأمريكية للمُعارضة الفنزويلية، وقبولها من "ماتشادو" يَعني قبولها لسلسلة الضغوطات التي تُمارسها الولايات المُتحدة الأمريكية على بلادها.

السيناريوهات المحتملة:

هُناك عدد من السيناريوهات المُحتملة التي تَضعنا أمام نظرة بانورامية للمشهد المُتفاقم بين واشنطن وكراكاس، وهي:

1- توسع نطاق العمليات العسكرية: من المُمكن أن تقوم الولايات المُتحدة الأمريكية، بتوسيع عملياتها لتشمل الداخل الفنزويلي، من خلال شَنّ غارات جوية تستهدف المُنشآت العسكرية والنفطية. يأتي ذلك في ظل إعلان الرئيس الأمريكي ترامب إغلاق المجال الجوي فوق فنزويلا ومحيطها بالكامل، وهو ما يُنذر باحتمالية عمل عسكري بري محدود.

2- الإطاحة بنظام مادورو: "حرب المُخدرات" ليست سوى سِتار تستخدمه الإدارة الأمريكية لتحقيق هدفها الأول وهو الإطاحة بنظام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو. ومن هذا المُنطلق يُمكن أن تستخدم الولايات المُتحدة الأمريكية من "العقوبات" و"الردع العسكري" كِورقة ضغط مُمتدة حتى يسقط مادورو، أو تقوم الإدارة الأمريكية بعملية سرية لاعتقال مادورو بصفته داعما لحركات إرهابية، علي حد وصفهم.

3- طلب اللجوء السياسي: بناءً علي ما تقدم إذا خرجت الأمور عن السيطرة وسقط نظام مادورو، قد يطلب اللجوء من إحدى الدول. وهو ما أشارت إليه صحيفة "واشنطن بوست" التي ذكرت أن هُناك مؤشرات مُتزايدة على إمكانية استقبال الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" للرئيس الفنزويلي "مادورو"، مُضيفة أن كلا الرئيسين تجمعهما "علاقات قوية".

4- تغليب الحلول الدبلوماسية: قد تضطر كُل من واشنطن وكراكاس في النهاية إلي تغليب العقل والعودة إلي طاولة المُفاوضات، ولكن من المُرجح أن يكون لدى الولايات المُتحدة الأمريكية في تلك الحالة "الورقة الرابحة".

ختامًا:

قد يكون السيناريو الأكثر ترجيحًا هو الاكتفاء بعمل بري محدود ثم اللجوء إلي طاولة المُفاوضات، لكن تطورات السياسة العالمية لم تضع ثوابت وكُل شئ أصبح مُمكن الحدوث. وعلى الأرجح أن ما يزيد الأمور تعقيدًا هي أن خلفية الصراع بين الطرفين مُحتدمة منذ عهود، ولكن ما يزيد الأمور كارثية هي أن الوضع الداخلي في فنزويلا على كافة المستويات غير مُحتمل لدق طبول الحرب أو فرض مزيد من العقوبات.


رابط دائم: