مصر: واحة الأمان والاستقرار في إقليم مضطرب
30-11-2025

أحمد ناجي قمحة
* رئيس تحرير مجلتى السياسة الدولية والديمقراطية

في 27 نوفمبر الجاري، أعلنت وزارة التخطيط والتنمية الاقتصاديّة والتعاون الدولي عن ارتفاع مُعدّل نمو الناتج الـمحلي الإجمالي لـمصر خلال الرُبع الأول من العام الـمالي 2025/2026، حيث سجّل نسبة 5.3%، مُقارنة بمُعدّل نمو بلغ 3.5 % في الرُبع الـمُناظِر من العام الـمالي السابق. وجاء هذا النمو المتسارع مدعومًا باستمرار وتيرة تنفيذ الإصلاح الاقتصادي والهيكلي الذي يستهدف دعم الاقتصاد الحقيقي، وتمكين القطاع الخاص، وتحول الاقتصاد نحو القطاعات القابلة للتبادل التجاري ذات الإنتاجية المرتفعة كالصناعة والسياحة والاتصالات.

وقد جاء النمو خلال الربع الأول من العام المالي 2025/2026 مدعومًا بالتوسع الملحوظ في عدد من القطاعات بما يشمل قطاعات الصناعة والسياحة والاتصالات وتكنولوجيا المعلوماتهذا بالإضافة إلى تعافي نشاط قناة السويس ليسجل نموًا موجبًا للمرة الأولى منذ الربع الثاني للعام المالي 2023/2024.

في الوقت نفسه، أظهرت بيانات وزارة السياحة أن عدد السياح الوافدين تجاوز 16 مليون سائح في الأشهر العشرة الأولى من 2025، بزيادة 21% عن نفس الفترة من 2024، متجهًا نحو رقم قياسي يتراوح بين 18.5 و20 مليون بنهاية العام. وفي الخلفية، تستمر إيرادات قناة السويس في التعافي بقوة، مسجلة زيادة 28% في نوفمبر 2025 مقارنة بنوفمبر 2024، مع توقعات تصل إلى 4.2 مليار دولار بنهاية السنة.

هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات اقتصادية عابرة، إنها دليل مادي على أن مصر نجحت – في واحد من أسوأ السياقات الإقليمية في التاريخ الحديث – في بناء نموذج “الدولة التنموية” (Developmental State)، بصورة أكثر نجاحًا واستدامة من أي دولة عربية أخرى منذ عقود.

ولكن ماذا نعني بالدولة التنموية، وما ارتباط ذلك بنظام الحكم؟ من زاوية الدولة التنموية يوضح شالمرز جونسون (1982) أنها تلك الدولة تمتلك نخبة بيروقراطية كفؤة، وتدخلًا مركزيًا ذكيًا في الاقتصاد يجمع بين التخطيط الاستراتيجي والحوافز السوقية، بالإضافة إلى تحقيق "استقلالية متأصلة" (Embedded Autonomy)، وهي كما طورها بيتر إيفانز (1995)، تجمع بين العزلة البيروقراطية والارتباط الوثيق بالبنية الاجتماعية المحيطة. حيث يُدمج فيها استقلال الدولة في مجموعة ملموسة من الروابط الاجتماعية التي تربطها ارتباطًا وثيقًا بالمجتمع وبفئات اجتماعية محددة، مما يوفر قنوات مؤسسية للتعديل والتحول المشترك المستمر للأهداف والسياسات. ففي اليابان، يُنشئ التوظيف الانتقائي للغاية لموظفي الخدمة المدنية، والمكافآت طويلة الأجل القائمة على الجدارة التزامًا وشعورًا بالتماسك المؤسسي. وبالتالي، يرتبط سلوك البيروقراطيين بالسعي لتحقيق أهداف جماعية بدلًا من الفرص الفردية التي يوفرها السوق، مما يسمح للدولة بالتصرف باستقلالية عن بعض الضغوط المجتمعية، إن القاسم المشترك بين مفهوم جونسون للدولة التنموية ومفهوم إيفانز للاستقلالية الراسخة يتعلق بدور الدولة كشريك للقطاع الخاص في التحول الصناعي الوطني. فالدولة جهة محفزة، ويستجيب المدراء للحوافز والعوائق التي تفرضها.

أما أتول كوهلي ففي كتابه بعنوان"التنمية الموجهة من خلال الدولة: السلطة السياسية والتصنيع في المحيط العالمي" الصادر عام 2004، فقد حلل دور الدولة في التنمية الاقتصادية من خلال مقارنة أنماط مختلفة للدول، مثل الدول الرأسمالية المتماسكة (مثل كوريا الجنوبية)، والدول الريعية (مثل نيجيريا)، والدول المفتتة متعددة الطبقات (مثل البرازيل والهند). هنا، يمكن القول بأن مصر منذ 2014 تندرج بوضوح تحت النمط الثالث؛ دولة رأسمالية متماسكة تمتلك نخبة حاكمة موحدة الهدف، قادرة على توجيه رأس المال الوطني والأجنبي نحو أهداف تنموية طويلة الأمد بدلاً من الاستهلاك الريعي أو الفساد المفتت.

إلى جانب ذلك، يأتي إطار ”السعة المؤسسية للدولة“ (State Capacity) كما طوره فرانسيس فوكوياما (2014)، ودارون أسيمو غلو وجيمس روبنسون (2012). حيث أكدوا أن الدول ذات السعة العالية تمتلك مؤسسات شاملة ومتكاملة (Inclusive Institutions) قادرة على استخراج الموارد وإعادة توزيعها تنمويًا، بينما تنهار الدول ذات المؤسسات الاستخراجية (Extractive Institutions) عند أول أزمة كبرى. مصر نجحت في التحول من مؤسسات شبه استخراجية في عصر مبارك إلى مؤسسات شاملة نسبيًا عالية السعة بعد 2014، وهو ما يفسر قدرتها على امتصاص صدمات متتالية (جائحة كورونا، حرب أوكرانيا، أزمة البحر الأحمر، حرب غزة، حرب إيران) وتحويلها إلى فرص نمو.

أما من منظور نظم الحكم، فإن صامويل هانتينغتون في كتابه "النظام السياسي في مجتمعات متغيرة" (1968)، يقول إن الاستقرار في المجتمعات المتحولة لا يأتي من التحول الديمقراطي السريع، بل من قدرة النظام على بناء مؤسسات قوية قادرة على استيعاب المطالب الاجتماعية الجديدة وتوجيهها. لذا، فإن تجربة 30 يونيو 2013 كانت هي بالضبط "التصحيح الثوري" الذي تحدث عنه هانتينغتون؛ حيث أنهت الفوضى التي أدعوا أنها خلاقة، وأعادت بناء نظام سياسي مؤسسي قادر على التنمية.

مصر ليست مجرد واحة أمان واستقرار وسط إقليم مضطرب تكاد تتداعى أركانه، بل هي الدولة التنموية الوحيدة الناجحة في العالم العربي في القرن الحادي والعشرين، والتي نجحت في تحويل الاستقرار السياسي إلى مؤسسية عالية، ثم إلى نمو اقتصادي مستدام، ثم إلى مكانة إقليمية وفاعلية في الدور الدولي لا يمكن الاستغناء عنها، وكل ذلك في أسوأ سياق جيوسياسي ممكن.

السياق الإقليمي: لماذا انهارت الدول الريعية وصمدت الدولة التنموية المصرية؟

المنطقة العربية تعيش منذ 2011 أسوأ موجة انهيار دول منذ نهاية الاستعمار. لبنان يحاول بمساندة كاملة من الدولة المصرية من النجاة من مصير الدولة الفاشلة، السودان غرق في حرب أهلية ثالثة، ليبيا ما زالت مقسمة بين دولتين ومئات الميليشيات، اليمن في عامه الحادي عشر من الحرب، سوريا مدمرة تماماً، العراق ما زال يعاني ومهدد أكثر من أي وقت مضى. حتى الدول الأكثر استقرارًا مثل تونس تعاني ركودًا اقتصاديًا مزمنًا.

السبب النظري واضح عندما نطبق نظرية الدولة الريعية (Rentier State Theory) التي طورها حسين مهدوي وحازم الببلاوي في الثمانينيات. فمعظم الدول العربية كانت دولاً ريعية تعتمد على تصدير المواد الخام أو التجارة دون بناء قاعدة إنتاجية متنوعة. عندما جاءت صدمة 2011، تحول الريع من مصدر استقرار إلى مصير صراع على توزيعه، فانهارت الدولة لأنها لم تكن تمتلك سعة مؤسسية حقيقية خارج آلية توزيع الريع.

مصر كانت مختلفة تاريخيًا، حتى في عصر عبد الناصر والسادات ومبارك، لم تكن ريعية بحتة مثل دول الخليج أو ليبيا أو سوريا أو العراق أو السودان أو اليمن. حيث كانت مصر دائمًا دولة إنتاجية نسبيًا (زراعة، صناعة، سياحة، قناة). لكن التحول الحقيقي حدث بعد 2014 عندما قررت القيادة السياسية ممثلة في الرئيس عبدالفتاح السيسي الخروج النهائي من النموذج الريعي-الشعبوي والدخول في نموذج الدولة التنموية المتماسكة.

ففي حين انشغلت دول أخرى بتوزيع الريع المتناقص، وجهت مصر كل مواردها (بما فيها الاستثمارات الخليجية الضخمة) نحو بناء بنية تحتية إنتاجية؛ توسيع القناة، بناء مدن جديدة، إنتاج كهرباء فائض 45%، شبكة طرق 7500 كم جديدة، اكتشافات غاز كبيرة مثل حقل ظهر. هذا هو بالضبط ما فعلته كوريا الجنوبية في الستينيات عندما حولت المساعدات الأمريكية من استهلاك إلى استثمار إنتاجي.

لذا، بينما ينهار الجنيه اللبناني بنسبة 98% والليرة السورية 99%، يحافظ الجنيه المصري على استقرار نسبي رغم كل الصدمات، والاقتصاد ينمو بـ5.3% في 2025 بينما المنطقة كلها في انكماش أو ركود.

 

الأسباب التاريخية والمؤسسية: استمرارية الدولة المصرية وتحولها إلى دولة تنموية متماسكة

مصر هي الدولة الوحيدة في التاريخ البشري التي حافظت على استمرارية دولتها المركزية لأكثر من 7000 سنة. هذه ليست مبالغة قومية، بل حقيقة مؤسسية. من عصر الأسرات حتى محمد علي حتى عبد الناصر حتى السيسي، كان هناك دائمًا ثلاثة عناصر ثابتة: جيش وطني مؤسسي، بيروقراطية مركزية قوية، وشرعية أداء (performance legitimacy)، مبنية على تقديم الخدمات والأمن للمواطن.

لكن اللحظة الفارقة كانت 30 يونيو 2013. في ذلك اليوم، أنهت مصر التجربة الثورية التخليقية الإخوانية، التي كانت ستحولها إلى دولة فاشلة مثل العديد من النماذج العربية المحيطة بنا، ودخلت مرحلة "إعادة بناء الدولة" بصورة منهجية غير مسبوقة. في أقل من 11 سنة، أعادت مصر بناء سعة دولتها بشكل جذري:

1. إعادة تحديث وتطوير الجيش الوطني، والتوسع في مهامه التي لم تعد تقتصر على الدفاع عن حدود الوطن وترابه المقدس، بل في التحول ليكون مؤسسة تنموية وطنية تشارك في كل المشاريع القومية الكبرى.

2. إنشاء هيئات تنموية عالية الكفاءة؛ مثل الهيئة الاقتصادية لقناة السويس، اللجنة الوطنية لتنمية سيناء، الصنادبق السيادية، المجلس الأعلى للاستثمار.

3. تطبيق مبدأ الاستقلالية المدمجة ببراعة؛ حيث قطعت الدولة علاقتها بالنخب الريعية القديمة (رجال أعمال الإخوان وفلول مبارك)، لكنها بنت شراكات استراتيجية مع رأس المال الخليجي والصيني والأوروبي في إطار أهداف تنموية واضحة جدًا.

هذا التحول ليس صدفة، بل إنه تطبيق عملي لما دعا إليه أتول كوهلي عندما قال إن الدول الرأسمالية المتماسكة هي الوحيدة القادرة على تحقيق نمو سريع ومستدام في سياقات متخلفة. مصر اليوم تفعل الشيء نفسه، ودليل النجاح أنها الدولة العربية الوحيدة التي خرجت من أزمة 2011 أقوى مما كانت، بينما الباقون إما انهاروا أو ما زالوا يعانون.

 

البعد الأمني: احتكار القوة الشرعية كأساس للتنمية المستدامة

في كل تجارب الدول التنموية الناجحة، كان الشرط الأول هو استعادة احتكار الدولة للقوة (ماكس فيبر). بدون ذلك، لا يمكن توجيه الموارد نحو التنمية. مصر طبقت هذا المبدأ ببراعة استثنائية: • القضاء على الإرهاب في سيناء بنسبة 100 % بحلول 2025 لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل مشروع تنموي شامل (طرق، مدن جديدة، استثمارات بمليارات الدولارات).

• تأمين قناة السويس من مضيق باب المندب إلى البحر المتوسط، الأمر الذي حقق إيرادات قياسية رغم أزمة البحر الأحمر.

• منع انزلاق الحدود مع غزة وليبيا والسودان إلى فوضى شاملة، بل وحولت مصر نفسها إلى الوسيط الوحيد المقبول في كل الأزمات الإقليمية.

الفرق بين مصر ودول أخرى واضح: في العراق وسوريا وليبيا، فقدت الدولة احتكار القوة ومؤسسات إنفاذ القانون فتحول الجيش إلى ميليشيات طائفية، وانهار كل شيء. في مصر، بقي الجيش مؤسسة وطنية فوق أي طائفية أو عشائرية كميزة تاريخية وعقيدة ثابتة، وتحول إلى أصل تنموي حقيقي يبني المدن والمصانع ومحطات الطاقة والمشاريع القومية الكبرى.

وكانت نتيجة ذلك أن تمتعت مصر بأمن داخلي كامل يسمح للسياح بالقدوم بالملايين، وللمستثمرين بالتخطيط لعقود قادمة، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأمريكي ترامب على متن طائرته وهو عائد من شرم الشيخ بعد التوقيع على ضمانة تنفيذ اتفاق شرم الشيخ للسلام.

 

البعد الاقتصادي: من الاقتصاد المقاوم إلى الإقلاع التنموي الحقيقي

الأرقام في نوفمبر 2025 مذهلة بكل المقاييس:

• نمو 5.3% في الربع الأول 2025/2026 رغم كل الحروب المحيطة.

• أكثر من 16 مليون سائح في 10 أشهر، والأرقام تتجه نحو 19-20 مليون بنهاية العام.

• استثمارات أجنبية مباشرة تجاوزت 9 مليار دولار في النصف الأول 2025 فقط.

• فائض إنتاج كهرباء 45%، إيرادات قناة السويس تتعافى بقوة، مشاريع عملاقة مثل رأس الحكمة والعاصمة الإدارية والدلتا الجديدة.

هذا ليس مجرد تعافي، إنه تحول هيكلي عميق يشبه تمامًا "معجزة نهر الهان" في كوريا الجنوبية. مصر طبقت وبدقة شديدة ما يسميه ها جون تشانغ “السياسات الصناعية الذكية”:

• استثمار تريليونات الجنيهات في البنية التحتية من 2014 إلى 2025.

• دعم القطاعات الاستراتيجية (غاز شرق المتوسط، طاقة متجددة، تصنيع عسكري، ذكاء اصطناعي).

• توجيه الاستثمارات الخليجية الضخمة (رأس الحكمة 35 مليار، صفقات إماراتية-سعودية-قطرية جديدة في 2025) نحو مشاريع إنتاجية حقيقية وليس سداد ديون فقط.

وكانت النتيجة لمن لا يرى في تحقيق معادلات متقدمة لاقتصاد مقاوم قادر على النمو بأكثر من 5% سنوياً حتى في أسوأ الظروف الجيوسياسية – وهو أداء لم تحققه أي دولة عربية أخرى منذ السبعينيات.

 

البعد الدبلوماسي: تصدير الاستقرار كجزء أصيل من الاستراتيجية التنموية

الدول التنموية الناجحة لا تعزل نفسها أبدًا عن محيطها الإقليمي، بل تحول موقعها الجيوسياسي من عبء محتمل إلى أصل استراتيجي حقيقي. سنغافورة تحت "لي كوان يو" لم تكتفِ ببناء اقتصاد داخلي قوي، بل صدرت الاستقرار من خلال تحالفات اقتصادية مع جيرانها في آسيان، مما ضمن أسواق تصدير آمنة وتدفق استثمارات مستمر. كوريا الجنوبية في عهد "بارك تشونغ هي" بنت تحالفًا أمنيًا حديديًا مع الولايات المتحدة، فحولت التهديد الكوري الشمالي إلى مظلة أمنية سمحت لشركات محلية بالنمو العالمي. الصين في عصر "شي جين بينغ" استخدمت دبلوماسية الحزام والطريق لتصدير الاستقرار الاقتصادي، فبنت موانئ وطرق في عشرات الدول، بما يضمن أمن إمداداتها وأسواق تصديرها في الوقت نفسه.

مصر في 2025 تفعل الشيء نفسه، لكن ببراعة تفوق كل هذه النماذج لأنها تفعله في أسوأ بيئة جيوسياسية ممكنة. القاهرة لم تعد مجرد وسيط، بل أصبحت الدولة الوحيدة في الإقليم التي يستطيع جميع الفرقاء الجلوس فيها معًا دون أن يقتلوا بعضهم.

ودعونا نرصد أن في نوفمبر 2025 وحده:

• توسطت مصر مع قطر وتركيا في مناقشات المرحلة الثانية من هدنة غزة، وهي الهدنة التي استمرت أطول فترة منذ 2023، وحولت غزة من كارثة يومية إلى مشروع تعافي وإعادة إعمار محتمل.

• استضافت قمم شبه يومية حول إعادة إعمار غزة بحضور أوروبي وأمريكي، وأعلنت عن دعم أوروبي جديد للمشروعات المصرية في سيناء كجزء من الحزمة.

• في لبنان، أكد معالي وزير الخارجية د. بدر عبدالعاطي دعم مصر الكامل لخطة الرئيس جوزيف عون لعودة الجيش اللبناني إلى الجنوب ونزع سلاح حزب الله تدريجيًا، ورفضت مصر أي انتهاك إسرائيلي لسيادة لبنان رغم الـ10,000 انتهاك إسرائيلي للهدنة منذ نوفمبر 2024.

• تستمر مصر في الحديث مع إيران وإسرائيل في نفس الأسبوع، مع روسيا وأمريكا في نفس اليوم، مع الفرقاء في الإقليم مهما بلغت تحفظاتها على سياستهم كل ساعة، متخذة من مبدأ الرئيس السيسي "نحن دولة تمارس السياسة الخارجية بشرف في وقت عز فيه الشرف" عنوانًا لها.

فدعم الهدنة في غزة يعني ملايين السياح الإضافيين فورًا (السياحة قفزت 21% في 2025 بالضبط بسبب الهدن المتتالية التي توسطت فيها مصر). كل قمة في القاهرة تعني استثمارات جديدة (الاستثمارات الأوروبية والأمريكية في الطاقة المتجددة والغاز زادت بنسبة ملحوظة بعد كل قمة). كل وساطة تعزز مكانة مصر كـ”الشريك الوحيد الموثوق” في المنطقة، مما يجعل الجميع – حتى الأعداء – يأتون إلى القاهرة لطلب المساعدة.

هذه ليست دبلوماسية تقليدية تهدف إلى “التوازن” فقط، بل دبلوماسية تنموية حقيقية تحول التهديدات الإقليمية إلى فرص اقتصادية مباشرة، تمامًا كما فعلت سنغافورة وكوريا والصين، لكن في منطقة أشد حرارة وفوضى بمليون مرة.

 

التحديات الداخلية: مواجهة الواقع بمنهج تنموي صلب وغير واهم

الدولة التنموية الناجحة لا تكذب على نفسها ولا تخفي مشاكلها. كوريا الجنوبية في السبعينيات كانت تعاني فقرًا مدقعًا وديونًا هائلة، لكنها واجهتها بسياسات قاسية ومنهجية. مصر 2025 تفعل الشيء نفسه. نعم، التحديات موجودة وحقيقية، ولكن:

• التضخم تراجع إلى أقل من 20% في نوفمبر 2025 (بعدما كان فوق 30% في 2024)، لكنه ما زال يؤثر على الطبقة الوسطى.

• الدين الخارجي كبير، لكن نسبته إلى الناتج المحلي تنخفض تدريجيًا (من 92% في 2023 إلى أقل من 88% متوقع في 2025/2026 حسب صندوق النقد).

• الضغط السكاني هائل (108 مليون نسمة اليوم، ومن المتوقع 120 مليون بحلول 2035).

• أزمة المياه مستمرة، خاصة مع تحديات السد الإثيوبي وتغير المناخ.

لكن الفرق أن مصر لا تنهار تحت هذه التحديات كما انهارت دول أخرى، بل تحول تحدياتها إلى فرص ومشاريع تنموية حقيقية:

• برامج الحماية الاجتماعية الأكبر في تاريخ مصر: تكافل وكرامة تغطي الآن أكثر من 5.5 مليون أسرة (أكثر من 22 مليون مواطن)، مع زيادة الدعم النقدي بنسبة 25% في 2025.

• مشاريع التحلية العملاقة: خطة بـ20-25 مليار دولار حتى 2030، مع 21 محطة جديدة في المرحلة الأولى، وإنتاج يومي سيصل إلى 8.5 مليون متر مكعب يوميًا بحلول 2030 (من 1.5 مليون فقط في 2020).

• المدن الجديدة ليست رفاهية، بل حل سكاني: العاصمة الجديدة، العلمين الجديدة، المنصورة الجديدة، شرق بورسعيد، وغيرها، كلها تستوعب 30-40 مليون نسمة في العقود القادمة، مع نقل الحكومة بالكامل تقريبًا بحلول 2026 إلى العاصمة الجديدة.

نفس هذه التحديات أسقطت دولاً أخرى لأنها كانت تُدار بشعبوية أو فساد. في مصر، تُدار بمنهج تنموي صلب؛ كل أزمة تتحول إلى مشروع، وكل مشروع يولد فرص عمل ونمو، وكل نمو يمول المشروع التالي.

 

رؤية 2030: الضمانة المؤسسية الأقوى لاستمرار النموذج التنموي المصري

رؤية مصر 2030 لم تعد مجرد وثيقة استراتيجية، بل تحولت فعليًا إلى "عقد اجتماعي جديد" بين الدولة والشعب، يُنفذ يوميًا بمنهجية منضبطة ومتابعة لحظية من أعلى مستوى في الدولة. عام 2025 هو العام الذي انتقلت فيه الرؤية من مرحلة "التنفيذ" إلى مرحلة "الحصاد المبكر"، وأصبحت النتائج مرئية لكل مواطن في الشارع، ولكل مستثمر أجنبي يزور مصر.

في نوفمبر 2025 تحديدًا:

• العاصمة الجديدة تجاوزت 82% من التنفيذ الكلي، وانتقلت بالفعل 42 وزارة وهيئة حكومية إلى مقراتها الجديدة، وأصبح الحي الحكومي يعمل بكامل طاقته. الرئيس نفسه يعقد معظم مؤتمراته الإقليمية والمحلية الكبرى هناك، وهذا ليس مجرد نقل جغرافي، بل نقل لفلسفة الحوكمة كلها: كفاءة، شفافية، سرعة اتخاذ القرار.

• الطاقة المتجددة قفزت من 12% في 2018 إلى 29.4% في نوفمبر 2025 (بيانات رسمية من وزارة الكهرباء)، ومجمع بنبان الشمسي أصبح أكبر مجمع طاقة شمسية في العالم، ومشروعات غرب النيل وزعفرانة وخليج السويس الجديدة تضيف 4.8 جيجاوات جديدة في 2025-2026. الهدف 42% في 2030 لم يعد طموحًا بعيدًا، بل أصبح هدفًا وسيطًا سيتم تجاوزه قبل 2028 بإذن الله.

• التحول الرقمي حقق قفزة تاريخية: 94.7% من الخدمات الحكومية أصبحت إلكترونية بالكامل، مصر تقدمت 58 مركزًا في مؤشر الحكومة الإلكترونية للأمم المتحدة (من المركز 112 إلى 54 في 2025)، ووزارة الاتصالات أعلنت أن مساهمة الذكاء الاصطناعي في الناتج المحلي ستصل إلى 7.7% بحلول 2030، وهذا الرقم ليس توقعًا، بل حسابًا مبنيًا على مشاريع قائمة بالفعل (مثل مركز بيانات العاصمة الجديدة، ومنصة مصر الرقمية التي تخدم 70 مليون مواطن شهريًا).

• شبكة الطرق الوطنية وصلت إلى أكثر من 7600 كم جديدة منذ 2014، و30 ألف كم تم تطويرها وتوسعتها. 24 مدينة من الجيل الرابع تعمل الآن بكامل طاقتها، ومشروع الدلتا الجديدة (2.2 مليون فدان) وتوشكى الجديدة وشرق العوينات يحولان الصحراء إلى أرض خضراء حقيقية، لدرجة أن صور الأقمار الصناعية لمصر في 2025 تظهر لونًا أخضر لم يكن موجودًا في 2014.

• مشروع حياة كريمة – أكبر مشروع تنموي ريفي في التاريخ –، وصل إلى 58 مليون مواطن في 4800 قرية، وغيّر وجه الريف المصري تغييرًا جذريًا، وخفض معدلات الفقر المدقع في الصعيد من 56% في 2018 إلى أقل من 19% في 2025.

كل هذا ليس مجرد إنجازات، بل هو تطبيق عملي لكل ما تحدثنا عنه في هذا المقال:

الدولة التنموية المتماسكة (كوهلي)،

الاستقلالية المتأصلة (إيفانز)،

السعة المؤسسية العالية (فوكوياما)،

التصحيح الثوري (هانتينجتون)،

بما يعني رفض النموذج الريعي والشعبوي، وبناء شرعية أداء حقيقية يراها المواطن كل يوم في حياته.

يخلص هذا المقال التحليلي إلى أن مصر نجحت، وحدها في العالم العربي المعاصر، في بناء نموذج دولة تنموية متماسكة عالية السعة (Cohesive High-Capacity Developmental State) وسط أشد السياقات الإقليمية اضطرابًا في التاريخ الحديث. هذا النجاح لم يكن نتاج ظروف موضوعية استثنائية بقدر ما كان نتاج اختيار سياسي ومؤسسي واعٍ ومنضبط، استلهم أفضل ما في التجربة الآسيوية (كوريا الجنوبية، سنغافورة، الصين) دون تقليد أعمى، وأعاد صياغته في قالب مصري أصيل يحترم استمرارية الدولة المركزية عبر خمسة آلاف عام، ويستفيد من الموقع الجيوسياسي بدلاً من أن يُقهر به، والفضل في ذلك لرؤية قائد وضع السياسات العامة التي تضمنتها الاستراتيجيات والخطط التنموية بما يُلائم تحديات الداخل ومعطيات الإقليم وسياقات المجتمع الدولي.

وبالتالي، فإن الاستثناء المصري لم يعد لغزًا يحتاج إلى تفسير، بل أصبح نموذجًا قابلًا للدراسة والتعميم – بشرط توفر الشروط الثلاثة غير القابلة للمساومة: نخبة متماسكة، سعة مؤسسية عالية، وشرعية أداء مبنية على نتائج ملموسة يوميًا.

في منطقة تبدو وكأنها محكومة بالانهيار الدائم، تقف مصر اليوم كأول دليل تجريبي ناجح في العصر الحديث على أن التنمية الموجهة من دولة قوية وواعية ليست خيارًا آسيويًا حصريًا، بل هي السبيل الوحيد الممكن والمجرب للخروج من دائرة الهشاشة والتخلف والحروب الأهلية.

وما دامت مصر ملتزمة بهذا الطريق – طريق المؤسسات القوية، والقيادة الواعية، والرؤية طويلة الأمد – فإنها لن تظل مجرد واحة أمان واستقرار وسط صحراء مشتعلة، بل ستبقى النموذج الحي الوحيد في العالم العربي الذي يثبت، للتاريخ وللأجيال القادمة، أن الأمة العربية قادرة – إذا أرادت حقًا، وإذا اختارت الطريق الصحيح – على بناء معجزتها التنموية الخاصة، وتحويل أسوأ الظروف إلى أعظم الإنجازات.

مصر أيها السادة ليست استثناءً عرضيًا في التاريخ العربي المعاصر، بل هي البرهان الحي على أن صناعة المستقبل اليوم ممكنة.

 

 


رابط دائم: