حظَت الانتخابات المحلية الأمريكية الأخيرة باهتمام كبير، خاصة في نيويورك، ليس لأنها فقط تعد عاصمة الرأسمالية الأمريكية، بل أيضًا بسبب الجدل داخل الحزب الديمقراطي حول البرامج التقدّمية التي يطرحها السياسي الاشتراكي من أصول آسيوية جنوبية والمولود في أوغندا، زهران ممداني. إذ يمثّل فوزه تحوّلًا لافتًا في الخطاب السياسي داخل التيار الديمقراطي التقدّمي، ويعكس تصاعد نفوذ الجناح التقدمي اليساري داخل الحزب في مواجهة الاتجاه الوسطي التقليدي.
فوز التقدميين ومستقبل الحزب الديمقراطي:
مؤخرًا امتزج نقاش فوز ممداني داخل دوائر صنع القرار الإيرانية، بين الشماتة السياسية، وتحليل تأثير هذا الفوز على مستقبل الحياة السياسية الأمريكية. خاصة أن نتائج الانتخابات المحلية أبرزت بوضوح صعود الجناح التقدّمي داخل الحزب الديمقراطي.
على سبيل المثال رأت صحيفة جام جم الأصولية فوز زهران ممداني، السياسي المسلم الإثني عشري، هزيمة رمزية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لا سيما في ظل سلسلة الانتصارات التكتيكية التي حققها الديمقراطيون في الولايات الزرقاء، مثل نيوجيرسي، وفيرجينيا، وكاليفورنيا، بفضل وجوه معتدلة بارزة.
اعتبرت هذه الانتصارات نتاج حالة الاستياء من ترامب ودعمه اللامشروط لإسرائيل، وشكلت دليلًا على إحياء التحالف الطبقي والعرقي داخل الحزب الديمقراطي. غير أن معارضة بعض الديمقراطيين لفوز ممداني، وصمت آخرين، تعود إلى امتعاضهم الواضح من مواقفه تجاه ساكن البيت الأبيض، ومن عدم ميله إلى كبار الديمقراطيين المخضرمين في الكونجرس الأمريكي.
وفي سياق مماثل أظهرت نتائج انتخابات أخرى فوز الديمقراطيين المعتدلين، مثل السياسية الأمريكية ميكي شيريل وأبيجيل سبانبرجر، ونجاح جافن نيوسوم في كاليفورنيا. وفي الوقت نفسه، كشفت الاتجاهات الثقافية أن الناخبين الديمقراطيين أصبحوا أكثر ليبرالية خلال العقدين الماضيين، مما يزيد من احتمال وصول التقدميين إلى قيادة الحزب.
وإذا استمر هذا الاتجاه قد يصبح الجناح التقدمي الخط الرئيسي داخل الحزب الديمقراطي، ربما في انتخابات 2026 أو 2028. وحتى إذا لم يصبح أحد التقدميين البارزين، مثل السياسية والناشطة الأمريكية "ألكساندريا كورتيز"، مرشح الحزب النهائي في 2028، فقد يضطر أي معتدل إلى تبني خطاب تقدمي داخليًا من أجل الفوز، ويترتب عليه تحول الحزب داخليًا إلى اتجاه أكثر يسارية وفي السياسة الخارجية أكثر انفصالًا عن إسرائيل.
تأثير فوز ممداني على القاعدة الحزبية للجمهوريين:
ترى طهران أن فوز زهران ممداني في انتخابات بلدية نيويورك يشكل نقطة فارقة في السياسة الداخلية الأمريكية، نقطة هزّت الأساس النفسي للحزب الجمهوري. لا سيما أن لهذا الفوز دلالات على تغيّر عميق في وعي وضمير الناخبين الأمريكيين، وهذا بالذات ما دفع الجمهوريين إلى إخراج خوفهم الكامن إلى العلن.
رأى الخط السياسي الإيراني المتشدد، وعلى رأسه وكالتا إيسنا شبه الرسمية وكيهان المقربة من القائد الأعلى الإيراني، أن الجمهوريين يدركون عواقب استمرار موجة الوحدة بين الديمقراطيين، والتي قد تزيد من احتمالية فقدان الأغلبية الجمهورية في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس عام 2026 (أو كما يصفونها بعام القرار)، الأمر الذي سيكون جديًا للغاية. وفي هذه الحالة لن تواجه خطط إدارة دونالد ترامب الرئيسية عقبات فحسب، بل سيشعر العديد من استراتيجيى الحزب بالقلق من أن يقود هذا الاتجاه في النهاية إلى هزيمة أكبر في انتخابات الرئاسة عام 2028.
وعلى ما يبدو فإن شخصيات، مثل حاكم ولاية فلوريدا "رون ديسانتيس" والسفيرة السابقة للأمم المتحدة "نيكي هايلي"، للذين يعتبران نفسيهما مرشحين محتملين للمستقبل، قد أدركا أن انتصار ترامب لم يعد ضمانًا للنجاح بسبب التغير المستمر في المعادلة الاجتماعية وترتيب الطبقات بين الناخبين، فضلا عن الخوف من ظهور ثقافة جديدة في ممارسة السياسة داخل المجتمع الأمريكي، إضافة إلى ما يرونه تهديدًا للمجتمع اليهودي الأكبر في العالم.
من هذا المنطلق اعتبرت صحيفة يسرائيل هيوم أن ما يثير قلق يهود نيويورك بشكل خاص هو موقف رئيس البلدية المنتخب من إسرائيل. فمنذ أيام دراسته الجامعية، أسس فرعًا لحركة "الطلاب من أجل العدالة في فلسطين " (SJP)، ودعا إلى مقاطعة إسرائيل. وأشارت الصحيفة إلى أنه يصف باستمرار ما يحدث في غزة بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب، بالإضافة إلى رفضه اعتماد تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست(IHRA) لمعاداة السامية، ورفضه التراجع عن شعاره الانتفاضة العالمية (Globalize the Intifada).
وردًا على هذه الهزيمة، حاول رئيس الولايات المتحدة استخدام صلاحياته الفيدرالية، الممنوحة له بموجب الدستور، للضغط على نيويورك والسيطرة عليها، سواء عبر قطع جزء من الميزانيات الفيدرالية أو فرض قيود إدارية. وتشير بعض المؤشرات إلى أن الحكومة تسعى لجعل إدارة ممداني أكثر صعوبة. ومع ذلك رجّح المراقبون أن هذا النهج الخطير قد يزيد شعبية العمدة الجديد بدل أن يضعفه، لأن الرأي العام الأمريكي غالبًا ما يقف إلى جانب السلطة المحلية حين يشعر أن السلطة المركزية تعارض إرادة الناس.
حصيلة الأمر أن ما يثير قلق الجمهوريين وحتى بعض الديمقراطيين ليس الانتخابات المحلية بحد ذاتها، بل الشعور بانهيار نوع من اليقين السياسي. فقد وصل ترامب إلى السلطة في 2024 بوعد إعادة العظمة لأمريكا، لكن بعد عام واحد، أصبحت شوارع نيويورك تحت عهدة عمدة مسلم وإصلاحي. من هنا ترى إيران أن الأمة الأمريكية تعيد تعريف نفسها، بعدما لم يعد مفهوم العظمة يندرج ضمن الشعارات القومية، إذ يسعى الناس للشعور بالعدالة والمساواة، لا مجرد سماعها.
أبعاد التحولات السياسية الأمريكية على إيران:
لعل مراقبة إيران الدقيقة للتحولات السياسية في الولايات المتحدة، تهدف إلى التقاط نقاط الضعف التي قد تزيد من فرصها في المراوغة الدبلوماسية مع واشنطن. خاصة أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لم يتوانَ في تصريحاته الأخيرة عن التباهي بقوة الهجوم الإسرائيلي على إيران، مؤكدًا أنه كان مسئولًا عنه إلى حد كبير.
كانت هذه التصريحات بالنسبة إلى طهران بمثابة اعتراف رسمي بالعدوان. وبناءً عليها وجّه المندوب الدائم لإيران لدى الأمم المتحدة رسالة إلى الأمين العام ورئيس مجلس الأمن للمطالبة بمحاسبة أمريكا وتعويض الشعب الإيراني، مشيرًا إلى أن هذا الاعتراف يثبت المسئولية المباشرة لواشنطن عن العدوان العسكري ضد إيران.
بيد أن مآلات تصريحات ترامب لا يمكن تفسيرها خارج إطار التحذير من استمرار إيران في دبلوماسيتها المنغلقة على التفاوض وفق شروط أمريكية، وصولًا إلى الانطلاق نحو المحاذير النووية، في توقيت تواجه فيه إيران أزمة مياه قد تشكل إحدى أوراق الضغط الأمريكية على المدى القريب.
فمن جديد تعود تصريحات رئيس اتحاد قطاع المياه في إيران، رضا حاجي كريم يوم السبت 8 نوفمبر 2025، لتؤكد أن طهران تواجه أسوأ أزمة مياه في تاريخها، مما يعيد أزمة الجفاف وسوء إدارة الموارد المائية إلى واجهة المشهد السياسي الإيراني. لا سيما أن تداعيات الأزمة المائية برزت بعد حرب الاثني عشر يومًا، وطوقت الدبلوماسية المائية الإيرانية لتتجاوز حدود الإدارة المحلية وتتحول إلى قضية جيوسياسية كبرى.
بناءً على ذلك تكشف تحركات إيران الأخيرة وإجراءاتها الأمنية عن إدراكها أن معضلة الموارد المائية مع أفغانستان، وتركيا، والعراق، وأذربيجان لم تعد قضية بيئية أو إدارية فحسب، بل أصبحت عنصرًا أمنيًا واستراتيجيًا. ويُظهر نهج طهران في هذا الملف استلهامها لتجربة القاهرة في التعامل مع أزمة سد النهضة، إذ تتحول المياه إلى قضية دولية وأمن قومي، وتُستَخدم المفاوضات والضغط السياسي لضمان حماية الحصص الوطنية.
ومع هذا لا يُستبعد في ظل الضغوط الأمريكية المتصاعدة منذ ولاية ترامب الثانية وسياق الحرب مع إسرائيل، أن تستخدم واشنطن الملف المائي للضغط على إيران عبر التأثير على أفغانستان، بغية افتعال أزمة في حصص إيران من نهري هلمند وهريرود، حتى تتحول المياه إلى ورقة تفاوضية على طاولة المفاوضات.
وهكذا تحولت أزمة المياه في إيران إلى أداة استراتيجية تربط بين الداخل والخارج، وبين الأمن القومي والدبلوماسية، لتصبح الأزمة المائية الإيرانية اختبارًا لقدرة حكومة بزشكيان على إدارة الموارد الطبيعية في مواجهة التحديات الداخلية، والإقليمية، والدولية المتزامنة.
خاتمة:
تعكس التطورات الأخيرة في السياسة الأمريكية، من صعود الجناح التقدمي بقيادة زهران ممداني داخل الحزب الديمقراطي إلى تصاعد القلق الجمهوري، والتحولات المستمرة في القواعد الحزبية الحاكمة، وهو ما دفع إيران إلى إعادة قراءة الواقع بغية استثمار هذه التحولات في استراتيجياتها الإقليمية والدبلوماسية، لا سيما في الملفات الحساسة، مثل المياه والملف النووي.
وعليه تتسق العلاقة بين الداخل الأمريكي وردود الفعل الإيرانية مع التغيرات الداخلية، بل وتشكل حلقة مترابطة مع الديناميات الدولية والأمن القومي، حيث يمكن لأي تحرك سياسي أو انتخابي في الولايات المتحدة أن يشكل مؤشرًا حيويًا لاستراتيجيات إيران على المستويين الإقليمي والدولي.