تموج البيئة الدولية المعاصرة في حالة من الصراع، والتنافس على الموارد، والنفوذ، والهيمنة، وفي الوقت نفسه تواجهها تحديات متعددة، وفي ظل هذه الأوضاع المعقدة، برز شكل جديد من أشكال إدارة العلاقات، والصراعات، والمصالح، فقد كان معروفا أن الدول إذا تدهورت علاقاتها، وانساقت نحو حالة من الصراع والحرب، فإن ذلك ينعكس على حالة من القطيعة الشاملة والكاملة بين الطرفين، لكن في عالم اليوم تغير هذا المفهوم، فما كان معهودا في السابق لم يعد كذلك، فأصبحنا نرى الدول تدخل فيما بينها في صراع عنيف في مكان ما وفي الوقت نفسه يلتقون معا على طاولة واحدة، لتفعيل علاقات تعاون، وتبادل مصالح في مكان آخر، وكأن شيئا لم يكن. إن هذا الشكل المتناقض من الصراع، والتعاون في آن واحد لا يحتاج إلى مهارة عالية وفائقة، ربما من الصعوبة بمكان أن توفره الدبلوماسية التقليدية على مهارتها، وكفاءتها في إدارة أزمات كبرى مرت في التاريخ الحديث.
لعلنا لا تذيع سرا بالقول إن الدبلوماسية ممارسة قديمة ضاربة جذورها في أعماق التاريخ وجدت مع بدايات تكوّن المجتمعات البشرية البدائية، وإن حاجة المجتمعات الإنسانية لتأمين متطلبات المعيشة من مأكل، وملبس، وجلب المنافع، ودرء الأخطار جعلها تتجه نحو استخدام القوة، من أجل تحصيل المصالح، وزيادة الموارد، وبسط النفوذ، غير أنها اكتشفت أيضا أنه بالإمكان تحقيق العديد من هذه المصالح والمنافع بطرق أخرى غير استخدام القوة فكانت البدايات الأولى، لممارسة الدبلوماسية بصورها البسيطة من تبادل الهدايا وعقد التحالفات، وكذلك الزواجات الملكية، ونتيجة لتطور حياة المجتمعات الإنسانية وحاجتها إلى تثبيت عوامل الاستقرار وتبادل المنافع بصورة أكثر من حاجتها، الحروب والصراعات استدعت الحاجة إلى تطوير الممارسة الدبلوماسية عن طريق إرسال المبعوثين المؤقتين، ومن ثم الدائمين وإرساء أعراف وقواعد للممارسة الدبلوماسية، وهكذا كلما تطورت حياة المجتمعات الإنسانية وازدادت في تحضرها وعمرانها، كلما أدركت أن تحقيق المصالح بواسطة السلم أفضل لها في البقاء، والاستمرار، والازدهار. وعلى الرغم من ذلك بقيت الحروب والصراعات تعصف بالأمم والحضارات، وتدمر عمرانها المدني، وتقوض دعائم الأمن والاستقرار.
وعند مجيء دولة المسلمين منطلقة من جزيرة العرب لتمتد شرقا وغربا، سعت هذه الدولة الناشئة الى نشر مفاهيم جديدة في العلاقات بين الأمم تقوم على القيم، والمبادئ الإسلامية التي جاء بها القرآن. لكن الطبيعة البشرية غالبة حيث الرغبة في النفوذ، والسلطان تذكي الصراعات وتوقد نار الحروب. وهكذا استمرت الدول تخوض التجارب وتنتج الأفكار والممارسات في إحلال علاقات سلمية، وتثبيت أعراف وتقاليد دبلوماسية. وهكذا توالت الحقب والأزمان حتى جاءت حرب الثلاثين عاما التي انتهت بمعاهدة، ويستفاليا (1648)، لتكون مرحلة فاصلة عما قبلها من التاريخ أُسس ولتضع أسس نظام أممي جديد عرف فيما بعد بـ: (نظام الدولة الحديثة). هذا النظام الذي منح الدولة شخصية معنوية، وقانونية ذات سيادة، تبسط سلطانها على وحدة ترابية ذات حدود جغرافية، ومجتمع إنساني يتفاعل مع بيئته الداخلية والخارجية بعلاقات منظمة يعرف فيها حقوقه وواجباته. إذ نشأ عن هذا النظام تطور واضح في الممارسة الدبلوماسية كان من ثماره ظهور المؤسسة الدبلوماسية، وتخصصها بالعمل الدبلوماسي واحتكارها له، وتطورت العلاقات بين الدول الناشئة بأسلوب علاقات دبلوماسية مؤسسية. ثم ما لبثت أن دخلت الدول الموقعة على معاهدة ويستفاليا في دوامة حروب وصراعات كارثية أهلكت الحرث والنسل ودمرت العمران والبنيان في حربين عالميتين لم تبق ولم تذر، ومن بين ركام هذه الحروب انبثقت فكرة الدبلوماسية المتعددة من أجل وضع حد لحالة الحروب والصراعات، والذي أثمر في نهاية المطاف بوضع الأسس والقواعد لنظام دبلوماسي مؤسسي، ومقنن حدد فيه الحقوق والواجبات، والامتيازات، والحصانات.
ومع كل الجهود الدبلوماسية المبذولة الثنائية والمتعددة من الدول والمنظمات الدولية على حد سواء، إلا أنها لم تنجح في وضع حد للحروب، والنزاعات بين الدول، أو التجمعات البشرية، فبدأت جماعات مدنية تنتظم في منظمات مدنية أخذت على عاتقها إحداث حراك جماهيري، وتكوين رأي عام مستفيدين من وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة، للضغط على صناع القرار السياسي والدبلوماسي وطنيا ودوليا، والمساهمة معهم في إيجاد حلول لمشكلات المجتمع الإنساني عامة، وإنقاذه من مخاطر انتشار الفقر، والأوبئة، وتجارة السلاح، والمخدرات، فأصبحت هذه المنظمات ذات فعل وأثر دبلوماسي لكنها في الوقت نفسه لا تمتلك صفة الدولة، ولا تنتظم في منظومة القوانين الحاكمة للعمل الدبلوماسي الرسمي، فأصبح واقعنا المعاصر مزدحما بالفعل الدبلوماسي، والفاعلين الدبلوماسيين من الدول، والمنظمات الدولية والإقليمية، والفاعلين من غير الدول، وهكذا كلما تقدم الزمن أصبحت البيئة العالمية أكثر تعقيدا وتشابكا.
ومما زاد في تشابكها أكثر ما حصل من تطور في الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الذي انتقل بالدبلوماسية إلى عالم آخر، هو: العالم الافتراضي الذي قرب المسافات بين البشر، وأحدث تغييرات واضحة أثرت بشكل مباشر على تواصل الناس فيما بينهم، وتواصلهم مع المسئولين في بلدانهم، فظهرت الدبلوماسية الرقمية كأداة جديدة لممارسة الدبلوماسية، والتواصل مع الجمهور الأجنبي والمحلي على السواء.
إن هذا التطور التكنولوجي الحديث المتمثل بظهور فضاء الإنترنت أسهم في تقريب المسافات الشاسعة بين الناس، ووفر لهم مساحة مشتركة عابرة للحدود الوطنية يتواصلون عن طريقها فيما بينهم، ومكّن المواطنين من الاطلاع أولا بأول على مجريات الأحداث العالمية متجاوزين الإطار الذي كانت ترسمه لهم وسائل الإعلام المختلفة. هذا التقارب أدى إلى ظهور أنماط جديدة من العلاقات بين المواطنين من مختلف دول العالم، وبين المواطنين وحكوماتهم، وكذلك بين المواطنين وحكومات الدول الأجنبية.
كما أسهم فضاء الإنترنت مساهمة فعالة بظهور مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، مثل الفيسبوك، وتويتر، واليوتيوب، والواتس آب، والتيك توك،وغيرها. إن هذه المنصات يوجد فيها الجميع من الملوك، والقادة،والزعماء، والوزراء، والدبلوماسيون،والمواطنون على حد سواء، ولهم الصوت نفسه. وليس فيها بروتوكولات تمنع المواطن من الوصول إلى الرئيس، والحديث معه مباشرة من دون موعد مسبق ومن دون وقت محدد، وأصبح للمواطن القدرة في التعليق على ما يتكلم به القادة سلبا أو إيجابا. وأصبحت المجتمعات أكثر وعيا، ودراية بما يحصل حولها، بسبب هذا التقارب في المسافات والأزمان، وبسبب هذا التداخل لم يعد العمل الدبلوماسي والسياسة الخارجية مقتصرين على علاقات الدول ببعضها، والتأثير في المجتمعات الأجنبية فقط، بل أصبح لزاما على الدبلوماسيين والسياسيين في قراراتهم وسياساتهم الخارجية، أن يأخذوا بنظر الاعتبار مجتمعاتهم المحلية. حيث أدت مجموع هذه التطورات إلى ظهور نوع جديد من أنواع الدبلوماسية، والذي بات يعرف اليوم بالدبلوماسية الرقمية.
وعود على بدء سردية تطور الدبلوماسية، نجدها تعرضت منذ فجر نشأتها إلى التغيير، والتطور، والتحول في أهدافها، ووسائلها، وطرق إدارتها، وهياكل عملها، وارتبط هذا التغيير على مر التاريخ ارتباطا وثيقا بالتحولات، والتغييرات التي انتابت المجتمع الإنساني في مراحله المختلفة، حيث دائما ما يكون هذا التغيير متعلقا بسيرورة المجتمعات، وتطور نظمها الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، فالتغيير سنة كونية واجتماعية، وحركة المجتمعات الإنسانية سائرة دائما بدون توقف، فمن أبرز صفات الإنسان أنه كائن متغير، وهذه الصفة تنعكس على المجتمع الذي يشكل الإنسان مكونه الأساسى، فالمجتمع الإنساني تنتابه التحولات، والتغيرات، وتتبدل مراحله مرحلة بعد أخرى، وهذه التغيرات الاجتماعية تؤدي إلى ظهور أشكال جديدة في الواقع السياسي، وفي تعدد مصادر الصراع الإنساني وتباينه، وفي نشوء الدول وتطورها وتغير أحوالها، ويمتد هذا التغيير ليشمل الكيفية التي تمثل بها هذه الدول نفسها والأساليب التي عن طريقها تتواصل مع غيرها من الدول. وعلى الرغم من أن هذا التغيير يختلف من ناحية السرعة في ظهوره من مرحلة لأخرى، إلا أنه ساعد على جعل الدبلوماسية ذات طبيعة حركية مبدعة، ولولا هذا التغيير لما وصلت الدبلوماسية إلى ما وصلت إليه اليوم من مستويات عالية من التنظيم، والتنوع في الأهداف، والوسائل، والآليات.
الخلاصة، إن الدبلوماسية ليست مجرد مفاوضات رسمية بين الدول، بل هي فن إدارة تماهي العلاقات الدولية بكل تعقيداتها. إذ تماهى مفهومها التقليدي إلى أشكال متنوعة تشمل الدبلوماسية العامة والرقمية، مما وسع نطاق تأثيرها وسرعة تفاعلها. كما تبقى الدبلوماسية أداة حضارية ضرورية لتجنب الصراعات وتعزيز التعاون الدولي في عالم مضطرب يتسم بالتداخل والتشابك والتحديات المشتركة. فالتماهي اصطلاحا "هو أن يصبح جزءًا منك يشبه من تعجب به أو تخافه أو تحبه" وهذا حال الدبلوماسية عبر العصور.
رابط دائم: