دلالات حفاظ المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر على تصنيف (أ).. مقاربة الإصلاح المؤسسى والاعتراف الدولى
6-11-2025

د. هبة الحسينى
* مدرس العلوم السياسية-كلية اقتصاد وإدارة- جامعة ٦ أكتوبر


يُعدّ تجديد المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر لتصنيفه العالمي عند المستوى (أ)، وفق تقييم التحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان التابع لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، مؤشرًا مهمًا على مدى التقدم الذي أحرزته الدولة المصرية في مسار ترسيخ بنية مؤسسية مستقلة وفاعلة في مجال حماية الحقوق والحريات.
فبعد أن كانت التوصية الصادرة في أكتوبر 2022 تشير إلى احتمالية خفض التصنيف إلى مستوى (ب)، جاء القرار الأخير لعام 2025 ليؤكد نجاح المجلس، والدولة من ورائه، في معالجة الملاحظات السابقة وتلبية المعايير الدولية الخاصة بالاستقلالية والتعددية والفعالية.
يستند هذا التطور إلى ما شهدته الساحة المصرية خلال الأعوام الأخيرة من خطوات تشريعية ومؤسسية بارزة، في مقدمتها تعديل قانون المجلس القومي لحقوق الإنسان رقم 94 لسنة 2003 بما يوسع من صلاحياته ويعزز من استقلاله المالي والإداري، فضلًا عن إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان (2021–2026)، وما رافقها من إصلاحات في منظومة العدالة الجنائية، وتطوير مراكز الإصلاح والتأهيل وفق المعايير الدولية، وتفعيل آليات الحوار الوطني، والعفو الرئاسي، والمراجعة الدورية الشاملة أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف.
ومن هذا المنطلق، يسعى هذا المقال إلى تحليل دلالات هذا الإنجاز المصري من زاويتين مترابطتين:
الأولى – تتعلق بالمعنى المؤسسي والسياسي لتجديد التصنيف في ضوء مبادئ باريس لعام 1993 والمعايير الدولية لاستقلالية مؤسسات حقوق الإنسان.
والثانية – تركز على انعكاسات القرار على مسار الشرعية الدولية لمصر، وعلى سجلها في ملف حقوق الإنسان كجزء من مشروع الدولة الحديثة نحو ترسيخ مفهوم “الشرعية من الداخل”.
ويعتمد المقال في بنائه التحليلي على إطار نظري يُبرز العلاقة بين استقلال المؤسسات الوطنية وشرعية الدولة الحديثة، باعتبار أن فاعلية هذه المؤسسات باتت إحدى ركائز الحكم الرشيد ومؤشرًا أساسيًا في تقييم أداء الدول في النظام الدولي المعاصر.
الإطار النظري: استقلالية المؤسسات الوطنية وشرعية الدولة الحديثة
تُعد المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان أحد أهم مظاهر التحول نحو الحوكمة الديمقراطية في العقود الأخيرة. وقد اعتمدت الأمم المتحدة عام 1993 "مبادئ باريس" التي تُعد المرجعية الدولية الرئيسية لتحديد طبيعة هذه المؤسسات وشروط تصنيفها، من حيث الاستقلالية والتعددية وامتلاكها صلاحيات التحقيق والمتابعة والتفاعل مع المجتمع المدني والدولة على حد سواء.
وقد أنشئ في ضوء هذه المبادئ التحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان(GANHRI) ليكون الجهة المعنية بتصنيف واعتماد هذه المؤسسات دوليًا إلى ثلاث درجات:
التصنيف(A): يُمنح للمؤسسات التي تتوافق كليًا مع مبادئ باريس وتتمتع بالاستقلال والفاعلية الكاملة.
التصنيف(B): للمؤسسات التي تتوافق جزئيًا مع المبادئ.
التصنيف(C): للمؤسسات التي لا تتوافق أو تفتقد الاستقلال اللازم.
ويُعتبر الحفاظ على التصنيف(A) بمثابة شهادة ثقة دولية تتيح للمؤسسة الوطنية المشاركة الكاملة في أعمال مجلس حقوق الإنسان في جنيف، والمداولات الخاصة بالآليات الدولية.
من منظور نظري، يمكن تحليل دلالات هذا التصنيف في ضوء نظرية الشرعية متعددة المستويات في العلوم السياسية، التي تربط بين شرعية الدولة داخليًا (المرتبطة بمدى التزامها بسيادة القانون واحترام الحقوق) وشرعيتها خارجيًا (المتجسدة في اعتراف المجتمع الدولي بها كمُلتزمة بالمعايير الكونية للحكم الرشيد وحقوق الإنسان).
ومن ثم، فإن قدرة الدولة على تعزيز استقلال مؤسساتها الوطنية تمثل أداة لتحقيق التوازن بين السيادة والمسؤولية، أي بين الحفاظ على القرار الوطني والاستجابة للمعايير الدولية.
وبهذا المعنى، لا يُنظر إلى مؤسسات حقوق الإنسان باعتبارها كيانات رقابية فحسب، بل بوصفها جسورًا بين الدولة والمجتمع الدولي، تسهم في إنتاج “شرعية متبادلة” ترفع من مكانة الدولة وتُعزز مصداقيتها في المحافل الأممية.
أولًا- التحالف العالمي للمؤسسات الوطنية ومعايير التصنيف:
يُعد التحالف العالمي(GANHRI) الإطار الأهم لاعتماد وتقييم المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، ويعمل تحت إشراف مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان.
تخضع عملية التقييم لمراجعة دقيقة كل خمس سنوات، تشمل الجوانب القانونية والتنظيمية والوظيفية للمؤسسة.
وفي حالة المجلس القومي لحقوق الإنسان بمصر، كان التحالف قد أوصى في أكتوبر 2022 بخفض تصنيفه إلى(B) استنادًا إلى بعض الملاحظات المتعلقة بآلية اختيار الأعضاء، وتفعيل الصلاحيات، ودرجة الاستقلال المالي.
غير أن مصر استجابت سريعًا لهذه الملاحظات من خلال تعديل القانون رقم 94 لسنة 2003، الذي حدّد بوضوح آليات تشكيل المجلس وضمان ميزانيته المستقلة وتوسيع صلاحياته الرقابية وتمكينه من تلقي الشكاوى والقيام بالزيارات الميدانية لمراكز الإصلاح والتأهيل.
وقد انعكس ذلك بوضوح في التقرير الأخير للتحالف العالمي الصادر في نوفمبر 2025، والذي قرر تجديد تصنيف المجلس المصري عند المستوى(A)، مؤكدًا التزام الدولة بمبادئ باريس والمعايير الدولية ذات الصلة، ومُثنيًا على التعاون بين المجلس والجهات التنفيذية في تعزيز ثقافة حقوق الإنسان ونشر الوعي المجتمعي بها.
ثانيًا- الدلالات المؤسسية والسياسية للقرار:
يحمل تجديد التصنيف(A) دلالات متعددة يمكن قراءتها على مستويين:
1.
على المستوى المؤسسي
يعكس نجاح الدولة في ترسيخ استقلالية المجلس القومي وتعزيز دوره في رصد الانتهاكات وتقديم التوصيات.
يشير إلى فاعلية التشريعات الجديدة، خاصة في ما يتعلق بضمانات المحاكمة العادلة وتحسين أوضاع الاحتجاز وتطوير منظومة الإصلاح والتأهيل.
يعبّر عن انتقال ملف حقوق الإنسان من طور “الإدارة الدفاعية” إلى مرحلة بناء القدرات المؤسسية المستدامة التي تعزز من استقرار الدولة القانوني والسياسي.
2.
على المستوى السياسي والدبلوماسي
يُعزز من رصيد مصر في المنظومة الأممية، ويمنحها صوتًا فاعلًا داخل مجلس حقوق الإنسان.
يساهم في تحسين الصورة الدولية للدولة، وتأكيد جديتها في تنفيذ التزاماتها الطوعية ضمن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان.
كما يعكس نجاح نهج الحوار والانفتاح الذي تبنته مصر مؤخرًا عبر العفو الرئاسي ولجنة الحوار الوطني والمراجعة الدورية الشاملة في جنيف، مما يعيد تعريف علاقتها بالمجتمع الدولي على أسس الاحترام والتعاون بدلًا من الجدل أو الاتهام.
ثالثًا- القرار في سياق تطور سجل حقوق الإنسان المصري:
يتكامل هذا التطور مع مسار أوسع من الإصلاحات التي أطلقتها الدولة المصرية منذ عام 2014، استهدفت إعادة بناء مؤسسات العدالة، وتطوير المنظومة التشريعية، وتعزيز المشاركة المجتمعية.
وتأتي الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان (2021–2026) كإطار مرجعي جامع لكل هذه التحركات، إذ حددت أربعة محاور رئيسية تشمل الحقوق المدنية والسياسية، والاقتصادية والاجتماعية، وحقوق المرأة والطفل وذوي الإعاقة، والتثقيف وبناء القدرات.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن الحفاظ على تصنيف(A) لا يُمثل مجرد نجاح إداري للمجلس القومي، بل يتوّج رؤية سياسية أشمل تهدف إلى توطين حقوق الإنسان في بنية الدولة، وليس فقط في خطابها الخارجي.
ويعكس كذلك أن الدولة المصرية باتت تنظر إلى ملف الحقوق والحريات بوصفه أداة لبناء الثقة الداخلية والخارجية معًا، في إطار مشروع “الجمهورية الجديدة” الذي يربط بين التنمية والعدالة والكرامة الإنسانية.

من الدفاع إلى التأسيس.. التحول المفاهيمي في مقاربة مصر لحقوق الإنسان:
تمثل هذه النقطة اضافة فكرية جديدة ، حيث تتجاوز التحليل المؤسسي إلى رصد التحول المفاهيمي في رؤية الدولة المصرية لحقوق الإنسان خلال العقد الأخير.
إذ لم يعد الخطاب الرسمي ينطلق من موقع الدفاع أو تبرير الموقف أمام التقارير الدولية، بل من موقع التأسيس لمفهوم مصري وطني لحقوق الإنسان، قائم على الدمج بين الكرامة الإنسانية والتنمية المستدامة.
1-تحول المرجعية الخطابية:
شهدت السنوات الأخيرة تغيرًا جوهريًا في اللغة السياسية، حيث انتقل الخطاب من التركيز على “الرد على الانتقادات” إلى “عرض الرؤية المصرية” للإنسان والتنمية. هذا التحول يعكس إدراكًا جديدًا بأن الحقوق لا تُمارس في فراغ، بل داخل منظومة قيمية وثقافية تُشكّلها الدولة والمجتمع معًا.
2-الربط بين الحقوق والتنمية المستدامة:
تُعدّ مبادرة "حياة كريمة" مثالًا حيًا على دمج الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في سياسات الدولة، بوصفها ممارسة فعلية لحق المواطن في مستوى معيشي كريم، وليس مجرد مشروع تنموي.
كذلك الأمر في ملف التعليم، الصحة، دعم الفئات الهشة، وإصلاح المؤسسات العقابية، وهي جميعها عناصر تُترجم فلسفة “الحق في التنمية” إلى واقع ملموس.
3-إعادة تعريف الشرعية الدولية:
قدّمت مصر نموذجًا لما يمكن تسميته بـ الشرعية التفاعلية(Interactive Legitimacy)، أي القبول بالمبادئ الدولية مع إعادة تأويلها بما يتناسب مع الخصوصية الثقافية والقانونية الوطنية.
فهي لا ترفض النقد الدولي، لكنها تضعه في سياق “الشراكة لا الإملاء”، وهو ما ينعكس في علاقتها بالمفوضية السامية لحقوق الإنسان والتحالف العالمي.
4-المجلس كفاعل دبلوماسي داخلي:
تحول المجلس القومي من مجرد جهة رقابية إلى فاعل دبلوماسي داخلي يدير الحوار بين الدولة والمجتمع المدني والهيئات الدولية، وهو نموذج متقدم في بناء الثقة المؤسسية بين الداخل والخارج.
5-تداعيات مستقبلية:
يؤسس هذا التحول لموجة عربية جديدة في الفكر الحقوقي تقوم على تجاوز الثنائية الزائفة بين “حقوق الإنسان” و“استقرار الدولة”، نحو مقاربة تكاملية تُعيد تعريف الأمن القومي باعتباره حاميًا للإنسان لا منافيًا له.
ومن هنا، فإن القيمة الكبرى للحفاظ على تصنيف (أ) لا تكمن في اعتراف التحالف العالمي فحسب، بل في تمكّن مصر من إنتاج نموذجها الخاص في إدارة ملف حقوق الإنسان؛ نموذج يزاوج بين السيادة والمسؤولية، بين الحقوق والتنمية، وبين الإنسان والمجتمع.

ختاما، نحو ترسيخ الشرعية من الداخل ،يُعبّر تجديد تصنيف المجلس القومي لحقوق الإنسان عند المستوى(A) عن تحول نوعي في مسار إدارة ملف حقوق الإنسان في مصر، من منطق الاستجابة للضغوط إلى منطق بناء الشرعية الذاتية عبر الإصلاح المؤسسي.
وهو ما يعكس إدراكًا متزايدًا لدى الدولة بأن الشرعية الدولية تبدأ من الداخل، أي من بناء مؤسسات مستقلة وقادرة على ممارسة دورها الرقابي بشفافية وكفاءة.
كما يشير هذا القرار إلى أن حقوق الإنسان لم تعد مجرد ملف خارجي، بل جزء من عملية تحديث شاملة للدولة المصرية في ظل الجمهورية الجديدة، حيث يتداخل البعد الحقوقي مع الاقتصادي والاجتماعي في مشروع وطني يسعى لتحقيق التنمية المستدامة والكرامة الإنسانية.
إن الحفاظ على هذا التصنيف، في ظل التحديات الإقليمية والدولية الراهنة، يمثل تأكيدًا على أن الشرعية لا تُمنح وإنما تُبنى، وأن مصر تمضي في طريق ترسيخ نموذج متوازن يجمع بين الاستقلال الوطني والانفتاح المؤسسي، ليكون الإنسان – حقًا – في قلب عملية التنمية والتحديث.


 

 


رابط دائم: