يتضح من جولة ترامب الآسيوية والتى شارك خلالها فى المنتدى الاقتصادى لشنجهاى، وأبرم عدد من الاتفاقات الاقتصادية، احتمالات قوية لعودة العلاقات ما بين واشنطن وبكين، عقب حرب تجارية باردة أشعلتها التصريحات قبيل الإجراءات التنفيذية، وربما توفرت الإرادة السياسية الكاملة لدى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لتهدئة الموقف والعودة ناحية التقاربات، وهو الذى اعتاد انتهاج التوازنات فى تعاطيه مع القضايا الأمريكية كافة، سواء الاقتصادية أو السياسية، أو حتى مجمل السياسات الخارجية، ولعل إحكام التسوية الاقتصادية مع بكين، عُدت فى مقدمة دوافع الزيارة.
ويعد المنهج الواقعى، من أبرز مناهج العلاقات الدولية، والتى تعنى بتحليل السياسات الدولية، حيث جاءت الواقعية السياسية كرد فعل على المثالية السياسية، وقد اعتمدت نظرية الواقعية مفاهيم خاصة لفهم تعقيدات السياسة الدولية وتفسير السلوك الخارجي للدول، لعل أبرزها (الدولة، والقوة، والمصلحة، والعقلانية، والفوضى الدولية، والتقليل من دور المنظمات الدولية والاعتماد على الذات، وهاجس الأمن والبقاء)[1] وباتت تلك المفاهيم بمثابة مفاتيح اعتمدتها كل المقاربات الواقعية، وتعد السلطة هى العامل الأكثر أهمية فى العلاقات الدولية فى ضوء الواقعية الجديدة.
معطيات اندلاع الحرب:
تبادل البلدان الارتفاع التدريجى للرسوم الجمركية على الواردات فيما بينهما، عقب سعى أمريكى واضح من قبل ترامب على شن الحرب التجارية تجاه بكين تحديدا، وإبان أبريل بلغ حجم الرسوم الأمريكية على الصين ما يقارب 145%، لترد الصين بفرض رسوم قاربت 125%، بعدها فى مايو اتفقت بكين وواشنطن على خفض الرسوم الجمركية بشكل لما يقارب ثلاثة أشهر، وبموجب نفس الاتفاق تبلغ الرسوم الجمركية والتى تحصل عليها الولايات المتحدة ما يقارب 55%، فى حين تحصل الصين على ما يوازى 10%، وثمة مجموعة من الملاحظات يمكن إدراكها من هذه النوعية من الحروب الاقتصادية بين الكبار، أولها أن مجرد اندلاعها يستهدف الردع الاقتصادي _ إن جاز التعبير_ بالإضافة إلى إحكام الضغط من أجل إبرام صفقات بعينها، وليس كما هو معلن تجاه نتائجها سواء ما تعلق بحجم الأضرار وتراجع المؤشرات الاقتصادية سواء النمو أو الناتج المحلى، أو حتى التأثير فى سلاسل الإمداد والتأثير فى الأسواق العالمية، بدليل أن معظم هذه القرارات التزمت التعليق، ومنها لم تفصل فيها المحكمة الفيدرالية، ثانيا أن ترامب كان له دوافعه فى شن هذه الحرب، حماية للمنتج الوطنى وتعزيز المنافسة الداخلية، ومع ذلك أراد الرئيس الأمريكى إحكام التوازنات، حتى أن الجولة الماليزية هذه استهدف منها بالأساس عودة العلاقات مع الصين، وربما تعمد إبراز مهادنة[2] بكين عبر التصريح قبيل الزيارة بأنه لن يزور تايوان، ورقة الضغط والتى طالما تقاذفتها واشنطن للاحتكاك ببكين، وجميعها محددات يمكن قراءتها فى ضوء الاتهامات المتبادلة أيضا بين الجانبين سواء الاتهامات والتى وُجهت لواشنطن على إثر فرض القيود التمييزية على بكين والمتعلقة باستخدام ضوابط التصدير بقطاع الرقائق، أيضا اتهامات وُجهت للصين على إثر انتهاك الاتفاق التجارى فيما بينهما، إلى جانب تخوفات توفرت لدى الطرفين طالت معظم المجالات الإستراتيجية فيما بينها الذكاء الاصطناعى والبنية التحتية وغيرها من الطاقة والسلع الإستراتيجية، وهو ما برز فى تصريحات السفير الصيني "تُجدد الصين مطالبتها للولايات المتحدة بتصحيح إجراءاتها الخاطئة فوراً، ووقف القيود التمييزية ضد الصين، والالتزام المشترك بالتوافق الذي تم التوصل إليه خلال المحادثات رفيعة المستوى في جنيف"، أيضا قال متحدث باسم وزارة التجارة الصينية إن هذه الإجراءات "تقوض بشكل خطير" الاتفاق الذي تم التوصل إليه في جنيف، فى إشارة إلى اتفاق يونيو الماضى.
القوة الصينية ضمن مبررات عودة التقارب:
بالرغم من أن ترامب أعاد تعريف الخطاب السياسي، ولم يكن طيلة عهديه يجيد الحنكة السياسية، لكنه يعلم جيدا كيفية تحقيق المستهدفات، وعبر هذه النوعية من السياسات المثيرة، وربما الدخيلة على النظام الأمريكي، وما نود الإشارة إليه فى هذا الإطار، هو المقاربات والتى انتهجها الرئيس الأمريكى والمغايرة تماما للمقاربات الأمريكية المتعارف عليها، سواء مهادنة روسيا، أو التصدى للصين، وجعلها المنافس الأهم والأول، في السياق ذاته هو يعلم المقومات وعناصر القوي والمتاحة لبكين، كونها أبرز الفاعلين على الساحة الدولية.
حيث تمتلك الصين عدة من المقومات والركائز، جعلتها تقترب من الانفراد بالمشهد، حتى مع عودة روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، وبروز الولايات المتحدة كقطب أحادى مهيمن، وذلك بناء على قدرات عسكرية، اقتصادية، إلى جانب أيضا استقرار سياسي واضح على خلفية رسوخ الحزب الشيوعى واعتماده القوة السياسية للبلاد، والذى اعتمد الانفتاح الاقتصادى ومنه التصدير كأبرز دعائم النمو للبلاد، والأهم اعتماد القطاعات التكنولوجية والذكاء الاصطناعى ومجالات الطاقة والبنية التحتية، غير أن نهجها تجاه السياسة الخارجية عُد الطفرة بجانب الانفتاح الاقتصادي، حيث تعتمد بكين سياسة خارجية رصينة ومتزنة تستهدف التقارب مع الكبار، مع استفادة من الدول الصاعدة وعبر معاونتها في تحقيق المستويات الاقتصادية المناسبة، أى علاقات تخدم على مستهدفاتها الاقتصادية، والأهم تجنب النزاعات والتزام الحيادية إلى حد معقول، علي سبيل المثال مقاربتها تجاه القضية الفلسطينية، لم تؤيد الحرب إرضاء للمنطقة، ولم تتبني إيقافها فى المجالس الأممية رغبة فى تلاشى واشنطن، غير أن تبني الصين أسس الانفتاح الاقتصادي مع تعزيز الاستثمارات الأجنبية وفتح أسواقها مع دعم القطاع الخاص تحديد القطاع المصرفى، جميعها عوامل شكلت النقلة الحقيقية لبكين ناحية التقدم الاقتصادي الملحوظ عبر تسجيل أعلى نسب نمو وإنتاج ناهيك عن نسب استهلاك تتقدمها فقط الولايات المتحدة،[3] ومن ثم يدرك ترامب جيدا حتمية التهادن المُلح مع بكين فى ضوء عناصر القوة التى تتمتع بها، وفعاليتها ضمن الكبار اللاعبين على المستويين الإقليمي والدولى، أيضا رغبته فى التحرر من المسئوليات تجاه أوروبا، والذى يقع فى التحالف العسكرى معها العبء الأكبر على واشنطن.
احتمالات عودة الخلافات:
على هامش أعمال منتدى التعاون الاقتصادى لدول آسيا والمحيط، اجتمع ترامب ونظيره الصيني شي جين بينج، وسط إرادة سياسية من قبل الطرفين على إحداث التوازنات وتجاوز الخلافات الاقتصادية، وفى ضوء التصريحات المتهادنة من الجانبين، ولأن الخلافات ليست مقتصرة على الجانب الاقتصادي، بل تجاوزته ممتدة إلى النزاعات الإستراتيجية فى البحر الجنوبى أيضا الملف التايوانى، ما يعد ضمن أوراق الضغط والتى طالما وظفتها واشنطن للتضييق على بكين، ودفع تجاه تعطيل العديد من ملفات بينهما، ما برز فى تعمد الصين وإبان فترة بايدن، تعمدت بكين، تعطيل المفاوضات النووية الثقيلة مع الولايات المتحدة، على خلفية الحراك العسكرى المكثف بالجزيرة، والأهم السعى الأمريكى ناحية ترتيب المشهد الأمني فى آسيا ، بما يعزز تواجدها ودعم حلفائها، ما لم تقبل به بكين وترتأى فيه تقويضا لوضعها الجيوساسي، أيضا كثيرا ما عكفت الولايات المتحدة على انتقاد النظام السياسي فى الصين تجاه سلوكه بهونج كونج، والأقليات المسلمة، ما اعتمده الكونجرس والخارجية بشكل دائم فى التقارير والوثائق، وجميعها نقاط خلافية بين الطرفين، بينما توظفها واشنطن وتضغط بها من وقت لآخر، تنتقدها بكين معتبرة هذه السلوكيات بمثابة تدخل واضح فى شئونها الداخلية، وعليه ما تزال احتمالات عودة الخلافات قائمة، وفى ضوء التغيرات الجيوسياسية واختلالات توازنات القوى على المستويين الإقليمي والدولى، سيما أن تصريحات ترامب تجاه الاجتماع الذى جمعه مع نظيره الصيني[4]لم تناقش عدة من المحاور المفصلية فى مقدمتها خطط الصين فى تدبير احتياجاتها من الغاز، حيث تحصل عليه بكين من روسيا، وهو ما لم يلق القبول الأمريكى، أيضا كيفية إنهاء الصراع الروسى- الأوكرانى وسط حسابات استراتيجية مختلفة وتوازنات قوى ليست كما كانت.
المراجع:
[1]https://www.e-ir.info/2018/02/27/introducing-realism-in-international-relations-theory/
[2]https://www.cfr.org/backgrounder/contentious-us-china-trade-relationship
[3]https://strategicspace.nbr.org/positioning-china-power-and-identity/
[4]https://www.cfr.org/timeline/us-china-relations
رابط دائم: