هاجس الأمننة في عصر مخاطر التغير المناخي
4-11-2025

أ.د. على حسين حميد
* جامعة النهرين-العراق

 

تعد الأمننة Securitizationمن المفاهيم الأساسية المتداولة بكثرة في الدراسات الأمنية والعلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وهو ما جعل بعض المختصين يعتبرها نظرية مهيمنة - Mainstreamفي الدراسات الأمنية، ويرجع الفضل بشكل عام في بناء مفهوم ونظرية الأمننة إلى مدرسة كوبنهاجن - Copenhagenللدراسات الأمنية وبشكل خاص إلى الأستاذين أولي ويفر - Ole Wæverوباري بوزان - Barry Buzan، فقد كان لنهاية الحرب الباردة تأثير بالغ على الدراسات الأمنية، حيث أثبتت فشل أو محدودية التصورات التقليدية المتمثلة أساسا في التصور الواقعي المرتكز على أمن الدولة، والذي يتحقق بالقوة العسكرية، ولكن مع بروز تهديدات جديدة صادرة في أغلب الأحيان من داخل الدولة لم تعد القوة العسكرية وحدها تكفي. إذ يرى أنصار هذه النظرية أن الأمننة الناجحة تتضمن شرطين أساسيين هما الخطاب وقبوله الواسع لدى الجمهور، فتصبح قضية ما مسألة أمنية متى ما أمننت من طرف فاعل ما (حكومة، برلمان، أو أي سلطة سياسية أخرى أو حتى قادة الرأي وكبار البيروقراطيين طالما أن لهم القدرة على ممارسة هذا النوع من العمل) عبر الخطاب وكان له القبول الواسع لدى الجمهور، ويرتبط هذا القبول بوجود توليفة من الشروط المساعدة والسياقات الخاصة التي تتضمن شكل فعل الخطاب، موقع ومنزلة الفاعل المؤمن والظروف التاريخية المرتبطة بهذا التهديد، ناهيك عن شرط آخر وهو تحديد التهديدات الفعلية والعمل المستعجل.

    بلا ريب أن تأثير التغير المناخي على الموارد الطبيعية -مقترنًا بالضغط الديموغرافي والاقتصادي والسياسي- يساهم في تقويض قدرة الدول على تلبية احتياجات مواطنيها وتزويدهم بالموارد الأساسية، مثل: الغذاء، والمياه، والطاقة وغيرها، وهو ما يؤدي بدوره إلى هشاشة الدول وتصاعد الصراعات الداخلية التي قد تمتد إلى التسبب في انهيارها، ومن هنا قد يمثل التغير المناخي تحديًا خطيرًا لاستقرار الدول وشرعية الحكومات. ووفقًا لـ "روبرت ماكلمان" من جامعة ويلفريد لورير الكندية فإن "الدول التي تعاني بالفعل من هشاشة سياسية هي أهم مراكز المستقبل المحتملة للعنف المرتبط بالمناخ وأحداث الهجرة القسرية". وتبدو المخاطر أعلى في منطقة الشرق الأوسط، فمن بين الدول العشرين الأعلى تصنيفًا على مؤشر الدول الهشة، نجد اثنتي عشرة دولة في الشرق الأوسط، وجنوب آسيا، وإفريقيا.

وفي سياق تحليل تأثير التغيرات المناخية على استقرار الدول، أشارت دراسة شاملة كانت هي الأولى من نوعها أجراها مجموعة من الباحثين عام ٢٠٠٩، حول العلاقة بين الاحتباس الحراري ومخاطر الصراعات الأهلية في إفريقيا، إلى وجود علاقات تاريخية قوية بين تصاعد الحروب الأهلية والاحترار في إفريقيا، فقد شهدت السنوات التي تشهد معدلات عالية من الاحترار زيادات كبيرة في احتمال نشوب الحروب، ونوّهت الدراسة إلى أنه عندما يقترن ذلك بالتنبؤات التي تم حسابها استنادًا إلى "نموذج المناخ" لاتجاهات درجات الحرارة في المستقبل، تشير هذه الاستجابة التاريخية لدرجة الحرارة إلى ارتفاع بنسبة ٥٤٪ تقريبًا في حالات الصراع المسلح بحلول عام ٢٠٣٠، أو ٣٩٣ ألف حالة وفاة إضافية في الحروب المستقبلية.

 فغالبًا ما تؤدي تأثيرات الاحترار العالمي إلى تغييرات جيوسياسية تبدو تأثيراتها بوضوح في حال حدوثها بالمناطق الهشة، مثل القرن الإفريقي على سبيل المثال، فوفقًا لما تم طرحه من تأثير للتغيرات المناخية على الموارد الطبيعية وما قد تتسبب فيه من تقويض لقدرة الأمم على حكم نفسها، وزيادة فرص النزاعات، فإن النتيجة المحتملة هنا هي تحول هذه المناطق إلى بيئة خصبة للإرهاب، خاصة في ظل حالة انعدام الاستقرار وتصاعد معدلات الفقر. كما يساهم تغير المناخ في زيادة هشاشة الدول، وهو ما تعززه النزاعات المحيطة بالموارد الطبيعية وانعدام الأمن في الحصول على سبل العيش، وفي هذا السياق تتكاثر التنظيمات الإرهابية، ويسهل لها ممارسة نفوذها في ظل البيئات الهشة والمتأثرة بالصراع، حيث لا يصبح للدولة نفوذ وتفتقر إلى الشرعية، وفي بعض الأحيان تحاول التنظيمات الإرهابية سد الفجوة التي خلفتها الدولة من خلال توفير الخدمات الأساسية من أجل الحصول على الشرعية وتأمين الثقة والدعم بين السكان المحليين.

 علاوة على ما تقدمفإن  للتغير المناخ آثارا سلبية متزايدة على سبل العيش في العديد من البلدان والمناطق، على سبيل المثال مع انعدام الأمن الغذائي أو ندرة المياه والأراضي، يصبح السكان أكثر عرضة ليس فقط للتأثيرات المناخية السلبية ولكن أيضًا للتجنيد من قبل التنظيمات الإرهابية التي يمكن أن توفر سبل عيش بديلة وحوافز اقتصادية، وتستجيب للمظالم السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية. ومن هنا فليست هناك صلة مباشرة بين تغير المناخ والعنف والصراع المرتبطين بالتنظيمات الإرهابية أو الفاعلين من غير الدول، بل إن التغيير البيئي والمناخي واسع النطاق قد يساهم في خلق بيئة يمكن أن تزدهر فيها التنظيمات المسلحة وتفتح المجال لها أمام مزيدٍ من التمكن والنفوذ. على سبيل المثال: فَتَحَ تزايدُ معدلات ندرة المياه الناجم عن التغيرات المناخية المجالَ أمام استغلالها كسلاحٍ لدى التنظيمات الإرهابية في الصومال، فقد كشفت دراسة أجراها "ماركوس كينج" في عام ٢٠١٧ بجامعة جورج واشنطن، عن وضوح العلاقة بين المناخ والصراع وتسليح المياه، فنتيجة لما تعرضت له الصومال من جفاف مرتبط بتغير المناخ قام تنظيم "شباب المجاهدين" بتغيير تكتيكاته القتالية التي كانت تعتمد على حروب العصابات، واتجه نحو محاولة عزل المدن المحررة عن مصادر المياه الخاصة بها.

 استنادًا إلى ما سبق من طرحٍ فإن هناك اتفاقًا حول انعكاسات التغيرات المناخية على مستقبل الصراعات في العالم، إلا أن الاختلاف حول حجم هذا التأثير، وقد أشارت دراسة منشورة بمجلة "نايتشر" في 12 يونيو2019، إلى أنه مع ارتفاع درجات الحرارة العالمية، من المتوقع أن يزداد خطر النزاع المسلح زيادةً كبيرةً، حيث توصلت الدراسة إلى أن المناخ قد أثّر على ما بين 3% و20% من النزاعات المسلحة خلال القرن الماضي، ومن المرجّح أن يزداد التأثير بشكل كبير في المستقبل، وطرحت الدراسة عددًا من السيناريوهات المستقبلية حول تداعيات التغيرات المناخية على مستقبل الصراع، مشيرة إلى أنه في حال حدوث سيناريو4 درجات مئوية من الاحترار (وهو تقريبًا المسار الذي نسير عليه حاليًّا إذا لم تخفض المجتمعات بشكل كبير انبعاثات غازات الاحتباس الحراري) فإن تأثير المناخ على النزاعات سيزيد أكثر من خمسة أضعاف. وحتى في السيناريو الذي يبلغ فيه الاحترار درجتين مئويتين (الهدف المعلن لاتفاق باريس للمناخ) فإن تأثير المناخ على النزاعات سوف يزيد بأكثر من الضعف.

في النهاية لم يصل الباحثون حتى الآن إلى فهم شامل لتأثير التغيرات المناخية على الصراع، وظروف وملابسات هذا التأثير، خاصة مع وجود احتمالات تغير طبيعة وشدة تلك التأثيرات المناخية في المستقبل مقارنة بالاضطرابات المناخية التاريخية، ومن هنا ستضطر المجتمعات إلى مواجهة ظروف غير مسبوقة تتجاوز الخبرة المعروفة وما قد تكون قادرة على التكيف معه، وهو ما قد يُعظّم من مخاطر التأثير في المستقبل، ويفرض التزامات على مراكز الفكر ومتخذي القرار حيال وضع رؤية مستقبلية قائمة على خطط وتحركات فورية للحد من التداعيات السلبية للتغيرات المناخية وانعكاساتها على الأمن العالمي.

 


رابط دائم: