مصر فى الاستراتيجية الإيرانية لعام 2025.. فى ضوء نظرية التهديد المتوازن
4-11-2025

د. شيماء المرسي
* الخبيرة فى الدراسات البينية الإيرانية

تستند نظرية التهديد المتوازن(Balance of Threat Theory) التي طرحها ستيفن والت عام 1987، إلى أن التحالفات الدولية لا تُبنى بالضرورة لمواجهة القوى الكبرى، بل لمواجهة التهديدات التي تدركها الدول بالفعل. بمعنى آخر، إن الإدراك الذهني للتهديد غالبًا ما يتجاوز في تأثيره القوة المادية الفعلية ضد صياغات التحالفات. ويحدد والت أربعة عناصر أساسية لتقدير مستوى التهديد:

1- القرب الجغرافي، الذي يجعل التهديد أكثر مباشرة وإلحاحًا.

2- القدرات الإجمالية للدولة، سواء العسكرية، أو الاقتصادية، أو التكنولوجية.

3- القدرات الهجومية، التي تمنح الدولة القدرة على تنفيذ فعل عسكري فعلي.

4- النيات العدوانية المدركة، أي الانطباعات والتصورات التي تكونها الدول الأخرى عن سياسات الدولة ونواياها.

هندسة التحالفات الإيرانية الإقليمية:

تتيح نظرية "التهديد المتوازن" فهم رؤية إيران لسياسات التحالف في الشرق الأوسط،إذ تتجاوز مقاييس القوة التقليدية في تفسير التحالفات الإقليمية. فالكثير من الدول العربية، رغم تفوق القوة العسكرية الإسرائيلية، تميل إلى التعاون مع الغرب وإسرائيل كآلية لمواجهة ما تسميه "الإيرانوفوبيا". ويرجع ذلك في الأساس إلى القرب الجغرافي لإيران، وتدخلها الملحوظ في الشئون الداخلية لبعض الدول العربية، وخطابها العقائدي الذي يحمل أبعادًا توسعية، وهذا كله يولد مخاوف وجودية لدى هذه الدول.

ومع ذلك، ومن منظور نظرية التهديد المتوازن، لا تعتبر إيران نفسها قوة مهددة، بل ترى نفسها محاصرة ومستهدفة. ولهذا تبني تحالفاتها الإقليمية على أسس دفاعية واعتبارات الردع، وليس على توسع عدواني. إذ تدرك إيران أنها محاطة بحزام تهديد، يضم الوجود العسكري الأمريكي في الخليج، والتحالفات العربية مع واشنطن، وعلاقات بعض الدول مع إسرائيل.

وفي هذا الإطار لجأت إيران إلى إقامة تحالفات غير رسمية ومرنة داخل المنطقة (ما يعرف بمحور المقاومة)، سواء عبر سوريا ولبنان (حزب الله) لتأمين عمق استراتيجي يردع إسرائيل غربًا، أو عبر العراق واليمن لتأمين جبهاتها الغربية والجنوبية ومنع تطويقها.كما سعت إلى فتح قنوات اتصال غير عدائية مع دول عربية كبرى، على غرار مصر، لتخفيف الضغوط الدبلوماسية والسياسية عليها.

وبذلك لا تعتمد إيران في تحالفاتها على القوة العسكرية والاقتصادية أو الانتماء الأيديولوجي وحدهما، بل على الإدراك المشترك للتهديد. فهي تتحالف مع الكيانات التي تشاركها شعورًا بتهديد خارجي مشترك، سواء كان مصدره الولايات المتحدة، أو إسرائيل، أو النفوذ الغربي بشكل عام.

متغيرات الهندسة الأمنية للشرق الأوسط:

شهدت منطقة الشرق الأوسط خلال عامي 2024–2025، تحولات جيوسياسية بارزة، أثرت بعمق في سلوك إيران ونمط إدارتها للعلاقات الإقليمية، وذلك في إطار ما تصفه طهران بـ "هندسة التهديدات" وفق نظرية التهديد المتوازن.حيث برزت ثلاثة متغيرات رئيسية أعادت تشكيل حسابات إيران الأمنية، وهي:

أولًا، التحولات في النظام الدولي واشتداد الاستقطاب بين الشرق والغرب –لا سيما أزمة تايوان، والحرب الأوكرانية، وحرب غزة، دفعت إيران إلى تعميق علاقاتها مع روسيا والصين والتقرب من مصر، كضمانة بقاء في مواجهة التحالف الغربي المتجدد.

ثانيًا، العودة الأمريكية إلى سياسة الاحتواء الصارم، مع إعادة نشر قواتها في الخليج والبحر الأحمر، وتفعيل شراكات أمنية مع دول عربية، مثل السعودية، والإمارات، والبحرين، إلى جانب تعزيز التنسيق الاستخباراتي مع إسرائيل.

ثالثًا، الصدام المباشر مع إسرائيل، خاصة بعد عملية الأسد الصاعد يونيو 2025، وسلسلة الهجمات الإسرائيلية والأمريكية على المواقع النفطية والنووية، ثم تفعيل آلية الزناد وإعادة فرض عقوبات مجلس الأمن.

وفي هذا السياق رأت إيران أن البيئة الأمنية لعامي 2024-2025، أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، إذ تواجه من جهة ضغوطًا عسكرية واستخباراتية متزايدة، ومن جهة أخرى، فرصًا جديدة للتقارب مع بعض الدول العربية، خاصة بعد تهدئة العلاقات مع السعودية ومساعي إعادة العلاقات مع مصر.

وبناءً على ذلك أعادت طهران صياغة تحالفاتها وفق مبدأ الردع القابل للبقاء؛ من خلال تشييد بُنى تحت أرضية وغواصات ومنصات متنقلة، واتباع استراتيجيات الغموض والاستخبارات المضادة عبر تضليل وإخفاء القدرات الفعلية، ودمج تدابير الحرب الإلكترونية مع أدوات دبلوماسية واقتصادية مع مصر، وتركيا، والسعودية، كوسيلة لخفض مستوى التهديد الدبلوماسي والعزلة الإقليمية.إلى جانب توسيع محور المقاومة على ساحات متعددة من البحر الأحمر إلى المتوسط.

القطب المصري في التحالفات الإيرانية:

ترى إيران أن مصر قطبٌ مؤثرٌ في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، نظرًا لدورها النشط في ملفات مشتركة، مثل غزة، والعراق، وسوريا، والبحر الأحمر. علاوة على دورها التاريخي كداعم لحقوق الفلسطينيين ووسيط في اتفاقات وقف إطلاق النار في غزة، وتقاطعه الجزئي نسبيًا مع موقف إيران الداعم لفصائل المقاومة في مواجهة إسرائيل.

والعامل الحاسم في هذا السياق، هو ما يعرف بالتأثير الدومينوي –أي قدرة التغير في موقف دولة على إحداث سلسلة من التحولات المتتابعة في الدول الأخرى- بما يشبه سقوط قطعة دومينو تؤدي إلى سقوط بقية القطع. ومن هنا، استهدفت إيران استعادة العلاقات مع القاهرة في سياق التحولات التي شهدتها علاقاتها مع الرياض.

ولهذا حرصت إيران على تعزيز أبعاد التعاون الاقتصادي مع مصر، كونه يشكل المحور الأبرز في خطاب التهدئة الراهن بين البلدين. فمصر من منظور إيران، تواجه أزمة نقدية ناجمة عن الحرب الأوكرانية، ويبلغ عدد سكانها نحو 108 ملايين نسمة حتى أغسطس 2025، وهذا يدفعها إلى تنويع شركائها التجاريين، وتقليل اعتمادها على استيراد الحبوب. بالمقابل يبلغ عدد سكان إيران نحو 85.96 مليون حتى منتصف فبراير 2025، مما يعزز أهمية شراكاتها الإقليمية والدولية، لا سيما مع القاهرة، ضمن نموذج "الاقتصاد المقاوم" في مواجهة العقوبات الأممية.

فاتجهت أنظار طهران نحو قناة السويس، هذا الشريان الحيوي الذي سجل إيرادات بلغت 11.6 مليار جنيه للعام المالي 2024-2025، بزيادة قدرت بـ 38% مقارنة بالعام السابق. حيثتبنت عددًا من وكالات الأنباء الإيرانية الحكومية وعلى رأسها، وكالة أنباء "مهر" شبه الرسمية خطًا تحليلًا، يرى في قناة السويس معبرًا استراتيجيًا، ولوجستيًا، وعسكريًا في حال توسعت عملياتها في البحر الأحمر –خاصة بعد نشاط الحوثيين في باب المندب، بالإضافة إلى تجارة إيران مع إفريقيا وأوروبا. في المقابل يتطلب التعاون الأمني المشترك، حماية أمن هذا الممر من تهديدات الجماعات المتطرفة في شبه جزيرة سيناء.

ويشير الخط التحليلي نفسه إلى جدوى اعتماد آليات بديلة عن الدولار بوساطة روسية-صينية، مثل تبادل السلع أو استخدام العملات الوطنية –لا سيما مع كونهما عضوتين في منظمة البريكس، لما يمكن أن يوفره من قدرة على التكيف مع العقوبات، وتعزيز حجم التجارة الثنائية من المستوى المتواضع البالغ 200 مليون دولار في عام 2023 إلى مستويات أعلى. فعلى سبيل المثال، يمكن لمصر تصدير المنسوجات والأدوية إلى إيران مقابل استيراد المنتجات البتروكيميائية والفنية منها، في صيغة تعاون رابح-رابح.

بالإضافة إلى تعزيز السياحة الدينية أداة استراتيجية، حيث تمتلك مصر مواقع مقدسة مرتبطة برموز شيعية، مثل ضريح أحد أبرز قادة جيش الإمام علي بن أبي طالب في معركتي الجمل وصفين، مالك بن الحارث الأشتر في حي المرج بالقاهرة، وهذا يجعلها وجهة محتملة للسياحة الدينية الإيرانية –رغم التحفظ الأمني المصري الصارم. هذه الخطوة لا تقتصر على العوائد الاقتصادية فحسب، بل تشكل أيضًا جسرًا للتقريب بين المذاهب الإسلامية وتعزيز التفاهم الثقافي والديني.

وعلى مستوى البعد الأمني، تتقاطع مصالح مصر وإيران بشكل لافت في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، فمصر، التي تواجه تهديدات الجماعات المتطرفة على أمن قناة السويس، يمكنها الاستفادة من خبرات إيران في مكافحة تنظيم داعش في العراق وسوريا. وفي المقابل، قد تلعب إيران دور الوسيط لضبط التوترات حول غزة، بما يخدم الأولوية المصرية كجهة رئيسية لرعاية وقف إطلاق النار.كما أن التعاون المشترك في محاربة تنظيمي داعش والقاعدة قد يفتح الطريق لحوارات فنية متقدمة بين البلدين حول الأمن الإقليمي.

خاتمة:

في المحصلة تنظر طهران إلى التموضع الجيواستراتيجي للقاهرة كشريك محتمل يسهم في تعزيز التوازن الإقليمي، ومع ذلك فهي لا تسعى لتحالف مصري شامل، بل إلى تحييد القاهرة من محور الضغط العربي، وتقليل الضغوط السياسية والدبلوماسية عليها. ومن هذا المنطلق تعتبر دوائر صنع القرار الإيرانية أن سياستها الخارجية، المبنية على المصلحة المتبادلة واستراتيجية البقاء، تهدف إلى بناء شبكة أمان إقليمية تحد من شعورها بالعزلة، وفي الوقت نفسه تحول دون نشوء جبهة موحدة قد تهدد أمنها القومي ومصالحها الإقليمية، في ظل التحولات المستمرة في ميزان القوى بين الشرق والغرب.


رابط دائم: