يأتي افتتاح المتحف المصري الكبير في هذا التوقيت ليجسّد لحظةاستثنائية في مسار الدولة المصرية الحديثة، تلك التي نجحت فيأن تجعل من ماضيها قوة ناعمة لصياغة مستقبلها، ومن تراثهاالقديم ركيزةً لرؤيتها التنموية الجديدة. فالمتحف لا يُمثل مجرد صرح ثقافي أو معلم أثري ضخم، بل هو مشروع وطني يعكس فلسفة"الجمهورية الجديدة" القائمة على استعادة مكانة مصر العالمية منخلال توظيف أدوات القوة الحضارية والثقافية، ودمجها في منظومة التنمية الشاملة التي تشمل الإنسان، والهوية، والمكان.
إن هذا الحدث لا يخص الشأن الثقافي وحده، بل يرتبط ارتباطًاوثيقًا بالسياسة والاقتصاد والدبلوماسية العامة، إذ يُقدَّم للعالمبوصفه رسالة سلام إنساني، ودعوة إلى الحوار بين الحضارات،وترجمة عملية لقدرة مصر على إدارة مشاريع معقدة تمزج بين الأصالة والحداثة، وبين الهوية الوطنية والرؤية الكونية.
ومن هذا المنطلق ،لا يمكن قراءة افتتاح المتحف المصرى الكبير بإعتباره حدثاً ثقافياً فقط ، بل بوصفه لحظة رمزية تختزل فلسفة الدولة المصرية فى مرحلة إعادة بناء الذات ، ففي لحظة تاريخية تعيد رسم ملامح التراث المصري على الخريطة العالمية، تم الافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير (GEM) بالأمس، 1 نوفمبر2025، مع بدء الزيارات العامة في 4 نوفمبر، وذلك بعد سنواتطويلة من الانتظار والتأجيلات الناجمة عن تحديات سياسية واقتصادية وإقليمية، بما في ذلك جائحة كوفيد-19 والنزاعات الإقليمية مثل الصراع بين إيران وإسرائيل. هذا المتحف، الذي يُعدأكبر متحف في العالم مخصص للحضارة المصرية القديمة، يقعبجانب أهرامات الجيزة ويضم أكثر من 100,000 قطعة أثرية، منبينها المجموعة الكاملة لتوت عنخ آمون التي تُعرض لأول مرة فيمكان واحد، بالإضافة إلى أكثر من 20,000 قطعة تُعرض للمرةالأولى أمام الجمهور.
وعليه يتجاوز المتحف فى دلالته كونه مجرد مكان لعرض الأثار، ليصبح رمزاً وطنياً جامعاً للنهضة المصرية المعاصرة، يجسداندماج التراث العريق مع الابتكار الحديث، ويعكس رؤية الدولة في بناء الإنسان وتعزيز الوعي الثقافي، بما يتجاوز فكرة الحفاظ علىالماضي إلى إعادة توظيفه كقوة ناعمة تخدم الحاضر والمستقبل.
تعود فكرة إنشاء المتحف إلى التسعينيات من القرن الماضي، حينانتقد وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني المتحف المصري القديمفي ميدان التحرير لكونه محدود المساحة وغير قادر على استيعاب التراث المصري الضخم. تم إطلاق المشروع رسميًا عام 1992 فيعهد الرئيس الأسبق حسني مبارك بهدف توحيد الآثار في موقع واحد يليق بعظمة الحضارة المصرية. بدأ البناء الفعلي عام 2005 بعد وضع حجر الأساس في 2002، واكتمل في 2023 بتكلفة تجاوزت المليار دولار. وقد فازت شركة «هينيغان بنغ» الأيرلنديةبالتصميم المعماري في مسابقة دولية شارك فيها 1557 متسابقًا من 82 دولة. كما أنشئ مركز الترميم عام 2006 وافتُتح في 2010 ليصبح أحد أكبر مراكز الترميم في العالم، ويضم 19 معملًا متخصّصًا في ترميم المومياوات والأخشاب والجداريات والمعادن والأحجار.
يمتد المتحف على مساحة 500,000 متر مربع، منها 167,000 مترمربع مساحة مبنية، ويتميز بتصميم معماري فريد على شكل مثلث مشطوف، تتوازي جدرانه مع أهرامات خوفو ومنقرع، وتُصنع واجهته من حجر الألباستر الشفاف والرخام والزجاج، مزينة بكتاباتهيروغليفية تحمل أسماء الملوك والملكات. يبدأ الزائر رحلته من القاعة الكبرى الممتدة على مساحة 10,000 متر مربع بسقف زجاجي يطل على الأهرامات، حيث يقف تمثال رمسيس الثاني شامخًا بارتفاع11 مترًا ووزن 83 طنًا. ويتوسط المتحف السلم الكبير الذي يمتد على مساحة 6,000 متر مربع وارتفاع 50 مترًا، يضم أكثر من 60 قطعة أثرية ضخمة موزعة على أقسام موضوعية مثل: صورة الملك، بيوت الآلهة، الآلهة والملوك، والقسم الجنائزي.
كما يضم المتحف مركز مؤتمرات على مساحة 40,000 متر مربعيتضمن قاعة رئيسية تسع 1,000 شخص وثلاث قاعات للندواتومسرحًا ثلاثي الأبعاد، إلى جانب متحف للأطفال بمساحة 5,000 متر مربع صُمم بأسلوب تفاعلي لتبسيط التاريخ والهوية الوطنيةللأجيال الجديدة. وتشمل قاعات المعارض المؤقتة 5,000 متر مربع مخصصة للمعارض الدورية، بينما تمتد قاعات توت عنخ آمون علىمساحة 7,500 متر مربع صُممت لمحاكاة القبر الأصلي، مع نظامبيئي دقيق يحافظ على القطع. كما يضم المتحف متحف مراكبخوفو الذي يعرض مركبين شمسيين عمرهما أكثر من 4,600 عام.
تضم المجموعات أكثر من 100,000 قطعة أثرية تغطي العصور ماقبل التاريخ حتى العصر القبطي، منها 24,000 قطعة معروضة في12 قاعة رئيسية مرتبة زمنيًا. وتشمل المجموعة الكاملة لتوت عنخ آمون التي تضم 5,398 قطعة، من أبرزها القناع الذهبي، التوابيت الثلاثة (أحدها من الذهب الخالص بوزن 110 كجم)، العرش الذهبي، الأسلحة، والمجوهرات. كما تحتوي المجموعات على آثارالملكة حتب حرس (أم خوفو) ويويا وتويا (والدا الملكة تيي)، ما يجعل المتحف موسوعة حية لتاريخ مصر الممتد آلاف السنين.
غير أن الدلالة الأعمق لافتتاح المتحف المصري الكبير تتجاوز أبعاده الأثرية والمعمارية؛ فهو يمثل إعلانًا جديدًا عن عودة مصر إلىمركزها الحضاري العالمي، ليس فقط كصاحبة أعظم حضارةإنسانية، بل كدولة قادرة على تحويل تراثها إلى لغة دبلوماسيةوثقافية تخاطب العالم برسالة سلام. فالمتحف، بموقعه وتصميمه ورسالته، يجسد مفهوم “العلامة الوطنية المصرية” بوصفها قوة ناعمة تصنع السلام من خلال الثقافة والمعرفة، ويؤكد أن الجمهورية الجديدة لا تكتفي باستعادة مجد الماضي، بل توظفه في خدمة الحاضر، وترسيخ صورة مصر كـدولة تبني السلام بالوعي، وتصدّره للعالم من قلب حضارتها الخالدة.
ومن هذا المنطلق، يتناول المقال تحليلاً شاملاً لافتتاح المتحفالمصري الكبير بوصفه مشروعًا وطنيًا يجمع بين الأبعاد الحضاريةوالسياسية والدبلوماسية. يبدأ بتسليط الضوء على الدلالات الرمزيةوالسياسية للمتحف في سياق استعادة الهوية الوطنية وبناء القوةالناعمة المصرية، ثم ينتقل إلى تحليل الأبعاد التنموية والدبلوماسية التي تعكسها سياسات الدولة في توظيف التراث كأداة تواصل وتأثير. كما يتناول المقال انعكاسات المتحف على الدور الإقليمي والدولي لمصر، وكيف أسهم في تعزيز صورتها كقوة استقرار وقيادة حضارية في الشرق الأوسط. وأخيرًا، يختتم المقال بتقييم شامل لكيفية دمج مصر بين التاريخ والسياسة في إطار رؤية الدولة الحديثة لصياغة نفوذ ثقافي مستدام.
أولًا: من رمزية التراث إلى سياسة التأثير:المتحف المصرى الكبير نموذجاً للقوة الناعمة المصرية.
القوة الناعمة، كما عرفها جوزيف ناي في كتابه “القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة العالمية”، هي القدرة على التأثير من خلال الجاذبية الثقافية والقيم والسياسات الخارجية بدلاً من القوة العسكرية أو الاقتصادية المباشرة. في سياق مصر، يمثل المتحف المصري الكبير نقلة نوعية في استخدام التراث كأداة لتعزيز هذه القوة، حيث يعيد تعريف ملامح الحضارة المصرية كقوة ناعمة تجمع بين الإبداع التاريخي والابتكار المعاصر، مما يغير النظرة العالمية إلى مصر من دولة تواجه تحديات إلى مركز ثقافي عالمي رائد.
في عصر يتطور فيه مفهوم الثقافة بوصفها أحد أشكال النفوذ الدولى، يدرك القائمون على المتحف دور مصر الرائد في التبادل الثقافي وصياغة الوعى الحضارى العالمى. يعمل المتحف كرمز مركزى للقوة الناعمة بثلاثة أبعاد متكاملة: من ناحية اولى، هو رمز للاستمرارية الحضارية غير المنقطعة، حيث يربط بين العصور القديمة والحاضر من خلال عرض الآثار بأسلوب حديثيجمع بين التكنولوجيا والتراث؛ ومن ناحية ثانية، يعزز "الجاذبية الثقافية" من خلال دمج التقنيات مثل الجولات الافتراضية، العروض الرقمية، والواقع المعزز، مما يجذب الأجيال الشابة والجمهور الدولي الذي يبحث عن تجارب تفاعلية؛ ومن ناحية ثالثة، يسهم في بناء صورة إيجابية لمصر كدولة متقدمة قادرة على إدارة تراثها العالمي بكفاءة، خاصة مع شهادة EDGE البيئية التي تبرز التزامها بالاستدامة فى استهلاك الطاقة والمياه، وهو ما يعكس وعياً مصرياً متقدماً بأبعاد القوة الناعمة الحديثة التى تجمع بين الثقافة والبيئة والتنمية المستدامة.
تاريخياً، استخدمت مصر تراثها كأداة للقوة الناعمة منذ عهد محمد علي باشا، الذي أهدى آثاراً إلى دول أوروبية لتعزيز العلاقات الدبلوماسية. اليوم، يعزز المتحف هذا الدور من خلال شراكات دولية في الترميم، مثل التعاون مع اليابان وألمانيا في مركز الترميم، مما يجعله منصة للحوار بين الحضارات. على سبيل المثال، نقل مجموعة توت عنخ آمون الكاملة إلى قاعات مصممة خصيصاً يعيد إحياء قصة اكتشاف القبر في 1922 بواسطة هوارد كارتر، مما يجذب الاهتمام العالمي ويعزز صورة مصر كحارسة للتاريخ البشري.
بالإضافة إلى ذلك، يساهم المتحف في تغيير الوعي العالمي بمصر. بدلاً من التركيز على الصراعات الإقليمية، يبرز المتحف مصر كمصدر للإلهام والإبداع، مما يعزز الدبلوماسية الثقافية. في المنتديات الدولية مثل الاتحاد الأفريقي أو الجامعة العربية، يمكن لمصر استخدام المتحف لتعزيز حضورها، خاصة مع استضافة مؤتمرات في مركزه الذي يتسع لآلاف الزوار. هذا الافتتاح يأتي في وقت يشهد فيه العالم تحولات جيوسياسية، حيث يمكن للقوة الناعمة أن تكون أداة للاستقرار، كما في حالة المتاحف العالمية مثل اللوفر أو البريطاني التي تعزز نفوذ دولها.
ومن الناحية الاجتماعية، يعزز المتحف الوعي الوطني بين المصريين، خاصة الأجيال الشابة، من خلال برامج تعليمية في متحف الأطفال الذي يستخدم الواقع الافتراضي لشرح التاريخ، مما يبني هوية ثقافية قوية. كما أن دعوة قادة العالم لحفل الافتتاح تمثل بعداً دبلوماسياً جديداً يدمج بين الثقافة والسياسة ويؤكد مكانة مصر كقوة سلام وتواصل حضارى. هذا النهج يجعل المتحف ليس مجرد مخزن للآثار، بل أداة استراتيجية لتعزيز النفوذ الناعم، حيث يتوقع جذب 5 ملايين زائر سنوياً، مما ينشر القيم المصرية عالمياً.
واقعيًا، إن افتتاح المتحف المصري الكبير يتجاوز كونه مشروعًا ثقافيًا ليصبح أداة استراتيجية في السياسة الخارجية المصرية،تعكس رؤية “الجمهورية الجديدة” في توظيف التراث والهوية لبناء نفوذ مستدام وتعزيز الصورة الدولية لمصر كدولة تجمع بين الأصالة والتحديث. وبهذا، يتحول المتحف إلى أحد أبرز رموز القوة الناعمة في الشرق الأوسط، مؤكدًا أن مصر لا تصنع التاريخ فقط، بل تعيد تقديمه للعالم كقوة حضارية قادرة على التأثير وصياغة الوعي العالمي
ثانيًا: من الجذب الثقافى الى الدبلوماسية السياحية.. دلالات افتتاح المتحف المصرى الكبير.
يُتوقع أن يُشكّل افتتاح المتحف المصري الكبير دفعة نوعية قويةلقطاع السياحة في مصر، باعتباره أحد الأعمدة الرئيسة للاقتصادالوطني، حيث ساهم هذا القطاع بنسبة 8.5% من الناتج المحليالإجمالي عام 2024، ووفّر أكثر من 2.7 مليون فرصة عمل. وقدصُمم المتحف لاستقبال ما بين 5 إلى 8 ملايين زائر سنويًا، بمايجعله وجهة سياحية عالمية رئيسية تُكمل المثلث الذهبي للسياحة فيالجيزة إلى جانب الأهرامات وأبو الهول. ويكتسب هذا الأثر زخمًاإضافيًا مع زيادة عدد السياح الوافدين إلى مصر الذي بلغ 18 مليون سائح في عام 2025، وهو أعلى معدل خلال العقد الأخير.
ومع إطلاق الموقع الإلكتروني الرسمي للحجوزات والجولاتالافتراضية في 24 أكتوبر 2025، أصبح الترويج السياحي أكثركفاءة واحترافية، حيث يتيح للسائحين من مختلف دول العالم التخطيط المسبق لزياراتهم، بما يسهم في تقليل الازدحام وتعزيزجودة التجربة السياحية.
تنعكس هذه التطورات إيجابيًا على تعزيز مفهوم السياحةالمستدامة، إذ يشجع المتحف الزائرين على قضاء فترات أطولتجمع بين الثقافة والترفيه، من خلال ما يضمه من مرافق متكاملة مثل المطاعم، المحال التجارية، المساحات التعليمية، والحدائقالخارجية المزروعة بـ"نخيل التاريخ". هذه البيئة التفاعلية ترفع متوسط الإنفاق السياحي بنسبة قد تصل إلى 20% لكل زائر، مايُعزز العائد الاقتصادي المباشر وغير المباشر.
ويأتي الافتتاح متزامنًا مع حملات ترويجية دولية كبرى، تتضمن دعوة قادة العالم والمشاهير لحفل الافتتاح الذي سيحضره ملك وملكة إسبانيا، الأمر الذي يعزز الصورة العالمية لمصر كـ"وجهة سياحية آمنة ومتنوعة"، خصوصًا في ظل التحسينات الكبيرة التي شهدتها منطقة الأهرامات من حيث إزالة الباعة الجائلين، تطويرالبنية التحتية، وتحسين الطرق المؤدية إليها.
إقليميًا، يُتوقع أن يجذب المتحف أعدادًا متزايدة من السياحالعرب، خاصة من السعودية والإمارات، عبر تصميم حزم سياحية متكاملة تربط المتحف بمناطق الجذب الأخرى مثل الأقصر، أسوان،وسيناء. كما يسهم التركيز على السياحة الثقافية والفنية في تنويع المنتج السياحي المصري بعيدًا عن السياحة الشاطئية التقليدية،مما يعزز مكانة مصر كـ"عاصمة التاريخ الإنساني".
ويُعزز هذا الاتجاه ما يتضمنه المتحف من برامج تفاعلية مثل متحفالأطفال، والمسرح ثلاثي الأبعاد، التي تدمج التعليم بالترفيه وتُخاطب مختلف الفئات العمرية. كذلك، يُعد حصول المتحف علىشهادة EDGE البيئية تتويجًا لالتزام مصر بمعايير السياحة الخضراء، مما يجذب السياح البيئيين المهتمين بالوجهات المستدامة.
أما من المنظور الرقمي، فقد أصبح الترويج السياحي أكثر عمقًا بفضل الموقع الإلكتروني والجولات الافتراضية، التي تتيح لملايينالمستخدمين حول العالم استكشاف المتحف رقميًا قبل الزيارة الفعلية، بما يُولّد اهتمامًا متزايدًا بالزيارة الواقعية. وتُسهم المنشورات المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي، خصوصًا(على منصة X تويتر سابقًا)، في بناء حالة من التشويق والانتظارالعالمي، مع تحقيق ملايين المشاهدات والتفاعلات التي تُبرز جاذبيةالحدث.ويُلاحظ أن هذا التنويع في أدوات الترويج يُسهم في تجاوزالتحديات الإقليمية مثل النزاعات أو الأزمات الجيوسياسية، منخلال إعادة توجيه الاهتمام العالمي نحو الوجه المشرق لمصر الثقافيةوالحضارية.
وفي المحصلة، فإن المتحف المصري الكبير لا يمثل مجرد مشروع ثقافي أو معماري ضخم، بل هو محور لإعادة تشكيل خريطة السياحة المصرية، بتحويل الجيزة إلى منطقة سياحية متكاملة تجمع بين الأصالة والحداثة، وتُعزز من الإيرادات القومية والاستدامةالسياحية على المدى الطويل.
ثالثًا: المتحف كمحرك اقتصادى للدولة المصرية.
من منظور الاقتصاد السياسي للتنمية، يُمثل المتحف المصريالكبير نموذجًا فريدًا لمشروع ثقافي ذي عائد اقتصادي مستدام، يجمع بين الحفاظ على التراث وتعزيز النمو. يُتوقع أن يولد المتحف مكاسب اقتصادية هائلة، حيث ارتفعت الإيرادات السياحية بنسبة9 % إلى 15.3 مليار دولار في عام 2024، مع توقع زيادة أكبرتصل إلى 17.1 مليار دولار في 2025 مع الافتتاح الكامل، وصولاًإلى نحو 19 مليار دولار بحلول 2029.
المتحف يخلق فرص عمل مباشرة في مجالات الإدارة والصيانةوالإرشاد السياحي، بالإضافة إلى فرص غير مباشرة في قطاعات الضيافة، النقل، والتجارة، بما يعزز سوق العمل الوطني ويدعم آلاف الوظائف في منطقة الهرم الاقتصادية.
من خلال صندوق الوقف الثقافي، يمتلك المتحف آلية تمويل مبتكرة،حيث يمكنه إصدار سندات إيرادات تضمن تدفقًا ماليًا مستدامًا،خاصة مع نظام التذاكر الذي يبدأ من 1,000 جنيه مصري للزوارالأجانب. كما تسهم الكفاءة البيئية في تقليل التكاليف التشغيليةعبر خفض استهلاك الطاقة والمياه بنسب كبيرة، مما يجعله نموذجًا للاستثمار المستدام وللاستقلال المالي عن الموازنات الحكوميةالتقليدية.
اقتصاديًا، لا يُعد المتحف مجرد مصدر لإيرادات سياحية، بل أداةلإعادة تشكيل هيكل الناتج المحلي عبر توسيع مساهمة الاقتصاد الإبداعي في النمو الوطني، وجذب الاستثمارات الأجنبية في مجالي السياحة والثقافة، بما في ذلك شراكات مع شركات دولية فيالترميم والإدارة، وهو ما يعزز النمو الشامل ويُقلل الاعتماد على القطاعات التقليدية مثل الغاز والتصدير.
في المنطقة المحيطة، يُتوقع أن يحوّل المتحف محافظة الجيزة إلىمنطقة اقتصادية–سياحية متكاملة، مع زيادة في الإيرادات الناتجةعن الفنادق والمطاعم، حيث يُقدّر أن يرتفع الإنفاق السياحي بنسبة تتراوح بين 15 و20% بفضل الزيارات الطويلة. كما يدعم المتحفالاقتصاد المحلي من خلال تشجيع عرض وبيع المنتجات المصريةداخل محلاته، بما يعزز الصناعات الحرفية ويعيد إحياء القيمةالاقتصادية للتراث اليدوي المصري.
وعليه، يُمثل المتحف المصري الكبير ليس فقط رمزًا للنهضة الثقافية الحديثة، بل أداة استراتيجية لتحقيق النمو المتوازن والمستدام،وتعزيز مكانة مصر كقوة اقتصادية–حضارية قادرة على توظيف تراثها في خدمة استقرارها وتنميتها الاقتصادية.
رابعًا: تفعيل العلامة الوطنية المصرية في صناعة السلام
سياسيًا، يُعد افتتاح المتحف المصري الكبير (GEM) تحولًااستراتيجيًا يعزز من فاعلية الدور السياسي والدبلوماسي لمصرعلى المستويين الداخلي والخارجي. تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي يرأس مجلس أمناء المتحف، يُمثل المشروع إنجازًاوطنيًا ضخمًا يعكس الاستقرار السياسي والتقدم الثقافي، ويعززالصورة الإيجابية لمصر كدولة حديثة قادرة على إدارة تراثها العالميبكفاءة واقتدار. فالمتحف لا يُعد مجرد منشأة ثقافية أو أثرية، بل يُمثل أداة دبلوماسية فعالة تُسهم في بناء الجسور مع العالم، منخلال استضافة القادة والزعماء في حفل الافتتاح الرسمي في 1 نوفمبر 2025، بحضور ملك وملكة إسبانيا، مما يفتح آفاق الحوارالسياسي والشراكات الدولية في مجالات الاقتصاد والأمن والثقافة.
يتزامن هذا الافتتاح مع تحولات جيوسياسية إقليمية كبرى فيالشرق الأوسط، حيث يمكن للمتحف أن يلعب دورًا في تهدئة الصراعات من خلال ترسيخ قيم الحوار الثقافي والانفتاح، علىغرار ما حدث في فعاليات سابقة مثل عرض مجموعة توت عنخآمون، التي جذبت اهتمامًا عالميًا وفتحت قنوات دبلوماسية جديدة مع عدد من الدول.
يمكن فهم هذا الدور في إطار نظريات السياسة الدولية، وبخاصةمفهوم "القوة الناعمة" الذي وضع أسسه جوزيف ناي (Joseph Nye) في كتابه “القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسةالعالمية” (2004)، حيث تُعرَّف بأنها قدرة الدولة على التأثير في الآخرين عبر الجاذبية الثقافية والقيم والسياسات الخارجية، بدلاً من الإكراه أو القوة العسكرية. وفقًا لهذا المفهوم، يصبح المتحف المصري الكبير أداة حقيقية للقوة الناعمة، فهو يعرض أكثر من100,000 قطعة أثرية فريدة، بينها المجموعة الكاملة لتوت عنخ آمون، فيرسّخ صورة مصر كحارسة للحضارة الإنسانية، ويُعزز مكانتها الدولية في المفاوضات والحوارات حول قضايا حيوية مثل الأمن المائي والسلام الإقليمي.
كما يؤكد ناي في كتابه اللاحق “المستقبل للقوة” (2011) أن القوةالناعمة أصبحت من أدوات القرن الحادي والعشرين في بناء مايسميه “القوة الذكية” (Smart Power)، أي المزج بين الجاذبية الثقافية والقوة الصلبة لتحقيق الأهداف الوطنية بتكلفة أقل وفعالية أكبر. وكما استخدمت الولايات المتحدة هوليوود وجامعاتها كأذرع للقوة الناعمة، تستخدم مصر تراثها الحضاري العريق — ممثلًا في المتحف — كمنصة لبناء النفوذ الثقافي، وجذب الزوار والدبلوماسيين والعلماء من مختلف أنحاء العالم. وتلعب الجولات الافتراضية التي يقدمها المتحف دورًا موازيًا في نشر الصورة الإيجابية لمصر عالميًا، بما يتسق مع تطور القوة الناعمة عبر الفضاء الرقمي.
ويتقاطع هذا المنظور مع نظرية “الدبلوماسية الثقافية” (Cultural Diplomacy)، التي عرفها ميلتون كامينغز (Milton C. Cummings Jr.) في دراسته الشهيرة “Cultural Diplomacy and the United States Government” (2003) بأنها “تبادل للأفكار والفنون والمعلومات لتعزيز التفاهم المتبادل بين الشعوب”. كما قدّم باحثون مثل جي بي سينغ (J.P. Singh) ويوديشتير راجإيسار (Yudhishthir Raj Isar) ونيكولاس كول (Nicholas J. Cull) تحليلات معمّقة تُبرز كيف تُوظَّف الثقافة في السياسةالخارجية لتشكيل الرأي العام العالمي.
في هذا السياق، يكتسب المتحف المصري الكبير بعدًا دبلوماسيًاواضحًا؛ فهو ليس فقط مشروعًا حضاريًا، بل منصة للتفاعلالثقافي والحوار بين الشعوب. فقد أطلق المتحف سلسلة “GEM Talks” التي تجمع خبراء وفنانين ومفكرين من دول مختلفة لمناقشة قضايا التراث والهوية، ما يعكس الدور المصري في ترسيخ التفاهم الدولي. وبهذا يواصل المصريون إرث أجدادهم، الذين أسسوا منذ آلاف السنين مبادئ “الدبلوماسية الثقافية” من خلال التبادل الحضاري مع الشعوب المجاورة.
ويؤكد هذا الاتجاه ما طرحته اليونسكو حول “الثقافة كركيزة للسلام والتنمية المستدامة”، حيث تُعد الثقافة جسرًا لتقريب الشعوب وتعزيزالتماسك الاجتماعي. فالمتحف، من خلال عرضه لتاريخ الحضارة المصرية الممتدة عبر العصور، يقدم نموذجًا لـ“ثقافة السلام”، التيتقوم على احترام التنوع الثقافي وتشجيع الحوار بين الحضارات. وهذا ينسجم مع مبادرات دولية مثل “زراعة ثقافة السلام” التي أطلقتها الأمم المتحدة عام 1999، والتي أكدت أن السلام الحقيقي لا يتحقق فقط بالاتفاقات السياسية، بل أيضًا من خلال ترسيخ القيم الثقافية والإنسانية المشتركة.
وتُظهر تجارب تاريخية متعددة الدور المحوري للثقافة في بناء السلام، مثل مؤتمر باندونغ عام 1955 الذي أسس لحركة عدم الانحياز عبر التعاون الثقافي، و“دبلوماسية البينغ بونغ” بين الصين والولايات المتحدة عام 1971 التي استخدمت الرياضة كجسرللانفتاح السياسي، وبرامج اليونسكو لإعادة الإعمار الثقافي بعدالحروب. في ضوء ذلك، يُمكن اعتبار المتحف المصري الكبيرتجسيدًا معاصرًا لهذه النماذج، حيث يربط بين الماضي العريق والرؤية الحديثة لصناعة السلام عبر الثقافة.
وتتجلى القوة الناعمة المصرية اليوم في نجاحات ملموسة مثل فوز الدكتور خالد العناني، وزير السياحة والآثار الأسبق، بمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو في أكتوبر 2025، بعد حصوله على55 صوتًا من أصل 57 في المجلس التنفيذي، بدعم عربي وأفريقي واسع. هذا الحدث يُعد تتويجًا لدور مصر في قيادة الجهود الثقافية العالمية، ويؤكد أن المتحف كان أحد أدوات ترسيخ مكانتها علىالساحة الدولية. فمثل هذه المناصب، وفقًا لجوزيف ناي، تُعد“مولدات للقوة الناعمة”، إذ تمنح الدول قدرة على التأثير في صياغة الأجندات الدولية بعيدًا عن أدوات الصراع التقليدية.
على الصعيد الداخلي، يُسهم المتحف في تعزيز الهوية الوطنية المصرية وبناء شعور بالفخر والانتماء، ما يدعم التماسك الاجتماعيويقوي الموقف السياسي الخارجي. فوفقًا لنظريات “سياسات التمثيل في المتاحف”، تُعتبر المتاحف مؤسسات أيديولوجية تساهم في صياغة الوعي الجمعي ورواية الدولة عن نفسها. وقد رُتّب عرض المتحف زمنيًا من عصور ما قبل التاريخ حتى العصر القبطي، في سردية تعكس استمرارية الحضارة المصرية وتنوّعها، وتُبرزها كنموذج للوحدة الثقافية رغم اختلاف الأزمنة.
كما يُعد المتحف منصة سياسية وثقافية في آن واحد، إذ يضم مركز مؤتمرات يتسع لألف شخص، يُستخدم للفعاليات الدبلوماسية والمنتديات الإقليمية، مما يعزز مكانة مصر في المؤسسات الدولية كالاتحاد الأفريقي والجامعة العربية. ويعكس ذلك تطبيقًا عمليًا لمايُعرف بـ “نظرية التغيير” (Theory of Change) في المتاحف،التي تفسر كيف تُسهم الأنشطة الثقافية في إحداث تحولاتمجتمعية وسياسية طويلة الأمد.
ومن خلال شراكاته الدولية في الترميم والتعاون العلمي مع دول مثلاليابان وألمانيا، يصبح المتحف المصري الكبير نموذجًا للمسؤولية الثقافية العالمية، وأداة لمساءلة الدول حول قضايا استرداد الآثار، مما يمنح مصر وزنًا متزايدًا في المفاوضات.
ختاماً، يُمثل المتحف المصري الكبير نموذجًا متكاملًا لتفعيل القوةالشاملة للدولة المصرية، التي تجمع بين الرؤية الحضارية والاقتصادية والسياسية في آنٍ واحد. فمن خلال ما يوفره من دفعة قوية لقطاع السياحة، وإسهامه في تنويع مصادر الدخل القومي، وتعزيز فرص العمل، يتحول المتحف إلى رافعة تنموية تدعم أهداف الدولة في تحقيق الاستدامة. وعلى المستوى السياسي والدبلوماسي، يُجسّد المتحف أحد أبرز تجليات “القوة الناعمةالمصرية”، حيث يربط بين الهوية الثقافية والدبلوماسية الدولية، مستفيدًا من خبرات نظرية مثل تلك التي طرحها جوزيف ناي حول تأثير الثقافة في توسيع النفوذ السياسي، وما تعكسه التجربة المصرية الحديثة من حضور عالمي فعّال، تُوج بفوز الدكتور خالد العناني برئاسة منظمة اليونيسكو في أكتوبر 2025.ويُعد المتحف أيضًا مثالًا حيًا على مفهوم القوة الذكية (Smart Power)، الذي يدمج بين القوة الناعمة والقوة الصلبة لتحقيق أهداف استراتيجية بأعلى كفاءة وأقل تكلفة. فالمتحف لا يقتصر دوره على الجذب الثقافي والدبلوماسي، بل يُسهم أيضًا في تعزيز الاقتصاد والسياحة، ويدعم استقرار الدولة داخليًا، ويرسخ مكانة مصرإقليميًا ودوليًا. بهذا، يصبح المشروع منصة متكاملة تجمع بين التأثير الرمزي والسياسي والاقتصادي، مما يعكس قدرة مصر على استخدام أدوات متعددة في الوقت نفسه لبناء نفوذ شامل ومستدام.
إن المتحف المصري الكبير لا يُعيد فقط قراءة التاريخ، بل يفتحصفحة جديدة في حاضر مصر ومستقبلها، مؤكّدًا أن الثقافة يمكنأن تكون أداة للسلام، وأن التراث حين يُدار بوعي واحتراف، يصبح جزءًا من استراتيجية الدولة لبناء القوة والاستقرار في عالم مضطرب..
وبذلك، لا يبدو افتتاح المتحف المصري الكبير مجرد حدث ثقافي فريد، بل يمثل لحظة وعي جماعي تستعيد فيها مصر رسالتها الحضارية في بناء الإنسان وصون هويته، تمامًا كما صانت آثارها عبر آلاف السنين. فالمتحف ليس مجرد جدران تحتضن الماضي، بلمنصة تُطل منها الدولة المصرية على العالم برؤية جديدة للحداثة المتجذرة في الأصالة، تؤكد أن القوة الحقيقية لمصر كانت وستظلفي قدرتها على الجمع بين التاريخ والعصر، بين الثبات والتجدد، وبين الذاكرة والمستقبل
نقلا عن جريدة الجمهورية، 2 نوفمبر 2025.
رابط دائم: